عن الشاعر وتجـربته

قراءة نقدية في قلب الحب للشاعر قاسم حداد

أحمد المناعي، علوي الهاشمي

في "قلب الحب" نحن أمام انعطافة فنية جديدة وحادة ليس في تجربة قاسم حداد الخاصة فحسب، وإنما في تجربتنا الشعرية في البحرين بشكل عام، وذلك على مستوى الشكل والمضمون معاً. فنحن قبل كل شيء أمام قصيدة طويلة كتبت في نفس شعري وزمني واحد توزع على مساحة أربعة وسبعين مقطعاً قصيراً لا يزيد كل منها في الغالب على العشرة أسطر مما يسمى بالشعر المنثور الذي لا يخضع لقانون الوزن أو الموسيقى الخارجية. وهذه القصيدة الطويلة - التجربة بأقانيمها الأربعة والسبعين هي ما ضمها كتاب "قلب الحب" بين غلافيه.
وأول ما يلفت نظر القارئ، ولا نقول القارئ المتذوق أو الناقد، لتجربة "قلب الحب" هو طبيعة الانفعال الذي يوجه الشاعر ويقف منطلقاً لهذه التجربة وينبوعاً تصدر عنه في كل منحنياتها وأبعادها وبنائها. وهي طبيعة تتسم بالشوق والرغبة والحنين والتواصل واللقاء واللهفة. وهي طبيعة قد يتمازج فيها الماء بالنار والجموح بالجنوح والممكن بالمستحيل والواقع بالحلم.
كشحاذ
أضع جبهتي على عتبة باب الكلمة
وأنتظر
منتفضاً كعصفور
لعل الكلمة تخرج من صمتها
وتعطف على تضرعي.
و....
وحين أحرك رأسي بعد حين
تتحرك عتبة باب الكلمة
مع جبهتي
والكلمة واقفة كطود شاهق
يا حبيبتي أرجوك.
إلا أن هذا المزيج المتضرع الشاهق بمختلف حالاته المتجادلة يصدر من نبع انفعالي واحد هو : الحب، وإن تعددت اتجاهاته وطرق التنفيس عنه وجداول تدفقه : حب المرأة، حب الوطن، حب الأطفال، حب الكلمة، حب الطبيعة، حب النضال، حب الرفاق. إنه الحب فحسب، هذا الينبوع الدافق بكل جنون، مفجراً معه الشعر والكلمات :
لا يحتاج الشاعر سوى لشوق في القلب
في القلب
من أجل أن يتدفق (الشعر).
واستخدام الشاعر كلمة "الشوق" مرادفة للحب تعطي انطباعاً قوياً يمازجه الحنين واللهفة للقاء والتواصل.. إنها النار التي تتحرق حنيناً للماء. وإذا ما نحن تابعنا مرادفات الحب في هذه التجربة فإننا سنجدها محصورة بين هذين القطبين المتجاذبين من العذوبة والعذاب أو ما يسميه الشاعر "العذاب العذب" ص 121، أو كلمة السر "التي تفتح لي بوابات الرهبة والرغبة والغربة" ص 34.
ففي كل طلقة أرميها من أجل الحرية عدالة
في ساعات النضال في الجبهة تلوح صورتك أمامي
أماه. إني أناضل من أجلك، لئلا تسيل من عينيك الدموع
الشاعر ارماندو غوبوزا
آلامك
آلامك مع آلامي، ستخنق الاضطهاد
عيناك وعيناي، ستتحدث عن الثورة
جروحك وجروحي، ستذكرنا بالسياط
يداك ويداي، ستمسك بالسلاح
قوتك وقوتي، ستنتصران على الإمبريالية
دمي ودمك، يسقيان النصر
الشاعر بارناب جواو موتيماتي
نحو الجنوب
في الليل عندما عبرنا نهر روفونا
توجه نحو الجنوب أنفي وقلبي وقدماي
وواصلت العيش باتجاه الجنوب
مع وخزات حمى الشجاعة الرهيبة، الشجاعة
التي أرسلتنا، نحن الرفاق، إلى الجنوب
في الليل عندما عبرنا نهر روفونا
تمطى جسدي بكامله نحو الأمام
إن حياتي أصبحت الطريق الوحيد
وفي حنجرتي ألم الفرحة الرهيب
الذي جعلنا نغني، نحن الرفاق، باتجاه الجنوب
.... الجنوب أيها الرفاق هدفنا
فأسلحتنا هناك
وكل منها يحمل هدفه الموقوت
الشاعرة ماريا اميليا روبي
نشيد موزمبيق
أغنية ترتفع هذا اليوم، أ،غنية الفرح،
من أصوات متحررة
تتغنى بميلاد شعب جديد
في هذه الأغنية تجتمع آلاف الحناجر
وتصدح بنشيد الحب لموزمبيق
وتتلو هذه الأصوات آلاف أخرى مرتفعة
أصوات لا تسمع ولكنها موجودة دائماً
إنها أصوات الماضي، أصوات المناضلين السابقين
ضد عار الاضطهاد
أصوات من كانوا يبكون بشوق
للوطن في أرض الغرباء
حيث ساقوهم في الأغلال، وحيث باعوهم سجناء
تسمع شكوى الأذلاء، يسمع الألم يتردد ويشعر به
جراء أغلال الأرجل الثقيلة والتعذيب الذي تحمله إخواننا العبيد معنا
في ساعة التحرر هذه
لقد ضحوا بحياتهم. إنهم أبطال الماضي
المناضلون ضد الاستعمار
والطغيان مثل ما جيجوانا وبونجا وغونفغونهانا وماكومبو وكثير سواهم

ينابيع الحب:
إن من السهولة بمكان تتبع ينابيع الحب في تجربة "قلب الحب" أو بالأحرى تتبع الروافد التي تتفرع عن "قلب الحب". فالشاعر يؤكد بكل وضوح لقارئه هذه التفرعات ويقود بصيرته لإدراكها وتتبع خيوطها في النسيج العام لتجربته. فهذا هو الحب الذي يغدقه الشاعر على ما حوله من مظاهر الطبيعة :
وبحرية أكثر، صرت أقيم علاقات مع الأفق
وحين أكون في البحر أو في الصحراء
في الغابة الحجرية
أو في الغيبوبة
لا يفارقني الشعر. ص47
فالطبيعة هي الغلاف الذي يحاصر الشاعر من جهة وهو في الوقت نفسه الرئة الكبرى التي يتنفس عبرها هواء الحرية وهو في سجنه، وينفذ من خلالها إلى وطنه.. حيث يستطيع حينئذ الموازنة بين عالم الرغبة وعالم الغربة، بين البحر والصحراء، بين الغابة الحجرية، على ما في هذه الصورة من جدل داخلي يتضمن الموازنة الضمنية، وبين الغيبوبة.
إن الطبيعة إذن طريق للوطن، أو إنها الوطن،.. كما الصحراء طريق للبحر، والحجارة طريق للغابة، والغيبوبة طريق للحلم وفضاء الحرية. إنها طريق لمواجهة الواقع من أجل تجاوزه نفسياً والتغلب على الظروف الصعبة.
أما حب الرفاق، الحب الإنساني الذي يسمع الشاعر - السجين خفوقه قريباً منه، ونبض الوطن الراعش لصقة.. فإنه يشكل أقرب وألصق حب واقعي يعيشه، حين يعزل الشاعر من محيطه النفسي وبيئته العاطفية والفكرية :
أخذوني من أحضانك
منعوا عني أقلامي وأوراقي
أبعدوني عن كتبي
وعن دفنك الذي يجعل كلماتي
أكثر جمالاً
فوجدت أصابعي تتلمس
- في ظلمات الزنزانة -
طرقاً تتوهج
وتؤدي إلى الكلمة
ولم أعد في حاجة إلى الأقلام والأوراق
صارت قلوب رفاقي
دفاتر تقرأ وتحضن ص46
إن حب الرفاق، إذن، طريق آخر للوطن والحرية والانتصار على قيود الواقع وقضبانه وسجانيه.
أما حب الأطفال، نهر البراءة الراكض في صحراء العالم، أو الحدائق المتفتحة أبداً في جسد الوطن "أولئك الأطفال الكثر، أولئك الأطفال الخضر، أولئك الأطفال الصغار جداً".. فهو الحب الذي يكنز قلب الشاعر بالحياة، لأنه يربطه إلى شجرة المستقبل وحدائق الغد الجميل.. إنه الخفق الحالم في قلب الشاعر، والأمل الذي لا يقبل الذبول.. من أجله يعيش مقلباً ركام الواقع، حارثاً تربته، مفتشاً في ذاكرة الحلم باحثاً عن أسماء يتسمون بها ويعيشون الواقع الأجمل :
هل اخترت أسماء لهم
أم أنك ستعتمدين على الحدائق ؟
إن مجيء أولئك الأطفال الصغار جداً قدر تاريخي أو هو أثبت وأكبر من القدر في وقوعه، لأنه قانون في مجرى التاريخ :
هل سيصعدون من أعماق
أم سيهبطون من أعال ؟
إن الرؤيا لا تخضع إلا لقانون الاحتمال والممكن، وهي لدي الشاعر الرائي واقع لا يخضع أو ليس من الضروري أن يخضع لتواترات الزمن التاريخي. إنه الوقت الذي تنضج في قلبه كل الرؤى المكتنزة باحتمالات التحقق وإرهاصات الواقع (الآن) :
إني أراهم الآن كالأسماك الملونة
في زجاجة المدى
وأنت ماؤهم ص14.
إن حب الأطفال، إذن، طريق ثالث نحو الوطن والحرية، هم الشاعر الأكبر، وذلك عبر الصلة الجنينية بالمستقبل والإيمان بالواقع الأجمل وهو يسمع خطاه تدب دبيباً يكبر مع الأيام كما يكبر "أولئك الأطفال الكثر الذين يتراكضون في مدى الوطن".
إن حب الأطفال انتصار، بالحلم والتطلع، على عقم الواقع وشيخوخته. حيث يمكننا، في ذلك الإطار الحلمي من أن :
".. نعطف على الأرصفة
التي كانت تبكي كالأطفال
ننحني
ونسمح بكاءها ص 36
وأيضاً : "كنا نصنع الأطفال كما يحلو لنا". ص 59
وحب الكلمة هو رافد أساس من روافد الحب في هذه التجربة، لأنه رافد متمازج بكل روافد الحب الأخرى، إنه اللسان المعبر عنها والمصح عن أبعادها وأعماقها في قلب الشار.. فهو القوة التعبيرية التي تترجم تلك الروافد الشعورية العميقة في القلب إلى كلمات وألفاظ وكتابة وشعر.. هذا هو الشاعر في جوهره الإبداعي :
بحرية
كنت أقيم علاقتي مع الكلمات
إن الكلمة، إذن هي الجناح الذي يطير به الشاعر في فشاء العالم والكون والحالم والمستقبل، يعانق الأطفال والطبيعة والمرأة والوطن والرفاق.ز كل ذلك بحرية تامة. إن الكلمة هي الوسيلة التي يتوازن بها مع العالم : يواجه بها، كلسان وقوة تعبيرية نضالية، أعداء الإنسان ويدعو إلى هدم واقعهم اللاإنساني.. "أقف عارياً في ثلج الريح وحيداً كحرف الألف ولا أنحني. أتمرد على كل الآلهة ولا أنحني" ص 21 ويتصل بها، كطاقة حلمية رؤياوية، بكل العلاقات الإنسانية الحقيقية وهو يستشرف واقعها المرجو ويرسم خارطة لوجودها المأمول :
يحلم بجزر وساحات ومدن وشواطئ
وسهرات وعناقات جديدة
يهيئ لها كلمات جديدة
جديدة جداً أحياناً
كأنه يتعلم اللغة لأول مرة
إن الكلمة أخيراً تجذير لمختلف علاقات الشاعر الإنسانية الأخرى أي تجذير لبقاء الشاعر وبالتالي تجذير للحظة لقائه بتلك العوالم النقية :
إنه يستعد، ليحمل لها كل عمره
وكلما استعد أكثر للبقاء
اتصل أكثر باللقاء. ص 66
وإذا كان هذا هو ارتباط حب الكلمة بروافد الحب الأخرى التي جئنا على ذكرها، فإن ارتباط الكلمة بحب المرأة - الحبيبة بشكل قمة ذلك النسيج المترابط والعروة الوثقى التي لا تنفصم في حياة الشاعر وتجربته الفنية والعاطفية والعامة :

أنا لا أستطيع وليس بوسعي
ولا أريد
إن تغيبي عن كلماتي
لأنك أنت كلماتي
هل بوسع الكلمات أن تكتب
بدون الكلمات ؟؟ ص 10
وحب المرأة - الحبيبة ، بعض النظر عن البعد الرمزي الآن، يشكل الثقل الأكبر في هذه التجربة، كما يمثل المساحة الأوسع، بل المساحة كلها في كتاب "قلب الحب". فكل الخطاب موجه إليها، وكل الضمائر الغائب منها والمتصل، مربوط ومتصل بها، وكل روافد الحب الأخرى تصب في مجراها أو بحرها الواسع العميق جداً إنها باختصار الأفق الذي يحيط بكل شيء :
أنا لا أستطيع أن لا أكتب عنك
ليس بوسعي أن أتفادى الكتابة فيك
أنا
حين أكتب عن الأشجار والسفن
والعمل والأصابع
والأطفال والخروج
أكون قد كتبت عنك
أو كتبت فيك
أو كتبتك
إنها العدسة المقعرة التي تتجمع في بؤرتها كل إشعاعات الحب الأخرى، وهي أيضاً العدسة المحدبة التي تصدر عنها كل إشعاعات الحب.. إنها لو حاولنا البحث عن صفة مختصرة لها، لما استطعنا أن نفعل أكثر مما فعله الشاعر حين اختار لكتابه هذا الاسم، إنها حقاً "قلب الحب". وبسبب الأهمية والمساحة التي يحتلها حب المرأة - الحبيبة في هذه التجربة الشعرية، كان لابد من أن نقف أمام المرأة وقفة خاصة مسهبة بعض الشيء.
المرأة - الحبيبة :
كل قصائد "قلب الحب" أو مقطوعاته الشعرية القصيرة تخاطب المرأة أو تتحدث عنها أو تدور حول محورها، حتى وهي (القصائد) تتحدث، أحياناً، أو تتطرق إلى علاقات أو أشياء أخرى. إنها ذلك الجامع المانع لكل علاقات الشاعر بالكون والحياة والإنسان، أو هي اختصار لكل تلك العلاقات، خاصة وأن المرأة بكل مستويات الحاجة لها، تستحوذ على جماح قلب الشاعر وهو في عزلته وسجنه.. لذلك لا يغدو من قبيل الرومانسية المغرقة في هم الذات أو الأنانية المفرطة أو النرجسية المغلقة قول الشاعر :
وأنا لست في حاجة لشيء سواك
فأنت شوقي المتأجج
كالألق في كلماتي
وإن كان في تلك العاطفة الإنسانية الواسعة التي تشمل الكون شيئاً من الاسترخاء الذي يشبه إلى حد كبير (استراحة المحارب) بالنسبة لشاعر كانت الكلمات سجالاً ثورياً في حلبة نضالية وتجربته الفنية، مهما تقنعت في أغلب الأحيان بالرموز والغموض والإغراق في التصوير أو الخيال الفني. ولهذه الظاهرة الاسترخائية، إن صح وجودها، أسباب سنقف عليها في ما بعد.
إن المنطلق العاطفي تجاه المرأة - الأنثى واضح كل الوضوح في هذه التجربة، على الرغم من المسارات الرمزية المتعددة التي يتجه نحوها أو يتداخل معها أو يندمج فيها.. وهو أمر طبيعي كما ألمحنا بالنسبة لشاعر يعيش الحرمان بكل مستوياته من المرأة.. وهو من وراء معظم هذه الصور والأخيلة الحسية التي تنتشر بشكل واضح في كثير من القصائد. لأن حضور المرأة المتخيل، هنا، يصبح أشد ضرورة وإلحاحاً وقوة بالنسبة للشاعر، مما كانت عليه في حضورها الواقعي - الموضوعي إلى درجة كبيرة قد لا تخطر على بال الشاعر نفسه، خاصة حين تطول المسافة والعزلة وتتسع مساحة الحرمان في الروح :
من كان يصدق
أن تلك الصبية الغامضة
الخارجة من الملح
ستلعب بي هكذا ؟
من كان يصدق
أن نبيذاً منسياً
سيحرق شفتي بوجعه
هكذا ؟
من كان يصدق
أن البنت المزروعة هناك
والولد المرتمي هنا
سيلتقيان في شراسة الاقتتال
كنمرة ونمر في أجمل الغابات
من كان يصدق ؟! ص 25
هكذا كان الحرمان طريقاً للرغبة في اللقاء الجامح، وكان الخيال غابة يلتقيان في ظلها، وكان اللقاء اقتتالاً شرساً من فرط الرغبة والحرمان معاً. وبالنسبة لشاعر واع ذي تجربة نضالية ملتزمة وطويلة على المستويين الواقعي والفني كتجربة قاسم حداد، فإن ثمة لقاء خاصاً لا يمكن أن يظل كذلك، دون أن يفتح حدوده على كل شيء من حوله، ويلتحم معه في حضور واحد، كما يلتحم الخاص بالعام والعام بالخاص في جوهر كل تجربة حقيقية متفاعلة، ومن هنا يبدأ حب المرأة وحضورها الخاص يتسع، لتصب في دوائره المنداحة روافد أخرى من الحب، جئنا على ذكر أبرزها، وبهذا تتحول المرأة الحبيبة - الأنثى إلى رمز، رمز للوطن والحرية والمستقبل والواقع والانتصار والفرح.. تتحول إلى كون صغير. وأكثر من ذلك أهمية بالنسبة للشاعر ان حضورها المتخيل يتحول إلى حقيقة واقعة حين تمتزج بكل شيء يتنفس بالحياة من حول الشاعر كجسد الطبيعة والرفاق والذكريات :
الذكريات التي تحطك في روحي كالوهج الشرس. ص 116
.. وهنا تغدو تلك الصور والأخيلة الحسية ذات دلالة عميقة وحضور خاص يبعدها كل البعد عن الشطحات الجنسية وأحلام المراهقة، وذلك حين تتمازج المرأة بالطبيعة وتلبس من مظاهرها ثوباً شفافاً يحيلها بالضرورة إلى رمز شفاف. وكذلك الأمر حين تتمازج المرأة بمختلف الجوانب الأخرى في حياة الشاعر : الواقع أو الذاكرة أو الحلم أو الحلم أو الكلمات، مما تناولناه ضمن ينابيع الحب الأخرى وروافده المختلفة. غير أن ربط هذه الينابيع والروافد بالمرأة نفسها : "قلب الحب" مسألة تضع هذه الدراسة في الاتجاه الصحيح نحو اكتشاف القيمة الفنية لرمز المرأة في تجربة "قلب الحب".. وقد بدأنا، فعلاً، بهذا الربط حين ربطنا بين المرأة الحبيبة والكلمة.
المرأة كتجربة عاطفية حارة قابلة للنمو والاتساع في دوائر تسع الكون وتشمل الموجودات في اندياحاتها المتنامية. والكلمة كوسيلة تعبير عن تلك التجربة بالمواجهة والحلم في آن. بمواجهة معطيات الواقع الذي يحاول انتزاع تلك العاطفة من جذورها، والحلم بتغييره وتجذير العاطفة الخاصة والإنسانية في تربته. إن علاقة المرأة بالكلمة في خلاصتها الأخيرة تعني هذا التوحد الحميم بين المرأة الحبيبة - الرمز وبين الشاعر - الإنسان أو الذات الإنسانية إنه التوحد بين الكلمة ومعناها :
لأنك أنت كلماتي
هل بوسع الكلمات أن تكتب بدون الكلمات ؟؟؟
فحين تكبر الكلمة تكبر الحبيبة، وحين تكبر الحبيبة تكبر الكلمة.. وحين يكبران معاً يكبر الحب، يكبر قلب الحب، حيث يذوب المرأة والشاعر معاً في قلب الحب.. الشاعر الكلمة والمرأة الوطن.
أما المستويات الأخرى من العلاقة مع المرأة فيمكن تقسيمها إلى ثلاث مستويات حسب بروزها وأهميتها في تجربة "قلب الحب"، هي العلاقة مع الطبيعة، ومع رفاق النضال، ومع الطفولة.. وذلك حسب الترتيب المتنامي بين هذه العلاقات الثلاث، التي تفضي، أخيراً، إلى علاقة الشاعر الخاصة وتوحده مع المرأة - الأنثى والرمز.
1 - المرأة والطبيعة :
إذا كانت الطبيعة طريقاً أولاً للوطن، كما بينا.. فإن المرأة، بالضرورة والنتيجة، هي الوطن نفسه. وذلك على المستويين الواقعي والمجازي - الرمزي. فعلى مستوى الواقع فإن المرأة - الحبيبة، الزوجة، الأم، الإنسانة تعيش في الوطن، وإن كانت في مساحة أخرى من الوطن أو مكان ثان من الوطن غير الذي يعيش فيه الشاعر مضطراً رهن العزلة المفروضة والقضبان المضروب عليه. والشاعر يطرح هذا الفهم أو التفسير الواقعي الموضوعي للمرأة بكل خطوطه الواقعية وأبعاده الموضوعية في مقطوعة بعنوان (الحرية)..
في الجزيرة التي تأخذ شكل المرأة الحبلى
يتثاءب عاشق في زنزانة
طويلة كقبر
عميقة كبئر
وينشر ابتسامته الساخرة..
في الجزيرة التي حبلت حبلت حبلت.. ولم تلد
جاءوا يزفون له الطفل الصغير
الصغير جداً
الذي ولدته زوجته
ويقولون له :
(صرت أباً الآن)
تثاءب بنفس الابتسامة الساخرة
لم يكترث كثيراً
وقال :
(لكن أمي.. متى تلدني ؟!)
والملاحظ هنا بكل وضوح أنه حتى الطبيعة نفسها قد تأثرت بالتوجه الموضوعي لدى الشاعر إزاء المرأة - الزوجة "في الجزيرة التي تأخذ شكل المرأة الحبلى". لأن الصورة الشعرية عادة ما تصدر من معين لحظة واحدة من الانفعال والرؤية والتوجه.. وهذا كفيل بأن يجعل كل الحقائق الموضوعية في القصيدة، بما فيها الطبيعة والمرأة على مستوى واحد من المعالجة الفنية. وإن كانت نهاية القصيدة تشير إلى أفق رمزي ولده الإحساس الساخر بالمفارقة المرة بين أن يولد لإنسان طفلاً قبل أن يولد الأب نفسه.
ويمكن لهذا الأفق الرمزي أن ينقلنا إلى المستوى الفني للمرأة كرمز للوطن والحرية : لكن أمي.. متى تلدني ؟!
ونادراً ما ترد الأمومة وصفاً للمرأة - الرمز في تجربة "قلب الحب" كما في الموضع السابق. فوصف الحبيبة هو دائماً اللصيق بها في إطار المعالجة الفنية والبعد الرمزي.. وإن كانت صفة الزوجة والأم أحياناً أي الحبيبة الواقعية، تتداخل مع البعد الرمزي بشكل واضح أو تطفح على مستواه في مواضع كثيرة من "قلب الحب".. تماماً كما في قصيدة (الحرية) السابقة، أو باختلاف يسير.
والطبيعة في علاقتها بالمرأة ضمن حدود الرمز تصبح أكثر عمقاً وحيوية، لأنها تستمد ملامح تشكلها ونسغ وجودها النفسي وحيويتها الخارجية من علاقة الشاعر بالمرأة - الوطن - الحرية، بما في ذلك علاقة الشاعر الخاصة بالمرأة كزوجة وحبيبة. حيث تبدو الطبيعة هنا في غاية الحرية والحيوية والاتساع والعمق، مما ذكرناه آنفاً في حديثنا عن علاقة الشاعر بالطبيعة رافداً من روافد الحب لديه.
غير أن ارتباط المرأة - الرمز بالطبيعة ارتباط جنيني يحول بدوره الطبيعة نفسها إلى رمز فني حي ويخرجه من سياقه الطبيعي الموضوعي. وكل ذلك راجع إلى حيوية وجود المرأة في قلب الشاعر وعاطفتها البليغة التأثير التي تتقمص كل وضع من أوضاع الطبيعة من حول الشاعر لتبرز فيه في هيأة رمزية تتصل بمدلول الوطن والحرية :
رأيت الشجر النظيف بعد المطر
مغسولاً قبل لحظة
فرأيتك خارجة من الغسل
ملتفة بالأخضر الخجول
والأسود المنسول ينسدل
كشلال فوق رأسك
وهكذا.. سرعان ما تمتزج المرأة والطبيعة وتتداخلان في علاقة جدلية حية تتجاذب فيها المرأة المتراوحة بين الخاص والعام، قلب الشاعر، ولكن في إطار الرمز المبدع، حيث تصبح الطبيعة والمرأة شيئاً واحداً متفاعلاً في الصورة الشعرية :
رأيتك يا شجرة الماء الأخضر هكذا
فهيأت لك دخولاً في الغسل..
كل يوم ص 68.
وهذه المراوحة بين الخاص والعام في علاقة الشاعر بالمرأة تنعكس بشكل متواتر في تجربة "قلب الحب" على مستويات الطبيعة نفسها في علاقتها الفنية بالمرأة.. مما يفرز مستويين واضحين للطبيعة في سياق تجربة الشاعر : مستوى الطبيعة الاستعاري، ومستوى الطبيعة الموضوعي. مع الأخذ في الاعتبار ذلك الجدل الحي القائم بين محوري العام والخاص في كل مساحة هذه التجربة، دون أدنى فصل بينهما في أية موضوعة كانت.
أما المستوى الاستعاري لموضوعة الطبيعة فيتمثل في التقاط الشاعر لمفردات عامة من عناصر الطبيعة بعد تفتيتها وتخليصها من قانونها الطبيعي وربطها بسياق التجربة الخاصة لدى الشاعر.. مما يمكن أن نسميه من الناحية الفنية استعارة جوانب من مظاهر الطبيعة وإسقاطها على الحالة النفسية عند الشاعر في سبيل خلق طبيعة وجدانية خاصة، كقول الشاعر "في الشلالات التي توزع حكايات الخطوبة والزواج"،
وقوله :
"ربما يصير الانتظار شجرة أ, نافذة أو سحابة
ربما يدخل انتظاري في الليل....
ربما يمتزج انتظاري بالريح....
ربما يمتزج انتظاري بالنوم والنحلة والنخيل
ربما
ربما
ولكن من أجل النيلوفر النافر في عينيك
سيأتي التمر والمطر والراحة ".
ومثل هذا الاستخدام الاستعاري للطبيعة كثير ومنتشر في تجربة الشاعر ويعطيها عمومية ومستوى من التجريد، مستمد من التوجه العام للمرأة كرمز فني، مما يحيل القصيدة في الغالب إلى تراكمات صورية سبيل تناميها الوحيد التكرار اللفظي واستطالة العبارة والبناء المنطقي. وهذا مثال واحد :
كغزال كنت أتطاير في الحدائق
أغمس ريشتي في بنفسج عينيك
.. وأكتب
لم يكن للشعر موعد
من أهداب أصابعك تبدأ كل المواعيد
وفي صهيل الغيوم الضائعة على صدرك
تتحول نمنماتي إلى رسائل
وحينما أدخل كضوء في ظلامك
.. تفرح الغابات والمرتفعات والجبال
حتى السماء تشرع في هطلها
فتسيل الوديان وتتحدث الجداول
ومن الصعب عندئذ أن نعرف
هل هو موت أم حياة.. ص 129
إ، الطبيعة هنا كونية ليس لها خصوصية أو بيئة، لأن المرأة الرمز تجرها خلف أبعادها الرمزية التي سرعان ما يطفو على سطحها الموقف الفكري قبل الموقف العاطفي، كما تتجه الصورة الشعرية نحو الاستعارية في علائقها البنائية (أهداب الأصابع، صهيل الغيوم)، كما تتجه نحو البناء المنطقي على مستوى اللغة ودلالتها (حينما أدخل تفرح الغابات) و(حتى السماء تشرع في هطلها فتسيل الوديان..).. أما النتيجة المنطقية في إطار الموقف الفكري فهي الجدل القائم بين الموت والحياة كما هو بين النور والظلمة. وهذا كله مسؤول عنه نوع التوجه للمرأة أساساً.
ولو قابلنا هذا المستوى الاستعاري لموضوعة الطبيعة بالمستوى الموضوعي الخاص، وهو مايرتبط عادة بالتوجه العاطفي الخاص نحو المرأة ويقوم هذا المستوى على انتقاء مشاهد أو عناصر من مشاهد طبيعية واقعية غير متخيلة أو مستعارة من عالم التخيل، أي انتقاء عناصر أو مشاهد من طبيعة البيئة.. إن الطبيعة تغدو هنا طريقاً أكثر اتصالاً بالوطن وبالحرية، أي بمعاناة الشاعر وهمة القائم. وهنا تكون الطبيعة أكثر حميمية والتقاء بالمرأة والعاطفة الخاصة نحوها. هنا يتداخل الخاص والعام في وحدة سعيدة يمثلها عناق المرأة بالطبيعة عناقاً روحياً مادياً عنيفاً، بحيث يصعب التمييز بين الواحد والآخر، خاصة حين تكون النخلة أو البحر أو كلاهما مدخلاً للطبيعة في علاقتها بالمرأة.. ومثال ذلك قصيدة (النخلة) :
شامخة كالنخلة أنت
والشال الأخضر الملتف حول عنقك
كالذراعين
يجعلني أكتب رسائل كثيرة
أبعثها لك
ولكن معظمها لا يصل
.......
في ربيع شالك الواقف على الجهات
أية قناديل مكتنزة تزهو
هناك
سأنتظر إلى الأبد
......
أو أنني سأهز جذعك المتطاول
وأنشر حضني
أستقبل غرور النضج..
في قناديلك.
إن الوطن هنا حضور، مهما كان متخيلاً أو مستمداً من الذاكرة، يزاوج بين المرأة والطبيعة، أو بين الحبيبة والنخلة في مختلف خصائصهما التي تتشكل في قلب الشاعر بعد أن ينصهر، شكل كل منهما الخارجي ذائباً في الآخر خالقة بذلك طبيعة أنثوية مركبة في إطار الحالة الشعرية، فالسعف شال أخضر أو ذراعان، وقناديل الضوء - العرس ثمر ناضج يغري بالقطاف، ويسير بالذاكرة المضيئة المكتنزة في اتجاه الحلم الناضج، في اتجاه التحقيق.. متجاوزاً حالة الانتظار، أمام الواقع الراهن، إلى الأبد.
وفي كل من قصيدتي (الحبيبة) و(مأدبة البحر) مثال آخر على مثل هذا الدخول إلى العلاقة بين المرأة والطبيعة في مستواها الواقعي.
يقول الشاعر في (الحبيبة) :
صادقت أسرار الموج
واتكأت على هتف القواقع
وغرور اللؤلؤ
وشفافية الزبد
وتاج الماء
فرشت بيتها بالأزرق والشفق والأفق
زينت سريرها بالاندياح الرشيق
والنوارس الخجولة
وموجت العتبة بنعومة الرمال الذهبية ص 93
هكذا يتحرك الوطن في صيغة الأنثى من خلال طبيعة الوطن نفسه، وطن الشاعر والحبيبة معاً.. لذلك لابد أن يتزاوج الوطن بالحبيبة تحت ثوب الطبيعة، لتغدو المرأة رمزاً طبيعياً منساباً، يزاوج في تلقائية مبدعة بين الخاص والعام :
ووضعت يدها على خدها..
تنتظر
لقد قالوا أن حبيبها قادم ص 94
وكذلك الأمر في (مأدبة البحر) حيث يشخص الشاعر الطبيعة في مظهر من مظاهرها البيئية : البحر، أسماكه وأعشابه وقواقعه وأمواجه وكثير كثير من الملح ثم يزاوج بينه وبين الحبيبة التي تتحول هي والبحر في إطار هذه الزيجة السعيدة إلى رمز فني معبر عن الوطن والحرية.. فبعد أن :
وعدتني أنها ستقلع عن البحر
......
وجدتها قد أقلعت
ولكن في البحر.
هكذا تتحول المرأة والطبيعة إلى شيء واحد، بعد أن كانت الطبيعة طريقاً للمرأة.
إن الطبيعة والمرأة، هنا، كليهما وفي صورة تمازجهما معادلان فنيان لا غنى عنهما للانتقال بين الخاص والعام والمزاوجة بينهما والاتجاه بتلك المزاوجة إلى المعادل الفني أو الرمز. وبغير تلك المزاوجة يسقط كل منهما في طرف نقيض للآخر أو مواز له في الأقل، مما يدفع بتجربة الشاعر إلى السطحية والتمزق والتجزئة التي كانت تتوزع أغراض الشعر العربي القديم.
* المرأة والنضال :
ولكي تصبح هذه المزاوجة مشدودة بأقوى الأسباب إلى أرض الواقع والتحقق، بعيداً عن الوهم والتصور الفوقي، منتمية إلى مجرى النضال والفعل، فإن الطريق إلى المرأة لابد أن يمر بظروف الشاعر الواقعية التي يعيش رهنها، في السجن، مع رفاق الدرب والنضال ولابد أن يكون ذلك الواقع الراهن طريقاً آخر من نوع خاص، يتسم بالصلابة والواقعية والصمود، موصلاً إلى المرأة الحبيبة - الوطن، التي ازداد رمزها عمقاً واتساعاً وشفافية بعد اندماجها بالطبيعة وخاصة طبيعة الوطن في مستواها الواقعي.
إننا نستطيع أن نلمس تزاوج هذا الثالوث : الطبيعة، المرأة، الرفاق، في أكثر من قصيدة وأكثر من موقع شعري في تجربة "قلب الحب" ففي قصيدة (تصوري) يكون حضور الحبيبة مترتباً على غياب الرفاق، كما يبدو من أول وهلة.. وهو حضور قوي عارم :
حين ينام الرفاق
أحسك تندا حين هنا.. هنا
كالموجة العظيمة في قلبي
كيف يمكن إخفاء ذلك أو السيطرة عليه ؟
ساعتها التصق تماماً بقلبي
أحضنه وأنتفض معه
ونتكئ معاً على إبرة الأزرق
غير أن ذلك الغياب المؤقت سرعان ما يثبت حضوراً أشد مع حضور المرأة الملتصقة تماماً بقلب الشاعر، وذلك من خلال الحلم الجماعي بالمرأة الحبيبة التي تغدو رمزاً مشتركاً للوطن بين الرفاق حيث : "يطل الرفاق من أحلامهم" أو "حين يستيقظ الرفاق يجدون في فراشي جسداً مريضاً وقصيدة نشيطة" ص 118.
أما الطبيعة، إذن، في جوهرها هي المساحة المشتركة بين الحضور والغياب، بين ا لذاكرة والحلم، التذكر والتمني، المرأة والرفاق :
حيث اتخذت تلك الطيور اللذيذة
قميص أحد الرفاق موعداً لها
وتذكرتك
لأن عصافير كثيرة
كانت تتناول طعامها من أصابعك وأنت في النوم
وهذه العلاقة الحميمة، علاقة المرأة - الرمز بالرفاق شرط من شروط نموها في اتجاه الشمولية والرمز باتساع العاطفة وانتقالها من الخاص إلى العام :
"يا المرأة الممتدة من قلبي.. إلى قلوب كثيرة
كيف حدث انك خرجت من الخريطة
واتكأت على مهج الناس ؟!"
"يا الواحة المتوزعة في كثير". ص148
المرأة والطفولة :
وهذه العلاقة الثلاثية التي أساسها المرأة تشير بشكل متواتر حاد إلى علاقة جديدة يتجه نحو أفقها عالم الشاعر بما فيه الطبيعة والمرأة والرفاق، هي الطفولة. إنها الواقع البديل الذي يسير نحوه الوطن في سياق الحلم أو الرؤيا الشعرية، حيث ترتبط المرأة بالطفولة في علاقة هي إحدى أفعالها الجوهرية في الحياة بل وأكثر أفعالها جوهرية، وتتجه الذاكرة مخترقة مرارة الواقع نحو التحقق ثانية في الحلم الطفولي الذي هو امتداد حاصل بالضرورة للمرأة - الرمز، على أرض الواقع :
في السرير الذي أعلى من الغيم
كان النوم لا يأتينا
النوم قصير القامة
ونحن في الشهق الشاهق
في السرير الأعلى
حيث منبت المطر
وحيث لا نوم
كنا نصنع الأطفال كما يحلو لنا
نرسمهم، نلونهم..
نكسوهم.. نعريهم
فوق السرير الذي أعلى من الأشياء
نعلمهم المشي
فيتدافعون كالسكارى
من الخمرة التي أعلى من المطر
في السرير الأعلى
حيث لا يطالنا النوم القصير القامة
نخلق ونخلق
ونتفرج على المطر.. من هناك
إن المرأة غائبة هنا، لا تشعر بها إلا من خلال ضمير الجماعة الذي يشترك فيه معها الشاعر والطبيعة والرفاق الحالمين، ولكنها حاضرة بقوة من خلال فعل الطفولة الذي "يخلق ويخلق" حيث الصحوة التامة والرؤية الكاشفة التي ترى الأشياء على حقيقتها حيث ينهمر المطر من جسد الطبيعة انهمار الأطفال من فعل الأمومة، كأحلى ما يكون الانهمار الخالق. إن الفعل الشعري - الفعل الثوري، هنا، مندغم في المرأة - الرمز يغدو فعلاً خلاقاً.. أي خالقاً ومخلوقاً على أجمل وأكمل وجه وصورة :
نحن أطفال أيضاً
ألم يصادف أن رأيت أطفالاً
في منتصف العمر ؟! ص 112
وهوا تغلق الذاكرة حدودها على فضاء الحلم، ويتحقق الحالم في مدى الذاكرة مقترحاً أو طارحاً واقعاً بديلاً فوق الواقع الهرم وأجمل منه رغم تمازجه به وتداخله معه، وذلك عبر تلاحم الذاكرة بالحلم في الصورة الشعرية :
أتذكر وأتمنى
وأنا جالس في حرير الوحشة
ترى أليس بامكانك
ولو لمرة واحدة
أن تغزلي مواعيد لنا ؟ ص 112
وحين تفرض الطفولة حضورها بهذا الشكل الدافع في تجربة الشاعر تفرض المرأة تلقائياً حضوراً مماثلاً من خلال ذلك الفعل الجوهري لها.
وتصبح المرأة هي كل شيء بالنسبة للشاعر، لأنها موجودة في كل شيء : الطبيعة، الرفاق، الأطفال، الواقع الخشن. موجودة رغم غيابها.. موجودة في عالم الانتظار الذي نسجه الشاعر من حوله خيوط، مما حوله ومما داخله من العواطف والمواقف والأحاسيس والرؤية :
كيف.. كيف سيطاوعك الدم
وتقطعين الغياب وتأتين ؟
يا حبيبتي فبدون انتظارك..
كيف يكون لأيامي لون وطعم ورائحة
يا حبيبتي
تعالي.. وأنت هناك. ص 148
إن كل هذه الدورة المركبة من العلاقات كانت طرقاً متواشجة متناسجة رغم تعددها تقود إلى احتواء المرأة، على كل المستويات، امتلاكها والتوحد معها في ما يشبه الوجد أو العشق الصوفي، مما سوف نقف عنده بعد قليل.
* المرأة والشاعر
إن المرأة في التحليل الأول والأخير لهذه التجربة على مختلف المستويات النفسية والفكرية والفنية، هي الأفق الذي يحيط بالشاعر من كل جهة، هي الطبيعة والرفاق العشاق والطفولة والذاكرة والأنثى والعاطفة والحلم والإنسان وكل شيء كائن يغلف حياة الشاعر. في نفس الوقت الذي هي ينبوع كل شيء.. إنها الدائرة : المركز والمحيط وما بينهما. وهذا ما يجعل المرأة تتحول إلى رمز واسع شفاف كالأفق، وعميق خصب كالذات والعاطفة.. إنها رمز للحرية والوطن والثورة والتحول وكل القيم العليا في وجود الشاعر، في الحين الذي هي ينبوع العاطفة والحب والحنين والاشتياق.. لذلك يغدو شوق الشاعر العاشق للمرأة شوق الخاص إلى العام، والعكس، وشوق المرموز إلى الرمز، شوق الأبيض للألوان الأخرى التي يحولها ويتحول من خلالها إلى عالم جديد ناصع من الألق كقوس قزح أو كالأسطورة
من الأزرق تخرج عصافير كثيرة
ومن الليلكي تتثاءب أقمار
من اللازوردي تتدافع أحلام الشعوب النشيطة
من الوردي تتباهى الشهوة
تطوي رايات الخجل
وتنشر ألوية الأحمر
من سرور عينيك ابتدئ أنا
كالأسطورة
وأشتاق إليك
كالأبيض للألوان. ص 41
والشاعر يصر على شمولية رمز المرأة، على عموميتها الخاصة وخصوصيتها العامة، يصر في كل مساحة تجربة "قلب الحب" وأحياناً يكون ذلك بشكل واضح جداً ومفصل أيضاً على النحو الذي استنتجناه في إطار الطرق التي تقود الى المرأة - الرمز، كما في قصيدة "زهرة الطرقات":
"كل طرق العالم تأخذني إلى ياقوتة عينيك"
هذا هو المبدأ العام الذي يعتمد الموقف الفكري والنفسي والفني. ثم يبدأ الشاعر في التفصيل والتوضيح :
1. الكلمة المعاناة : الصهد الذي يتفصد من جبين الكلمة وهي تولد
2. الإنسان الأمل : اللثغة الحلوة في غناء راع على كتف سهل بعيد
3. الطبيعة التحول : النحيب الذي تجهش به الشجرة متضرعة لفأس حطاب بردان.
4. الرفاق العشق : القبلة الأخيرة في وداع عاشقين لم يلتقيا بعد.
5. الأنثى الجسد : النهدة الصاعدة من ظلمات العمق في جسد فتى يتعرف على الحب السري.
6. الأنثى العاطفة : فاكهة الموسم الدائم في نهر النضوج

ومن هنا عند ميناء المرأة وسواحلها تستريح أمواج الشاعر من السفر.. بعد أن تحولت المرأة في أخص خصوصياتها إلى بحر واسع لا حدود له :
إنك تكمنين لي منحنيات كل الطرق
ولم أكتشف بعد طريقاً لا ينتهي إليك.
وإذن فإن التوحد مع المرأة - الرمز اقتضته ضرورة تلك التحولات في جسد الألوان الأخرى - الطرقات، حتى باتت المرأة ذاكرة وحلماً في حين معاً، وما بينهما واقع قابل للتحول والتخلق والولادة على سبيل التوقع والحدس والرؤيا التي تخترق الشاعر كالبرق الخاطف موصلاً بين الذاكرة والحلم.. حيث يغدو :
كغزالة تنتقض تحت وطأة حربة وحشية
أتحرك في كل الاتجاهات
أبحث عنك
تعالي
إني
- إذا تأخرت -
أتحول ص 30
وحين يكون الواقع الذي يرزح الشاعر تحت وطأته بمثل هذه القسوة فإن المرأة رمز الثورة والتحول تصبح هي الأمل الوحيد والأكبر لدى الشاعر. وما دامت المرأة هي كل شيء بالنسبة للشاعر فإن تأخرها عن المجيء لإنقاذ الغزالة المنتفضة من وطأة حريتها الوحشية، كفيل بأن يجعل هذه الغزالة - الشاعر تتحول إلى حالة من اليأس فالموت :
كالجرح النازف
وأنت دمي
كيف أخفيك ؟
كالخفق الخائف في قلبي
كيف أخفيك.. ولا أموت ؟! ص 24
وهنا تتسلل أول خيوط اليأس إلى تجربة الشاعر النفسية. ولا سبيل إلى فهم ذلك "التحول" المقرون بتأخر المرأة الرمز الذي هو وجه آخر من وجوه "الاختفاء" إلا على أنه اليأس ومن ثم الموت : كيف أخفيك ولا أموت ؟!
غير أن هذا اليأس صادر من حالة الخوف والقلق من التأخر والاختفاء. وهي حالة يشترك في مساحتها اليأس والأمل ويتمازجان في غبشها تمازج الضوء بالظلمة والحياة بالموت. وهنا يزيد العذاب والتوتر والقلق والخوف الذي يبرز مشاعر التأرجح والتذبذب ميزان "التحول" نفسه بين كفتي الموت والحياة، الهزيمة أو الانتصار كعذاب القرط المتدلي في أذن الحبيبة وهو يتوق لصدرها.
يتأجج هناك
ينضج ولا يصل
وكذلك الشاعر نفسه في حنينه وتوقه للمرأة - الرمز :
وأنا أتوق إليك
أستفسر عن طريق التحول
لكي أصل إليك
ولا أصل
آه من عذاب القرط في قلبي ص38
وربما تصلح هذه الحالة القاسية والمعاناة المريرة من الانتظار والتوجس والتوقع، حالة التأرجح الخطر :
انظروا.. إنها لا تفعل شيئاً
انظروا.. إنني لا أستطيع أن أموت
تصلح مدخلاً سليماً لظاهرة التصوف المنتشرة على سطح تجربة "قلب الحب" وربما تسللت إلى ما تحت السطح أحياناً، مفصحة عن الجذور التي تنامت عنها في قلب الشاعر ورؤيته.
* التجربة الصوفية في قلب الحب
"طموح التجربة الصوفية هو كشف ستر سر التحول من عنصر يتصف بالقصور الذاتي إلى عنصر يتصف بالقوة الذاتية، أي إلى عنصر خال من العطالة" هذا هو أنحد التفسيرات التقدمية لمفهوم (العلم الصوفي واللغة الصوفية) "حسب ما جاء في مقالة للكاتب فايز مقدسي نشرتها مجلة (المعرفة) عدد165 نوفمبر 1975.
ونستطيع من خلال هذه المقولة وعلى ضوئها أن نتصور أوضح وأبرز الملامح الصوفية المرتسمة على تجربة "قلب الحب".. وذلك في حدود مفهوم "التحول" الذي امتد وانتشر على جسد هذه التجربة ولامس روحها في مواضع كثيرة، وربما انطلق من تلك الروح في بعض الأحيان، كما سنرى.
وقد تعددت مستويات استخدام "التحول" عند قاسم، فتراوح من الناحية الفنية الشكلية بين اللفظة الصريحة والمفردة البارزة في سياق الصورة أو القصيدة وبين الصورة الشعرية أو المقطع الشعري أو القصيدة الكاملة أحياناً كثيرة. كما تراوح من الناحية النفسية والفكرية بين حالة اليأس وحالة الأمل التي أشرنا إليها من قبل.
وإذن فإن (حالة التحول) هذه هي أول ما يجب دراسته من الظاهرة الصوفية في "قلب الحب"، وذلك لتبين موقف الشاعر النفسي والفكري بصورة دقيقة أكثر.
* حالة التحول :
لو أخذنا أية قصيدة من "قلب الحب" فإننا سنظفر لزاماً بصورة من صور التحول قد تكون واضحة تنطق بها الألفاظ أو خافية توحي بها الصور الشعرية والسياق العام. وتتبدى صور التحول في ثلاثة مستويات متنامية من الصور أو المواقف النفسية والفكرية هي معاناة التأرجح، التوجه، الحلم.
- 1 -
ويمكن ملاحظة المستوى الأول في تلك الصور التي تطرح تأرجحاً متجادلاً بين النقائض حيث يخرج الشاعر من نار إلى نار معتقداً بالتقاء النقيض بالنقيض، حيث الواقع والحلم - الواقع البديل - طرفان يتجاذبان وجود الشاعر :
لمنحنيات انتظارنا نكهة الأحمر
وايقاع الأخضر
وحيث "رحلة القرط الطويلة
ذلك السفر الذي بدأ ولم ينته بع ص 37
وحيث "الوصول واللاوصول، وعذاب العذوبة وعذوبة العذاب. وحيث "تتثاءب الأقمار أتعبها السهر" ص 41 و"محبرة الجحيم اللذيذة" ص 45 و"الليلك الذي ظل أسبوعاً كاملاً لا يكف عن البكاء حيث لم يكن غاضباً ولا متألماً ولا كئيباً". وحيث "السرير الذي لا يزور فيه النوم قصيرة القامة" وحيث "الانتظار والتعب والحنين والنيلوفر" ومساحات واسعة وصور يصعب حصرها من معاناة الشاعر ووقوفه متأرجحاً في خوف وقلق وانتظار وحنين ويأس وأمل فوق "ابرة الأزرق" و"حرير الوحشة" و"غبار الشمس" و"الغابة الحجرية" :
أتحرك في كل الاتجاهات
كسمكة انتشلت تواً من الماء
تأخذ شهقتها الأخيرة
وترتعش بجنون
أبحث عنك ولا أجدك
أضرب الهواء بأطرافي
كطفل محمول من وسطه
وهو يصرخ
أبحث عنك ولا أجدك ص 29
إنها باختصار "سنوات من لبن الحرقة وخبز التوقع" حيث "حبالك مقذوفة نحوي لكنها لا تصل" ص95

- 2 -
غير أن هذا التأرجح المطر والانتظار الوجل على "ابرة الأزرق" وإن طال واشتد وتأزم، فهو يأخذ له في المستوى الثاني من "حالة الاحتمال" هذه مجرى انفراجياً يفصح عن اكتناز موقف الشاعر النفسي ووضوح رؤيته الفكرية، حيث الصمود والوعي يخرجانه من تلك الحالة المتأرجحة الصعبة، من مساحة اليأس إلى مساحة الأمل، من حالة التأرجح إلى حالة التوازن. وهنا تتسع الصورة الشعرية منطلقة من زاوية التأرجح منتشرة على شبكة واسعة من الضوء والبهجة والفرح الطفولي، ولكن في اتجاهين رئيسيين يحملان جدل المستوى السابق من "حالة التحول" بين الموت والحياة، اليأس والأمل ويعبران في الوقت نفسه عن تناقض بينهما، يحاول الشاعر في هذا المستوى من الموازنة أن يغلب أحدهما على الآخر وفق رؤيته وموقفه النفسي وذلك عبر الموازنة نفسها أو الجدل بين النقيضين، لا عن طريق الفصل بينهما.
الاتجاه الأول هو فلسفة الموت وذلك بواسطة تجريده وتجميله حتى يمكن التغلب على صورته في الواقع. إنه بمثابة انتصار الهزيمة من خلال الإيمان بموقف فكري أو فلسفة ثورية ووعي تقدمي، حيث يتداخل الموت بالحياة أو يغدو الموت في سبيل الحياة والخلود :
ومن الصعب عندئذ أن نعرف
هل هو موت أم حياة.. ص 130
وهذا الموقف الفكري الفلسفي الواعي يكون تجاوزا لتلك "اللحظة" من التأرجح المر :
كأنني عائد إليك بعد قليل
كأنني لن أعود أبداً
وذلك من خلال مزج العودة باللاعودة والحياة بالموت واليأس بالأمل في جدل حي عميق يجعل للحياة امتداداً على الموت، وللأمل انتصاراً على اليأس وللعودة تحققاً على اللاعودة، ولكن من خلال الفكر المجرد الذي يظل قابلاً للتحقق والوقوع في أية لحظة بعد موت الشاعر العاشق على مستوى الواقع المادي البحت.
أتكئ على كتف الوجد
خارجاً من التهدج
أعلن لك يا حبيبتي :
أن الموت لا يقتل العشاق ص 69
أما الاتجاه الآخر فهو مواجهة الموت كنقيض للحياة والإصرار على هذه المواجهة لانتزاع زهرة الحياة من بين أنيابه، وفرض حالة الأمل الواقعية على واقع الموت نفسه :
هذا صمتي الذي يسبق عاصفتي
فإن لم تطلي
أيتها الحبيبة المغرورة
على العاشق الذي في عذوبة العذاب
فسوف يطلع مارد
من هذا الجسد الصغير جداً
كما لو كان قمقماً.
إنه إذن انتصار الروح المقهورة على واقع الموت. حتى ولو كان في ذلك تحطيم الجسد وتلاشيه. حينئذ لا يحتاج الشاعر إلى تزيين صورة الموت وإدخاله في وحدة مع الجدل مع الحياة.. بقدر ما هو يواجهه كنقيض سلبي يمكن الانتصار عليه ودحره بارتفاع معنويات الروح والإرادة عند الإنسان - تلك النار الحارقة المضيئة في ليل الواقع المعتم :
والليل يأرق
والنيران الكثيرة تغرق قمصاني
دعيني أقول لك الحقيقة
أيتها الحبيبة.. يا أرقي ونيراني :
ماذا ستفعلين بعاشق من الرماد.. غداً ؟! ص 72
وتلعب المرأة - الحبيبة بمختلف مستوياتها الرمزية والواقعية دوراً كبيراً وهاماً في ربط كل من الاتجاهين السابقين في حلقة واحدة هي امتداد القضية حية إلى الأبد منتصرة على الموت حقيقة ومجازاً. كما تلعب المرأة - الرمز دوراً أساسياً في تشكيل المستوى الثالث والأخير من مستويات "حالة التحول" وهو مستوى "الحلم" وذلك من خلال قدرتها الواقعية على التوالد والتحقق والامتداد بواسطة فعل "الطفولة"، أو من خلال قدرتها الرمزية على تعميق الوعي الثوري والفني عند قارئ القصيدة أو الشعر وذلك من خلال الذاكرة الطفولية.
- 3 -
إن مستوى التعامل مع الحلم في إطار "حالة التحول" هذه يغدو مقترناً بالطفولة بأشد رباط، وذلك أما على سبيل الواقع والتحقق الموضوعي القادر على تجاوز الواقع الراهن مهما بدت مساحته شاسعة أمام عصفور صغير جداً :
فنتضاحك بفرح
كما الأطفال حين يتهدم عليهم
كوخ الثلج في الحلم
هنا يتراوح الحلم بالذاكرة من خلال الطفولة المتحققة فعلاً :
وتهدأ لحظة
لأنه يصير جسوراً "تأخذنا لذكريات بعيدة
بعيدة جداً
لا تفصلنا عنها سوى خطوات صغيرة
حيث تصبح مساحة الواقع الراهن الشاسعة بتراكماتها المريرة أضيق من قفزة عصفور صغير جداً :
ولكن كلما ازدهر القمر الشتائي في حدائقه
كلما صارت العصافير الصغيرة جداً
أكثر قوة من العنف والعسف
المتراكمين
ويواصل الحلم الطفولي.. أعني
ويواصل القمر في الهطول ص 101
وإذن فأما أن يرتبط الحالم الطفولي بالواقع المتحقق البديل، كما رأينا، أو أن يرتبط بالتوقع والاحتمال والحدس.. وهنا يصبح الشاعر رائياً بالدرجة الأولى وحادساً، حيث يرتفع الواقع درجات واسعة عن الأرض، نحو التجريد والتخيل والحلم المطلق الذي لا يعني استحالة تحققه بقدر ما يعني استحالة نفيه.. وكأنما هو الأثير أو الهواء الذي يستمد منه الإنسان القدرة على الحياة والبقاء والتصدي.
إنه، هنا، الذاكرة الطفولية الغريزية لدى الإنسان راح الشاعر يفجر ينابيعها السخية المدفوعة تحت ركام الواقع وصخوره، وإذا بالخرافات والأساطير تغدو حقائق مصدقة عند الشاعر، كما هي عند الإنسان البدائي، كما هي عند الطفل وعند الشاعر أو الفنان، حيث تزول الحدود بين الواقع والتوقع، بين الحلم والذاكرة، بين الخرافة والحقيقة : هل عجب بعد ذلك أن يقرأ الشاعر كف حبيبته :
وفي بؤرة الكف
أراني عاري الصدر
تمسك برقبتي طفلة جميلة
ترتدي لباس البحر
وعند محطة السبابة
تنتصب سرادقات كثيرة
لا أستطيع الحدس بها !
هل للحزن هي أم للفرح ص 91
وهل عجب أن يغدو عالم الميثولوجيا والروح والمدن الفاضلة عالماً حقيقياً قائماً على أرض الواقع مرتكزاً بركائز الحلم الطفولي عبر الذاكرة الجماعية للإنسان :
"في السرير الذي أعلى من الغيم" ؟
ونحن في الشهق الشاهق
في السرير الأعلى
حيث منبت المطر
وحيث لا نوم
كنا نصنع الأطفال كما يحلو لنا
نرسمهم.. نلونهم
نكسيهم.. نعريهم
فوق السرير الذي أعلى من الأشياء
نخلق ونخلق
ونتفرج على المطر.. من هناك ص 54.
إن الشاعر، هنا، ليس رائياً فقط وإنما هو خالق، وهو هنا من فوق سريره (الفوقي الأعلى) من الأشياء، والذي هو عند الصوفية "الأفق الأعلى" وهو نهاية مقام الروح وهي الحضرة الواحدية وحضرة الالوهية، لا يرى الشاعر أشياء ستحصل وعوالم ستقوم وأحلاماً سوف تتحقق، وإنما هو يحيا ذاكرة طفولية متحققة بالفعل وموجودة في غرائز البشر تهطل من سماوات الذاكرة الإنسانية أو ما يسميه القرآن بالخلق الأول حي لا تأخذه (الله) سنة ولا نوم وهو على كل شيء قدير ..
تهطل أطفالاً :
نعلمهم المشي
فيتدافعون كالسكارى
من الخمرة التي أحلى من المطر
حيث يمكن أن يتفرج الآلهة - البشر على ذلك المطر الطفولي من هناك، من سماء الروح العليا، وهو يهطل على عالم الواقع ويكنز روح الإنسان بالأمل والصمود والقدرة على المواجهة والانتظار الذي يستمد من تلك الينابيع الطفولية رغبة في التحقق والتحرر من عبودية الواقع. وبذلك يتم للشاعر التحول، فعلاً، بعد امتلاك مثل هذا الإيمان والوعي وطاقة الحلم والسيطرة على ينابيع الذاكرة الإنسانية وبالتالي القدرة على صياغة العالم من جديد فنياً في الأقل :
نلمس أحجار الطريق ونحولها زمرداً
وربما تكون هذه "الفوقية" الصوفية والرغبة في معانقة الحب المطلق، وإن كان حباً واقعاً عبر رمز المرأة كما أوضحنا، هذه التي تتبدى في تجربة "قل الحب" هي التي يمكن أن تصم هذه التجربة بالاسترخاء الفكري والنفسي في بعض جوانبها.. حيث كل شيء أكبر من طاقات البشر وتصوراتهم وقدراتهم الحسية والمعنوية :
نبدأ هكذا
من حيث تبدأ الأقدام
ولكننا لا نصير إلى ما تصير إليه
لطرقات دموعنا همهمات تختلف
......
من حيث بدأنا سيبطأ الآخرون
لكنهم لن يصلوا إلى ما حيث سنصل.
وهنا، من هذه (الفوقية) التي قادت إليها مستويات التحول التي جئنا على ذكرها، يبدأ الشاعر بالنكوص عن واحد من طرقات الوصول إلى المرأة - الرمز وهو طريق العشاق رفاق النضال، وإن كان نكوصاً نسبياً يأتي على حياء وعبر انفلات وشطح صوفي، لكنه يقود إلى التمايز بين العشاق أنفسهم حتى وإن كانوا قد اكتووا بذات النار، ووقعوا في نفس العشق، وأرقتهم نفس المعشوقة :
وحين يغفو عشيق في كتف العشق
ندفعه فيقع في الشغف
وبد ذلك لا يهدأ له ليل
ولا تسعه نهارات
غير أن النكوص أو المشكلة يكمن كل منهما في النتيجة الأخيرة وهي :
لكنهم لن يصلوا إلى ما حيث سنصل
وهنا لا يملك الإنسان إلا أن يتساءل : لماذا ؟
ونحن هنا لسنا في صدد طرح إجابة سوى ما طرحناه من انجراف الشاعر، نتيجة لحالة نفسية، في غمرة الحب الصوف وتجلي الروح في حالة من حالات عزلتها المتوهجة، وذوبان في بحر التجليات الصوفية التي لا تخلو من الشطح أحياناً. وهو ما وقع فيه الشاعر هنا.
دون وجود غيره من مواضع في تجربة "قلب الحب"، كلها، وحتى في حالة التأرجح، التي جئنا على ذكرها، بين اليأس والأمل.. فيما عدا بعض المواضع التي يبرز من خلالها مثل ذلك الانجراف لحالة من الوجد الصوفي العميق، حيث يبدو الشاعر العاشق مأخوذاً كالصوفي بالمعشوقة - الحق ومنجراً وراءها بقوة فوق إرادته واحتمالاً معاً. وتتمحور هذه الحالة الانجرافية حول مفردة " الغرور " بشكل خاص، مثل قوله :
أقول لك كلمة الحب قبل فوات الأوان
وأنت تلعبين بي وبلهثي
وبالوقت الذي يلهث معي
هل تسمعين أيتها الغرور اللاهث : أنت قلبي. ص 64
ومثل قوله : وأنشر حضني أستقبل غرور النضج في قناديلك. ص 12
وقوله : لماذا تنظرين إليّ بغرور هكذا ؟! ص 74
وهذه الحالة تقود بالنتيجة إلى المرحلة الثانية من مظاهر التجربة الصوفية في "قلب الحب"، وهي الاستغراق في الحب والتوحد بالمحبوب.
* قلب الحب :
ليس جديداً على تجربة قاسم حداد الشعرية استخدام الحب والحبيبة ومشتقاتهما : رموزاً وأقنعة واسقاطات موحية، فهي كثيراً ما تدور في شعره حتى على مستوى الأنثى - الرمز كما هو واضح، مثلاً، لا حصراً، في قصيدة (الدم الثاني) كقوله :
فهذا الوطن - الأنثى وأنتم
وللمعشوقة في علاقتها الرمزية بالعاشق مساحة واسعة إذ هي تلعب دور الرمز الأساس في هذه القصيدة الطويلة.
ولكن الجديد، حقاً، في تجربة قاسم، هو هذا التركيز الواضح على رمز الحبيبة في تمحوره حول مفردة "القلب" التي لا تخلو قصيدة منها أو من مشتقاتها أو ما يوحي بها إلا فيما ندر. وكذلك التوحد مع الحبيبة المعشوقة عبر وسائط قد تبذو متنامية أحياناً دون قانون يماسك بينها، وسائط من الحب والعشق والوجد والوله واللقاء والعناق والغرور والموت والقتل والتعب والحنين واللهفة والانتظار والليل والسؤال والنوم والسكر والوصول والتحول والغيبوبة والكلمة، الكتابة - الشعر والتوق والسفر والارتحال والرغبة والرهبة والغربة والهديل والغناء والرقص وكلمات السر. كل هذه الوسائط تنحو منحى صوفياً في صورة أو أخرى وبدرجة أو أكثر وتبعاً لمساحة استخدامها وعدد دوراتها.
أما الحبيبة فقد وقفنا عند موضوعتها بالتفصيل في علاقتها بالشاعر وبالموضوعات الأخرى التي تتداخل معها، وذلك في علاقة مع موضوعة الحب في امتداده بين نقطة التوتر والانشداد والانجذاب المتمثل في لفظة مثل (الوجد) ارتفاعاً بخطة البياني نحو الذروة في كلمة مثل (العشق) ثم امتداداً به نحو (الشوق) المصحوب باللهفة والتوق والحنين والتعب والرغبة في ال وصل، انتهاء إلى لإق (الحب) الذي يستغرق الشاعر استغراقاً مطلقاً حيث يوصله لحالة من حالات التصوف من خلال ذلك الاستغراق الصوفي عبر الذات، لأن (غوص المتصوفة في الخصوصي والفردي، كما يرى الدكتور علي زيعور، هو ما أدى بهم إلى بلوغ البعد الإنساني الواسع والمجال العالمي الرحب.
ونحن نرى أن توزع خارطة هذه الوسائط المرسومة في خط بياني بين الوجد والحب، يتم وفق المستويات الثلاث التي درسناها لحالة التحول. فمجموعة من الوسائط مثل : الوجد والتعب والقتل والموت والرهبة والغربة وغيرها من مثيلاتها تدخل ضمن إطار ما أسميناه بمستوى التأرجح بين الموت والحياة، واليأس والأمل. أما وسائط مثل الحنين والشوق والرغبة والسفر والرحيل واللغة ومثيلاتها من الانفعالات، فتدخل ضمن حدود ما اسميناه بالتوجه. وأخيراً وسائط مثل الحب، الطفولة، الحلم، الذاكرة، الوصول، الغيبوبة، السكر، المطر، الإيقاع، ومثيلاتها من المجردات، فتدخل في مساحة ما أسميناه بمستوى الحلم الطفولي. كل ذلك في سياق حالة التحول من مستوى التأرجح إلى مستوى الحلم، وهم ما يقابله التحول من حالة الوجد إلى حالة الحب. ويقابل ذلك من الناحية اللونية التشكيلية الانتقال من الأحمر إلى الأخضر إلى الأزرق فالأبيض الذي يبطل أن يكون لوناً.
ويمكن تلخيص كل ذلك في هذه الصورة اللونية :
لمنحنيات انتظارنا نكهة الأحمر
وإيقاع الأخضر
نكتب عصافير كثيرة (وهنا إيحاء بلون السماء الأزرق). ونزرع أقواساً قزحية ص 50
ويبقى الآن أن نقف من مفردة "القلب" لنكمل دراستنا لملامح النزعة الصوفية في "قلب الحب" ونصل بذلك إلى أفق هذه التجربة الفنية كما نصل إلى ينبوعها الأساس في آن واحد.
إن القلب هو محور هذه التجربة التي تدور حول قطبه المغناطيسي الجاذب كل الوسائط والمفردات والصور والعواطف والحقائق والأخيلة والرموز والأحلام والذكريات. والقلب عند المتصوفة يدخل في "علم القلوب" لديهم، وذلك نظراً لأن القلب في التصوف هو موضع المعرفة التي تعتمد الحدس والشعور أكثر من اعتمادها العقل والتفكير الذهني، فهي أقرب إذن إلى الشعر والعواطف والانفعالات والنبوءة والحلم.. كما أنها تقع في مراتب حسب وسائط المعرفة وقوتها الانفعالية والحدسية.
والتصوف هو أولاً وأخيراً، كما يرى الدكتور زيعور، علم المكابدة والمجاهدة، وهو علم الرياضات الروحية والبدنية. كما أن الشوق، أحد وسائط القلب إلى العالم ومنه، هو " نزاع القلب إلى لقاء المحبوب".
من هذه المنطلقات الصوفية البحتة يمكننا، دون أن نصنع من التجربة الصوفية عكازة تتوكأ عليها تجربة الشاعر، يمكننا معرفة عالم القلب عند قاسم وآفاقه الممتدة بين الخاص جداً والعام جداً أيضاً. فهو قلب الشاعر وقلب الكون معاً ينبضان نبضاً واحداً ويخفقان بحب واحد دون أن ينقطع بينهما في لحظة من اللحظات حبل الوجيب المشترك. ولأن الحبيبة أو المرأة - الرمز هي الامتداد المشترك بين قلب الشاعر (في حالتها الأنثوية والعاطفية) وبين قلب الكون (في حالتها الرمزية)، إنها الحلقة الموصلة بين الداخل والخارج، الخاص والعام على النحو الذي بينا في علاقاتها المختلفة، فإن التوحد معها يغدو بالنسبة للشاعر أمراً لا مفر منه في حدود مساحة ذلك (القلب الكوني) إن جاز التعبير، فهو يخاطب تلك المرأة - الرمز قائلاً :
أنت قلبي
فتجيبه تلك المرأة - الكون : -
- تعال.. سنلتقي هنا
.. في قلبي ! ص 163
وذلك بعد أن فتشا في كل زوايا العالم والغرف التي رسمها الأفق فلم يجدا مكاناً مناسباً للقائهما سوى القلب : حيث هناك فقط :
وفي بهجة السهو
كركر الكناري وفتح أحداقه لي
كنت هناك.. وكنت.
سهونا معاً..
ذبنا في قلب الحب
وفي هذا الفيض الحبي المطلق من العاطفة الكونية، الذي هو أشبه بالاستغراق الصوفي (السهو) في حضرة الالوهية أو الحضرة الواحدية النورانية.. في هذه الصحوة الروحية - النرفانا، تمحي الحدود تماماً بين الأشياء وتدخل المتناقضات في بعضها دخولاً جدلياً سعيداً في وحدة نورانية مطلقة، حيث يغدو الحلم واقعاً، والذاكرة حضوراً، والحنين وصالاً، والحبيبة (صلاة) قائمة كالأبد :
صليل كلماتك يحيط بي كخاتم حبي
أخبئ قلبك في قلبي
بين جحيم هاجم
وجحيم كامن..
واصلي..
يا نار.. كوني برداً وسلاماً على العاشق ص 165.
ومن خلال التوحد بالحبيبة في قلب الحب يبدأ آخر مستويات حالة التحول وهو "الحلم" في التحقق الفعلي في قلب الشاعر.. وذلك من خلال العديد من الأطر التي تتحرك في داخلها صورة الحلم بشكل ما، حية زاهية معبرة عن نفسها في عدة أشكال وألوان متداخلة متمازجة القة تهي أشبه حالاً بقوس قزح، أو "شال الحبيبة القزحي المتأجج".
أولاً - الزمن النفسي :
وفي إطار هذا الزمن يذوب الحاجز السميك الفظ بين الماضي والحاضر والمستقبل، ينكسر زمن الساعة، وتبدو الأشياء والأزمنة في انصهار دائم بفعل الحب و"الجحيم الكامن" في الروح. حينما تغدو الحبيبة :
جديدة كالوقت
تلمعين كجوهرة خارجة من العذاب
المسك.. فيضرب اللسع أصابعي
لماذا أنت حارة هكذا
كيف يمكنني أن أحضنك إذن ؟
سأبدو كمن يدخل الحرق مختاراً
إن الحبيبة الرمز هنا قوة فعالة من قوى التوازن مع الواقع وهي، هنا، طريق وغاية للتحقق، هي التوقع والوقوع معاً في إطار الزمن النفسي :
علميني.. كيف أجيء إليك..
دون أن أذهب
دون أن أحترق
وإلا فإن الوقت سيمر على أشلائي
تعالي، أصير جوهرة..
.. وأنت عذابي ص168
ثانياً - ذاكرة الحلم :
وفي هذا الإطار يبدو الحلم وقد أصبح شجرة تنبت من جذورالذاكرة، حيث كل شيء مهيأ للنمو والخصوبة والتجدد والاخضرار.. فالتربة النفسية مزودة بالذكريات الحالمة الحميمة، والقلب، وعاء العالم الصوفي موضع المعرفة، مكتنز ببذور الرؤى والمشاهدة.. وليس ثمة شيء يحول بين الماضي والحاضر منفتحاً على الآتي، فالأزمنة ذائبة في إطار الزمن النفسي، وحرارة الحب النورانية باتت قادرة على صهر المسافة بين كل المتناقضات، إذ بعد أن أصبح الواقع حلماً تحول الحلم، في دورة متصلة متنامية، إلى واقع يستمد وجوده من الذاكرة وكان (السهو) برزخاً موصلاً :
من السهو..
جاءني الكناري وكنت في الحلم
رأيت في أحداق الكناري
وكنت هناك
ذائبة كالرؤيا
مهموسة كالحب
قلت : (ماذا تريد ؟)
قال : (أخرج من حلمك)
خرجت
فوجدت نفسي في حلم آخر
وليس أمر الكناري بغريب على سماء الرؤيا ولحظات التجلي، فهو دائماً يحمل النبوءات لكونه رمزاً لرغبات الروح وتجلياتها، وإن تعددت صوره وبات كل يوم في صورة مما يتناسب واندغام عوالم الرؤى وتلونها وتداخل أشكالها. فالكناري عند المتصوفة هو طائر الروح.. كما هو يتبدى في صورة ورقاء لابن سيناء وقد هبطت عليه من المكان الأرفع. وهو طائر الفينيق المتجدد الذي يخرج من رماده أبداً معلناً النبوءة الجديدة، وهو عند المتصوفة كالعطار مثلاً كطائر الكناري نفسه، كما عند قاسم. ويلعب العصفور والعصافير والنورس أيضاً، أي الطير بصفة خاصة، نفس الدور عند قاسم في تجربة "قلب الحب" حيث تخرج في معظم صوره اللونية من الأزرق رمز الحلم والرؤيا سماء الروح، أو من الغفوة حيث صحوة الروح. إننا لو تتبعنا حركة الطائر عند قاسم بمختلف أشكاله وأجناسه وحتى بمختلف ما يدل عليه من أجزاء وإيحاءات كالجناح والطيران والريش لوجدنا أن الرمز يتجه نحو الحلم موصولاً بالذاكرة ضرورة، الحلم الذي يستمد وجوده من الذاكرة الحقيقية، لذلك هو يرتبط أشد الارتباط بالحبيبة - الأنثى والرمز معاً :
1. "هذا القلب لا يستريح إلا في جناحك" ص 148
2. " ماذا ستقولين للنورس الهائم في فراشك حين يخرج من الغفوة "
ولا ريح تحت جناحيه" ص 149
3. والأخضر ذلك الطائر الشقي الذي "لا يسعه الفسيح فقط يضع خده على الغصن ينتظر وينتظر" ص 142
4. " وسورت نوافذ زنزانتي..
بعصافير المطر الشقية
العصافير التي لا تهدأ
والتي لها تغريد يتصل..
بالليل من هناك
وبالنهار من هنا ص 134
إن فعل الطيران نفسه وما يوحي به ويتصل في تجربة "قلب الحب" سواء ارتبط بالعصفور أو الكناري أو النورس أو الفراشة أو الجناح بشكل عام، هو فعل حي، رشيق الحركة زاهي اللون، يربط بين جذور الذاكرة الحية وغصون الحلم المتناثرة في سماء الروح.. حيث يمكن للشاعر أن ينعم بالحرية رغم الظروف المعاكسة من حوله، كما يلتقي على جناحيه بالحبيبة الأنثى التي تكتنز بحضورها الذاكرة رغم غيابها (تعالي وأنت هناك) مرسلاً إياها بواسطة ذلك الفعل الرشيق رمزاً متلوناً حياً كجناح الفراشة في كل فضاء الكون وسماء اللون الأزرق :
اكتشف شجيرة النارنج
تجلس تحتها فراشات صديقة.. زرقاء
تتناول حليباً بالقهوة
ثم تنام ص91
3 - ألوان قوس القزح :
إن الشاعر فيقلب الحب يلعب بإيقاعات اللون المختلفة وكأنه يعزف على ألوان قوس قزح. وإذا كانت الإيقاعات اللونية تدخل في الجانب الشكلي لبناء القصيدة أو التجربة مما سنتناوله في مكانه من هذه الدراسة , فإن تتبع هذه الأق اللونية أو بعضها في علاقاتها ومدلولاتها النفسية والفكرية، يدخل حسب اعتقادنا في إطار صور الحلم المتعددة كمستوى ثالث من تنامي تلك الصور نحو التحقق الفعلي، وإن كان ذلك على مستوى التجربة النفسية والفنية فحسب. فنحن نلاحظ في تجربة "قلب الحب" إيقاعا نفسيا فكريا متنامياً للون في علاقته بالألوان الأخرى بحيث يأخذ له مساراً تجسيديا لمواقف الشاعر النفسية والفكرة متجها نحو شفافية الرؤيا والحلم.
ان كل لون في حقيقته هو رمز لمدرك من مدركات لواقع أو عاطفة من عواطف النفس أو الهجس من هواجس الروح وتشوفها. وإذا ما نحن قسمنا الإيقاعات اللونية في قلب الحب الى هذه المستويات الثلاث المتنامية، دون أن نقصد تحليلا ميكانيكيا أو مساحات يندرج تحت كل منها عدد من الألوان المتقاربة ومشتقاتها وما يوحي بها، وهي :
1- الألوان الكابية
2- الألوان الحارة
3- الألوان الزاهية
وتتمدد هذه المساحات الثلاث بين زاويتين حادتين هما الأسود والأبيض مع الأخذ في الاعتبار حيوية الجدل والتداخل بين هاتين الزاويتين المتقابلتين بشكل حاد تداخل الكلمة بالنور والليل بالنهار.
وترمز الألوان الكابية كالأسود والرمادي الى شيخوخة الواقع المنطفئة وروحه الهرمة ومرارته وقسوة ملامحه الميتة :
هنا.. حيث جذر الخنصر
أرى المقعد الأسود الذي يسهر بي..
ويثير غضبك
ومن الملامح النفسية لهذه المساحة اللونية الكابية ارتباطها بحالة من التعب والسأم والمرارة وعدم المصالحة التي تعكس الموقف النفسي للشاعر من الواقع :
ليل وسكون
والجميع يهبطون في آبار النوم العميقة
ذات الأحلام
وأنا وحدي هائم في غابات الليل
مهلهل الأطراف
أهجهج كالنورس الضائع المنتوف
لا أهجع ص 17
أما المساحة اللونية الثانية فتمثل إيقاع الخروج المنفجر من اللون الكابي الى حرارة المواجهة. وفي الحقيقة فان كل المساحات الكابية الواردة في " قلب الحب " كانت تنطوي على بذرة المواجهة أي على قابلية التحول باللون الأسود الى الألوان الصارخة الحارة كالأحمر والبرتقالي والأصفر. فالنورس ذو اللون البيض يهجهج ولا يهجع، أي لا يستسلم لغابات اللون الأسود، بل يرفض :
ولا أهجع
يختلط الفردوس بالجحيم في لهج صريخي ص118
ونفس الديالكتيك الموجود بين المساحتين الكابية والحارة هو موجود كذلك بين المساحة اللونية الحارة والزاهية مما يعكس رؤية الشاعر ورؤياه معا في لحظة عناق، كالذي هو مع الحبيبة - الرمز في إطار المواجهة والحلم :
انتظري..
أنها تخرج من الجمر
لابسة لونه ودفئه
ثم يكون السفر في اللون الأزرق على مراكب البهجة وتحت اشرعتها البيضاء :
يا مراكب الرحيل
انتظريني.. انتظريني
أنا قادم مع هذه الحبيبة
التي تسافر بلا حقائب
وحين ينفسخ الأيقاع الزاهي للون.. الأزرق، الأخضر، الزمرد، الليلكي، اللازوردي، نكون قد دخلنا بصورة الحلم في اطارها الثالث والأخير من هذه الدراسة حيث " شال الحبيبة القزحي المتأجج " وحيث " يواصل القمر في الهطول " حيث " تمسك برقبتي طفلة جميلة ترتدي لباس البحر. وحيث " يكتشف الشاعر شجيرة النارنج تجلس تحتها فراشات صديقة زرقاء " و …
سبحان المزاج الرائق الذي خلقك هكذا
من كرمة العنب الأزرق
في تنورة ليلكية
ويبحان المنجم الذي سيسقي أضلاعي
زجاجا زاهيا فأصبر قدحا ينتظر.
وسبحان الفراشة التي تخرج من الشمس ص84
ويمثل اللون الأبيض نهاية الوان الطيف، وهو الأفق الأخير والأول الذي تغني فيه كل الألوان والسبحانيات ومراحل التحول وايقاعات اللون. انه معادل رمزي لحالة الحب الشمولية الكونية، حالة الحب الصوفية المنطلق الذي استغرق قلب الشاعر العاشق :
سبحان الحب الذي أخرجني من سبحانياتي وهكذا يغدو الحب أفقا للكون الأبيض أفق الألوان :
وأشتاق اليك
كالأبيض للالوان
وهكذا، قليلا قليلا، تتقارب الدائرتان : الحب والأبيض، الأبيض والحب.. تتعانقان، تتطابقان : الذات والعالم، الشاعر والقصيدة، الواقع والحلم، النبع والبحر، المركز والمحيط. وتقفل الدائرة الواحدة على نفسها المحيط، لتستمر حركة الحياة فيها هادرة حيث تعتنق النهاية بالبداية في جدل حي لا يموت بين مبتدأ الحب، تترابط الذاكرة بالحلم والجزء بالكل والخاص بالعام والذرة بالكون.. ويغدو الحب كل شيء، يحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء :
مرة - اذكر -
من سنوات طويلة
قلت : ( أحبك )
ومن ساعتها - تذكرين ؟! -
قامت القيامة
ولم تقعد بعد ص39.
في هذا القمقم الصغير - الحب - كان يختبئ مارد هذه التجربة الفذة. وبكلمة السر وحدها - هذه - يدخل العاشقون فراشات الى " قلب الحب ".

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى