عن الشاعر وتجـربته

"قبر قاسم" أنشودة للصمت

ياسين رفاعية - لندن

إلى أي مدى تدخل تجربة الشاعر البحريني قاسم حداد مجال المكابدات في مجموعته الشعرية الحديدة "قبر قاسم " حيث يخيم الموت على سطورها. وحيث يجهش في المكابدات المشحونة بقمة التجربة، فيسيطر الندم في اكثر من مكان ويضمحل ضوء النهار في عز الظهر،... عالم قـاسم حداد شاسع وراء صحراء من يباب.وراء خيبات امل أن في الحب أو في الصداقة أو الانتماء.
في الكتاب الأول " فهرس المكابدات" الذي استمرت كتابته ست سنوات، فهو يذهب فيه " لترجمة الليل" حيث النص شهوة اللغة.
( من أنت، من أنت/ تبكي على أمة/ أم تراها ستبكي عليك/ غطيت شعبا بمرثية الماء/ صحراؤك محزومة بالملوك/ فمن أنت؟ )
هذا التساؤل الذي يطرحه الشاعر نابع من الخيبة الكبرى التي عاشها مثلما عاشته مثله الملايين العربية، يتساءل كل امرئ فيها من أنا، و الشاعر يتلبس هنا الإحباط العام خلال الإحباط الخاص. و خلالا هذا النهار الحاصل ليس في الوطن كجغرافيا بل في النفس العربية بكل سقوطها المريع.

الصوت و القارئ

انك لا تستطيع قراءة هذا الكتاب إلا داخل نصه، و أي قارئ يجد نفسه فيه. فكأن الشاعر هو الصوت و القارئ هو الصدى. ف (قرأت دمي مثلما يقرأ الليل وجه قاسم).
انه عالم جواني إن صح التعبير، عالم ملئ بالهم الإنساني أولا ينعكس على ذات الشاعر فتتحول القصيدة نهرا من الحزن الشفاف أنشودة لا تغنى إلا بالصمت، وهو شعر ملئ بالإيحاء، ملئ بالشغف النقي كنبع الماء، فالحب فيه نجوى و نجاة من هذا الواقع الرديء مماحكات القدر حيث كل شيء مكتوب ولا مفر من المكتوب، قدرية تملأ القصائد، لا من قصد الشاعر، بل من واقع الحال، واقع الصحراء بيباباتها وواقع الأرض المثخنة بالجروح و النفس المثخنة بهمومها.
وصوت قاسم حدادا القادم من عمق الصحراء، صوت حنون وقاس في آن واحد، حنون مع القصيدة و قاس مع هذا الواقع الذي يشرنق بآلامه فوق الرؤس.

و "قبر قاسم" إضافة ممتازة إلى قصيدة النثر التي أخذت مكانها أخيرا إلى جانب الشعراء سواء بسواء بصبر روادها من تأصيلها بدءا بأنسي الحاج و محمد الماغوط و أدونيس وشاو ول وشوقي أبي شقرا ورفقة وغيرهم من الأصلاء الذين أخذوا على عاتقهم حمل هذه الشجرة المثمرة حتى النهاية.
وفي قبالة الحياة يسيطر الموت، انه نهاية للحلم الوردي، ونهاية للشغف باللحظة اللذيذة، وهو يظل موجودا بين هذه اللحظة وتلك منذرا، لا يهاب الرغبة ولا يؤمن إلا بكسر الروح.
"جسد ينتهي كلما اشتهى ويبدأ حين يعلن الآخرون هدنة بين موتين. جسد اختبرته الجسور و امتحنه الحب. أجلته لأجلك بذريعة المخطوطات، وهاهو يدخل الحروب كأن الأبجدية لم تعد تكفي"
يفهم قاسم حداد الشعر مداخلة بين الحياة و الموت، ويفهمه أيضا محاكاة لكل هواجس النفس التي تمور بأوجاعها لأنها تستكشف ما هو عاص على العين العادية، و كلما ازداد توغل الشاعر ازدادت عذاباته وجهر بجوعه إلى تلك اليوتوبيا التي يحلم أن تراوده في كان ما تحت شمس ما في أي بقعة في الأرض.
وهو كما قال لهم :
"بيني وبين الغابة مسافة / بيني وبين الأسلحة مسافة / بيني وبين القطيع مسافة / بيني وبين الله نص مكتوب /لا يخرج عنه ولا أخرج عليه / كانوا يسمعون / وكانوا يرون )
هكذا يصغي الشاعر للنشيد، هو ارتفاع يشبه تشكيل الموسيقى السيمفونية، بين إيقاعاتها الهادئة وإيقاعاتها الصاخبة. ويجيد قاسم - فعلا- هذه اللعبة الموسيقية، فتندرج القصيدة عنده في مناخاتها بدءا بهسيس الآلات، ثم ترتفع آلة تلاحق آلة ثم يتجمع اللحن على وتيرة واحدة صعودا إلى الذروة. هذا ما نلمحه في النشيد الأول من الكتاب، كما لو كان نوتة موسيقية مكتوبة بالشعر و مرسومة بالكلمات لا بالأحرف الموسيقية.

قبر قاسم

الكتاب الثاني " قبر قاسم " أنجز وحده من عام 19989 إلى عام 1991 يشغله السفر والرحيل، والذهاب أبعد إلى " غبار الخيول الوحشية"فهو ليس نزهة، فكأن ما يراه الشاعر - حسي تعبيره - هو الكفن المنتخب، هو الحرف في الكلمة، ينتابه البرق فيحلم.
يختلف هذا النشيد عن النشيد السابق في كثافة المعنى ووضوح المضمون. وتلون الصورة بأبعادها الظاهرة و الخفية، فإذا بقاسم حداد يجيد في الكشف عن الذات، وفي هزهزة الغموض كما يحصل تماما عند إلقاء حجر في البحيرة الراكدة، يتحرك الوحل فيموه الصورة، ثم سرعان ما تظهر على رقتها ورونقها.
هي لعبة ذكية من غير شك، تختلف عن " لعب" أنسي الحاج وخصوصا في (لن) الملآى بالمداعبات الظاهرة لتكشف في الختام عن ظلام النفس و أحزانها. فهو سيد الإصغاء " واحتجت لمن يبادلني الصمت، فتحت شرفة وملأت رئتي بنعمة الريح وحيدا كنت مع انتظارك وما اكتفيت".

جنة الأخطاء

إلى "جنة الأخطاء" الكتاب الثالث، يحاول الشاعر أن يذهب بعيدا إلى عالمه الأسطوري و إلى تعويذة السفر وليل السرد، متخطيا بهرجة الواقع المزيفة، وسطحية اليوم المعيش بتراكيبه الموضوعية ضمن الزمن المحدد، فيوم الشاعر غير اليوم العادي، وغير الصورة المكرورة بين المشرق و المغرب، بين النهار و الليل، وهو يتلبس الآخر يروي عنه، الآخر هو الشاعر نفسه الذي :
" جاء مكتظا بالبكاء / لا الكتف له و لا النهر/ يحصي قمصانه المتعبة لفرط الطريق/ ويخدع النوم بالليل/ لئلا تطاله يد المسافة"
ويعلن الشاعر في الختام عن نفسه، كما نظن غيه دائما، وكما نعرف أنه من معدن الشعراء :
لا أحد يعرف الحجر مثلي / بذرته في أجنة الجبل /وربيت فيه وردة المعدن/ فشب مثل طفل يمشي.. وتبعت خطاه/صمته قلب يصغي / وعزلته أبجدية تعلم الكلام / صقيل يشف عن الكنز/ وينبثق في كتب وفي مرايا / اقرأ فيه زجاج الجنة / وتعويذة العشق / يتصاعد خفيفا ويمنح الريح صداقة الكتاب مثلي "
وهكذا يبني الشاعر مدينته الشعرية، يبنيها بالروح و الدم و الأعصاب،وتبدو لنا أنها مدينة متفردة، غائصة في الأعماق. فماذا يريده الشاعر غير ذلك ؟ ماذا يريد غير قصيدة على قد قامة الشعر، ليست رثة الثياب بل نظيفة وموحية تحكي الشعر للشعر. وتستوعب التجربة بكل أبعادها النفسية و الروحية بدون تصنع ولا زيف. وقد عير عنها اصدق تعبير الفنان ضياء العزاوي عبر رسومه المكثفة بالبيض و الأسود داخل الكتاب.

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى