عن الشاعر وتجـربته

محاولة لاكتشاف عزلة الملكات

علوي الهاشمي - البحرين

لم أجد صعوبة في رصد تجربة شاعر من شعراء البحرين المعاصرين، كالتي أجدها عادة مع تجربة قاسم حداد.
فهي تجربة ممتدة زمنياً على مدى عشرين عاماً. وهي التجربة الفردية الوحيدة التي اتصلت وتطورت وتنوعت واغتنت وتراكمت لتكون حصيلتها عشر مجموعات شعرية، أولها البشارة (1970) وآخرها عزلة الملكات (1085). وبين البشارة والعزلة رحلة مضنية مريرة توجز تجربة الحداثة الشعرية في البحرين دون أي تزيد وأدنى مبالغة.
وهذا ما يجعل الحديث عن قاسم حديثاً لا عن التجربة الشعرية الجديدة في البحرين ومنطقة الخليج عامة فحسب، بل عن مواطن الحيوية والنبض والتطور، والوعورة في تخوم هذه التجربة العريضة بشكل خاص. ولذلك يمكن اعتبار تجربة قاسم رأس حربة الحداثة الشعرية في المنطقة. ومن هنا أهميتها وخطورتها. ومن هنا أيضاً تصدر المسئولية النقدية التي تتصدى لهذه التجربة أو تزعم ذلك، كما هو الحال معنا في هذه الوقفة. رغم أنني لا أسمي ما سأقوله الآن نقداً، لأسباب تتصل بطبيعة ما يتطلب المقام الكلامي من تعميم واختصار وخفة. لذلك سيكون التنظير المجرد طابع هذه الوقفة، والملاحظات الانطباعية سيد الموقف بلا منازع. إلا أنني أذكر بكوني لا أصدر في هذه أو ذاك عن براءة تامة أو ذاكرة مهمشة على مستوى البحث في شئون تجربة الشعر المعاصر في البحرين وشجونها، كما تعرفون.
وسأقسم هذه الملاحظات الانطباعية النظرية إلى ثلاثة أقسام يتصل أولها بأبرز الظواهر الفنية المميزة في تجربة قاسم العامة.. ويتصل ثانيها بتجربة قصيدة النثر التي توجها الشاعر بمجموعة عزلة الملكات. ويتصل القسم الثالث من هذه الوقفة بالعزلة نفسها. ولا يخفى ما في هذه الأقسام من تدرج في المسار من العام إلى الخاص ومن السطح إلى العمق ومن النظر إلى التحليل.

أولاً : أبرز الظواهر الفنية المميزة في تجربة الشاعر العامة
إن أبرز ما يواجه متصفح تجربة قاسم من ظواهر عبر مجموعاته الشعرية التسع وهي على التوالي : 1970، الخروج 1972، الدم الثاني 1976، القيامة 1980، قلب الحب 1980، انتماءات 1982، شظايا 1983، يمشي مخفوراً بالوعول (تحت الطبع)، عزلة الملكات 1985)، قصائده المتفرقة التي لم يجمعها في مجموعة أو كتاب ونخص بالذكر قصيدتي (النهروان) و(الوردة الرصاصية)، ظاهرة لافتة للانتباه يمكن تسميتها بظاهرة "حرق المراحل"، إذا أجزنا لأنفسنا استخدام المصطلح السياسي الشائع في السنوات الأخيرة.

وتتلخص أعراض هذه الظاهرة ومشخصاتها في صعوبة إيجاد البنية المشتركة التي تؤطر تجربة الشاعر على مدى عشرين عاماً، وصعوبة البحث عن خيط مكشوف واضح يمتد بين أي من المجموعات الشعرية المذكورة، بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك في شيء من المبالغة والنزوع نحو التعميم، لسحب ذلك الحكم (حرق المراحل) على النصوص الشعرية المفردة، الأمر الذي يدفع قارئ أي نص شعري لقاسم إلى الإحساس بأنه يقرأ الشاعر للمرة الأولى. إن نص قاسم دائماً طازج طري متجدد كأن صاحبه حية الشعر وكأن تجربته كتاب الفصول. ولكن كيف يتم ذلك عملياً ؟ وما يعني أخيراً ؟

أما كيف يتم ذلك فأمر يصعب بسطه الآن بعد أن تتبعته وكابدته في عشرات الصفحات إن لم أقل في مئات الصفحات وخلال أكثر من دراسة وبحث. إلا أنه يمكن لتلخيصه في النقاط التالية التي تكشف عن مستويات التحول ومفاصله الأساسية في تجربة قاسم الشعرية :

  • تحول في المضامين الشعرية والموضوعات
  • تحول في البنية الإيقاعية
  • تحول في اللغة الفنية
  • تحول في نصانية النص أو بنائه الهيكلي العام.

ونكتفي، هنا، بالتعرض لمستوى التحول الأخير، باعتباره المستوى الاطاري الجامع لصورة التحولات الأخرى ومستوياتها الداخلية الجزئية، إضافة إلى أنني سألامس المستويات الأخرى أو أعرض لها من زوايا أخرى في إطار هذه الوثيقة.
يتخذ البناء الهيكلي العام أو ما يسمى بنصانية النص مساراً تحولياً واضحاً في تجربة قاسم. فمرة هو نص طويل جداً ومقسم إلى فقرات وعناوين كقصيدة النهروان، أو غير مقسم بل هو بنية واحدة صلبة متماسكة كالكتلة الصماء كما هو الأمر في قصيدة (الدم الثاني) مثلاً أو هو مقسم تقسيمات عددية خارجية متسلسلة كما هو شأن (الوردة الرصاصية) أو تقسيمات أبجدية ذات ارتباط عضوي بالنص كما هو شأن (أبجدية القرن العشرين) أو مقسم تقسيمات عضوية وبنيوية متكاملة كما نجدها في قصيدة (القيامة) التي تتميز بطولها النصي الذي استغرق مجموعة بأكملها أو كتاباً بمفرده.

وقد تكون القصيدة قصيرة متلاحمة ذات طابع غنائي، كما هو شأن أغلب قصائده (البشارة) وبعض قصائد فترة السجن (هيئوا غبطة للطفولة، ومن يمشى إلى عينيك يسمو الخ)، وتكون متوسطة الطول ذات طابع درامي وإطار تاريخي وبعد تراثي كأكثر قصائد (الخروج) التي تنتمي قصيدة (النهروان) لها حتى وإن لم تنشر ضمنها. وقد تكون ذات طبيعة درامية داخلية خاصة (مسرحها الذات الشاعرة لا التاريخ أو التراث) كما هو شأن معظم قصائد (الدم الثاني). وقد تكون القصيدة قصيرة جداً كأنها الومضة (ميني) كما هو شأن قصائد (شظايا) وبعض قصائد (عزلة الملكات). وقد يكون ارتباط القصيدة بالعنوان ارتباطاً عضوياً بنائياً كما في قصيدة (عندما جد الجد) ونصها : "قال البحر : إبحثوا عن رسائل"، وقصيدة (الشاعر) الذي خلقته الحرائق يهيئ الجمر إسماً له" (ديوان شظايا) و(تاريخ) "الذين كانوا / كانوا ".

وقد يكون النص موزوناً على تفعيلة بحر واحد لا غير رغم طول النص الذي يستغرق كتاباً (القيامة)، وقد يكون متمازج البحور والأوزان إلى حد يوحي بالاضطراب والارتباك الإيقاعي (خروج رأس الحسين)، وقد يكون النص ذا بنية إيقاعية ثنائية التداخل الوزني إلى حد التمازج والاختلاط بين وزنين اثنين خاصة المتدارك والمتقارب (الدم الثاني)، وقد يكون النص نثرياً غنائياً ذا بعد صوفي (قلب الحب)، وقد يزاوج بين الشعر والقصة وبين الوزن والنثر (يمشي مخفوراً بالوعول)، أو واقعياً ذا بعد درامي داخلي رمزي مضغوط (شظايا) وقد.. وقد.. وقد.. إلى مالا نهاية، إذا ما نحن حاولنا حصر تجربة شعرية ميزتها الأولى الانزلاق من كل معيار حصري كتجربة قاسم، أو تأطير صورة متينة كصورة النص البنائية عنده.
ولكن ماذا يعني كل ذلك أخيراً ؟ بعد أن لمسنا تحققه العملي بصورة مبتسرة وسريعة.

هل يعني أن الشاعر يخشى قفص الأشكال، ويهرب من السجون الفنية وقيود النظم البنائية والتقاليد الأدبية الجاهزة، شأن سيرته الذاتية وتجربته الموضوعية ؟ ولكن الشاعر لا يهرب من الأشكال المسبقة والقيود الجاهزة فقط (أشكال غيره وقيود من قبله ) بل يهرب من أشكال هو التي صنعها بيديه وقيوده التي أحاط بها كاحليه، وكأنه دودة القز تطير من شرنقتها الحريرية بعد أن يتم لها نسجها وإفراز خيوطها. ولكن إلى أين ؟ إلى الفضاء الذي سرعان ما تعود إلى جمع خيوط زرقته ولملمة اتساع مداه لتنسج منهما شرنقتها الجيدة، سجنها القادم الذي عليها أن تخترقه من جديد وهكذا. ولكن ماذا بعد ؟ لا شيء على الإطلاق. إذن هل هو العبث بعينه ؟ لا. إنها الحياة بلحمها ودمها. التجربة الإنسانية المحصورة بين طرفي ثنائية الحركة والسكون، الهدم والبناء، الحرية والسجن، الشاعر والقصيدة، الوظيفة الشعرية والبناء النصي. وبين طرفي هذه الثنائية الإشكالية تكمن دراما الإنسان، والشاعر بالتحديد. وهذا ما أدركه قاسم جيداً بوعي مكثف آخر الأمر، على نحو ما أدركه رولان بارت قبله، حين جعل "الورقة البيضاء / سيدة الكلام / وعبدة القراءة / بيضاء بعد الكتابة / وتظل بيضاء (شظايا).

لقد أدرك قاسم أنه لا مفر من السجن (الكتابة / البناء)، فلتكن الحرية وحدها (فضاء الكتابة الداخلي الخاص / البياض ) هو السجن الوحيد الذي يرتضيه بديلاً للحرية المطلقة، المثالية، الرومانسية، الصوفية، الميثافيزيقية، التحولية، الحركية الدائبة، السيولة الزمنية، الهرب من قفص الشكل الواحد على مستوى البناء واللغة والمفردة والإيقاع والمضمون / الأيديولوجيا.

أدرك قاسم أن عملية خلق الأشكال وبنائها عملية متناهية محفوفة بحتمية الوقوع في سجن البنية المتشابهة، نظراً لأن آخر كل حركة سكون ونهاية كل طريق أفق، وأن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية والوجودية على السواء، والدائرة جدار، كما هو الاكتمال موت. وكثرة الكلام سكون، وسرعة الدوران ثبات، وشدة الحركة سكون. هكذا أدرك أو هكذا كان ينبغي عليه أن يدرك بعد أن أدخلته عجلة الحياة في دولابها الدائر، فاتخذ من الحرية سجناً ومن اللا شكل شكلاً ومن اللا بنية بناء، ومن النثر، أعني قصيدة النثر، شعراً، ومن الداخل خارجاً، ومن الغموض وضوحاً (أي لغة للتواصل الخاص أو الانقطاع العام ).

السبت 31 مايو 1986 م

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى