عبده وازن - لبنان
ترى هل من الممكن التمييز بين نص قاسم حداد ونص أمين صالح في كتابهما المشترك "الجواشن" أي بين نصين لشاعر وقاص يملك كلاهما رؤيته الخاص ولغته ؟ ربما لم يعتمد الشاعر والقاص مبدأ "الكتابة المشتركة" كي يدمجا تجربتيهما دمجاً عميقاً ولا كي يفصلا التجربة الواحدة عن الأخرى وإنما كي يكتبا نصاً واحداً ينطلق من هاجس واحد يتوطد عبر السياق الداخلي للتأليف المشترك. ولو حاولنا أن نقرأ النصوص المتوالية قراءة تحليلية أسلوبية لتمكنا بما من التمييز بين لغة الشاعر ولغة القاص. فالنصوص المشتركة هذه غالباً ما تقوم على مستويين واضحين أسلوبياً ولغوياً : مستوى شعري ومستوى سردي. وإذا كان الشعر هنا يبغي التحرر من أسر اللغة والمنطق فإن السرد لا يتخلى كثيراً عن فكرة صياغة العالم وإضاءة الواقع.
نص مشترك يجمع تجربتين مختلفتين تصهرهما رؤية واحدة هي منطلق النص وهدفه البعيد. لكنه نص شديد التنوع، غني العناصر، يتوحد ويتبعثر في وقت واحد، يتوتر وينساب، ينقبض ويتراخى، يهذي ويتداعى حيناً، ويعي أحياناً أبعاده الداخلية وبنيته. نص يعيد إلى الذاكرة مبدأ " الكتابة المشتركة " التي انطلقت عبر الحركة السريالية في السنوات العشرين حين اعتمد الشاعران اندريه بروتون وفيليب سوبو التأليف المشترك ووضعا كتابهما الشهير " الحقول المغناطيسية " وقد عملا بمقولة الشاعر الفرنسي لوتريامون الذي سبقهما : "يجب أن يكتب الشعر من الجميع. لا من واحد ". وإذا تذكرنا تجربة الشاعرين الفرنسيين التي اعتبرت آنذاك خطوة أولى وراسخة على مستوى التأليف المشترك فإننا لا ننسى طبعاً تجربة جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف في روايتهما المشتركة "عالم بلا خرائط ". لكن التأليف الروائي تماماً عن كتابة نص متحرر من وطأة التعنيف النوعي / فالكاتبان جبرا ومنيف حاولا أن يرسما تجربتهما بوضوح وأن يحددا المنطلقات والقواسم وأن يلتزما بنية متينة تندرج فيها الأحداث والشخصيات المفترضة. أي أن لقاءهما هو لقاء يعي تماماً غايته ووسيلته. أما تجربة حداد وصالح فهي تجربة مختلفة تماماً. فالشاعر والقاص يلتقيان حول نص غامض وصعب وحول هاجس داخلي يتفجر لغوياً ويجرف الحدود القائمة بين نوع أدبي وآخر، بين أسلوب وآخر. لقاؤهما لا يكتمل إلا عبر النص نفسه في تناميه وتوتره، لأنه لقاء غير جاهز لا يسبق الكتابة ولا يرسم خطها البياني وإنما ينصهر في جحيمها.
"الجواشن " تجربة مميزة ولافتة لا لأنها ترسخ الكتابة المشتركة فقط، وإنما لاعتمادها المبدأ الاختباري العميق الذي يعيد النظر حقاً في معطيات العالم ولغته. فالنص يهدم العالم ويحوله أنقاضاً ويبني على أنقاضه عالماً جديداً تماماً ينهض عبر اللغة التي يهدمها أيضاً ويؤسس على أنقاضها لغة أخرى. بل ان تجربة "الجواشن" تحاول أن تلغي الحدود التي تفصل نوعاً أدبياً عن نوع آخر والتي تميز بين اتجاه واتجاه، بين نمط وآخر. فالكتابة هنا تعتمد الحرية كفعل إبداعي وتطل على ما يسمى "النص المفتوح" المتحرر دوماً من أسر التحديد المسبق والتصنيف الجاهز.
تهدم الكتابة العالم الأول وتعيد بناءه بدءاً من عناصره نفسها وتنتحل صفة التكوين بل تغدو فعلاً تكوينياً يصوغ التاريخ صياغة مختلفة. والكتابة التي تعي العالم الأول وتتمرد عليه تحول اللغة إلى معادل موضوعي يتم عبره فعل الهدم وفعل البناء. يصف النص الأرض ويتملى ملامحها القديمة فإذا هي "مجوفة لكائنات لم تتشكل بعد"، "خائفة من فناء عناصرها قبل أن تولد"، "تسامر الضجر الكوني" و "ترتجل الهدوء الأول، تزرع في مقلتيها الحلم الشاسع ". غير أن صورة الأرض لا تكتمل إلا عبر ملامح الإنسان محور الوجود وجوهره، وهو كما يقول النص "كائن مغسول بالرعب " يطل " من كهوفه الشاحبة على هذيان الانشقاقات القادمة ثم " يرفع رأسه ضارعاً ". فالأرض والإنسان صورتان مندمجتان في صورة واحدة ووجود واحد. وإذا غلبت الرؤية السوداء وساد الخواء على النص لأن " لا أحد، لا شيء " ولأن "الخراب قادم " و " الأنقاض تزهر " فإن ثمة أملاً واهياً يلوح في الأفق، أملاً بولادة ما، أملاً بالعودة إلى أديم الجذور : " نتفقد منظر تكويننا، نرى عناصرنا الأولى قبل الخلق، نتقمص الولادات ونعد الوداعة إلى جذورنا.. بطيئاً نهمس للحلم أن لا ينطفئ ".
إنه الحلم إذن يمنح النص بعداً تكوينياً أسطورياً ينطلق من أنقاض الواقع وجنبات العالم ويبني أفقه الخاص المفعم بالأضواء ويرد إلى الأرض براءتها الأولى. فالحلم قادر على كشف "البدايات" حين كانت " أمواج المحيط تبلل رؤوس اللقالق ". وهو يتحول أنحياناً إلى كابوس " لا يرى " لأنه كامن في قرارة المخيلة، مدرك للأسرار التي تظل أسرارا. يحاور النص العالم الأول عبر التخييل ويضيء بعض ملامحه ويصوغها صياغة لغوية كاشفاً الجهات القائمة من العالم كشفاً أسطورياً. كأن النص يصوغ البدايات بلغة البدايات أي بلغة تدمج الوهم بالطبيعة والخيال بالوجود.
غير أن النص لن يكتفي بالقراءة التكوينية - الأسطورية للعالم بل يتجه نحو الواقع أيضاً في قراءة متخيلة وميثولوجية تتمرد على الواقع وتحاول تبديله. وتتجلى علاقة النص بالواقع عبر المقاطع السردية الكثيرة التي تتخلل الكتابة والتي تتناسق عبر سياقها العام. وهي تواصل سرداً ما تبدأه المقاطع الشعرية والتداعيات الحلمية. فتبرز شخصيات واهية وطفيفة (أو ظلال الشخصيات) وإحداث غامضة لا تتوضح وكأنها ذكريات أحداث وقعت م لم تقع : "ثلاثة جنود يزدهر بهم القتل يقتادون شخصاً معصوب العينين مقيد اليدين من الخف " أو : "رأيت القرى ترفل في ترف القتل والمخلوقات تتكاسر خارجة من الجحيم المزدهر ".
لا يثبت نص " الجواشن " على حال ولا على مستوى. فهو نص النصوص المتوالية والأنواع المتداخلة والمنسجمة والمتناقضة في وقت واحد. نص شعري وسردي، واقعي ووهمي، أليف ووعر، واضح وغامض. نص يسقط في جحيم اللغة ويصهر ذاته ويصوغ عناصره في سفر تكويني يتدفق كالطوفان الذي يجرف السدود. "لكني وحدي أذهب إلى الهدم الهدم الهدم... " يقول النص راسماً صورة "للعنف الجهنمي" حيث " ليس ثمة ضوء " ومجاهراً : " يا للرعب "، كأن الكتابة تطلع من قلب الجحيم، جحيم الخف والغربة والمنفى بل كأنها تتحول إلى فعل انتقام حقيقي من التاريخ المعاكس ومن العالم المغرق في وحشته : " في المنفى ابتدأت الخليقة " يقول النص، أو " ماذا صنعت بدم الغربة يا غريب ".
وإذا وقع النص أنحياناً كثيرة في شرك الهذيان فإنما من فرط المعاناة التي يحاول أن يعبر عنها وأن يجسدها. فالهذيان طريقة في القول والجنون طريقة في الوجود. لكنه هذيان مركز ينطلق من واقع ما يحاول أن يوجد انعكاساته الداخلية وتصوراته التخيلية. فهو يقوم على التداعي الصوري والذاتي الذي يعيد التأمل في العالم والوجود والواقع بطريقة تختلف عن التأمل العقلي المجرد. وهنا يلمس النص بعداً سريالياً واضحاً عبر اعتماد " الكتابة الآلية " التي تجمع " الإملاء الداخلي " والمجانية والتلقائية في نسيج لغوي صاخب بالغرابة والغموض والتوترات والتمزقات والأوهام والأحلام والكوابيس والرؤى. فالنص ملتبس تمام الالتباس، واقعي حين ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للحلم وغرائبي يغالي في غرائبيته على الطريقة السريالية إذ يقول بروتون الشاعر المؤسس "الغرائبي هو جميل دوماً وليس سوى الغرائبيين جميلاً " ويؤكد علاقة الغرائبي بالواقعي قائلاً أيضاً " ما يبدو باهراً في الغرائبي إنه لا يظل ثمة عنصر غرائبي : ليس إلا الواقع ". ولعل التباس النص يكمن في غموض مادته التي تراوح بين واقعيتها وغرائبيتها فإذا هي مادة مزيج من ذكريات مضت وأوهام لا تنطفئ وأحاسيس لا تخبو، تتناقض وتتآلف في وقت واحد.
إذا حاول نص " الجواشن " كسر الحدود بين الأنواع الأدبية فإنما كي يؤسس فضاءه الخاص والمتحرر تماماً، فالنوع الأدبي أصلاً كما يؤكد " النقد الشكلاني " ليس ثابتاً كنوع في حد ذاته بل هو متحول في تحول ملامحه التي تتطور دوماً.
فالسرد مثلاً في نص " الجواشن " يختلف عن السر كنوع أدبي ويخالف فعله البنائي وحقيقته. وكذلك الشعر يتحرر من النظام المغلق الذي تفترضه القصيدة ويقع في "الشعري" الذي لا يعرف حدوداً واضحة، فالكتابة هنا تمحو وتبني، تمحي وتتشكل، تنهدم وتنهض. الكتابة كما يقول النص أيضاً هي " اختبار الكتابة في غفلة اللغة " ويقول النص أيضاً وأيضاً : "يحدث كثيراً أن يختلط علي شكل الكلمات مع مخلوقات وعناصر لا تحصى " ولا يلبث أن يتحدث عن " خميرة الكتابة " و " براثن الدلالات " و " إخلاط العناصر " و " المعاني المتناهية " وكان الكتابة غرق في ليل العالم وعتمة اللغة وسديم المعنى. كأنها إغراق في الظلمة الأولى حيث تزول الظواهر الخارجية والفوارق والعلاقات وتتجلى المادة في تجليات جديدة.
لكن في غمرة الهذيان والتخبط في اللاوعي الفردي والجماعي وفي وسط الليل الطويل القاتم والأحلام الغريبة يظل الواقع حاضراً شديد الحضور وكأنه الحافز الذي يبرر فعل الهذيان والوقوع في الغرائبية. فالواقع هو الجسد الذي : "صار له تاريخ يحرس الذاكرة " ولم يكن " لينسى تاريخه الجميل ".
يؤكد نص " الجواشن " أن الكتابة المشتركة ممكنة جداً وأن هدم العالم وبناءه أمران ممكنان كذلك لكن لغوياً وأن الكتابة فعل حرية أولاً وآخراً وفعل تمرد على التاريخ والواقع، تشهد عليهما وعلى ما يحويان من تمز قات وخيبات وهزائم ومخاوف وهواجس.
نص جريء حقاً يقول كل شيء من دون أن يتعمد فعل القول أو يصطنع حالاته. نص يهذي ويعي حجم هذيانه، يتذكر ويدرك أسرار الذاكرة، يتخيل ولا يتخلى عن واقعه بل يجعل الواقع ذريعة للقول الذي يخترق الحدود ولا ينتهي.
ملاحظة : " الجواشن "، كما يقول لسان العرب هي جمع جوشن والجوشن هو الصدر والدرع ومن الليل وسطه أو صدره.
صدر الكتاب عن دار توبقال - المغرب في 177 صفحة حجماً وسطاً.
قابلة لأن يتكئ عليها الشاعر، وتسعفه كثيراً، لأنها كانت تقنية جماعية متفقاً عليها، ويمكن أن تؤهل حسب النقد السابق ؛ من يكتب فيها أن يكون شاعراً، أو يبد كذلك. وبعد خروج القصيدة العربية عن هذا التقليد في العصر الحديث، تحولت التقنية الشعرية إلى ما يشبه التقنية الشخصية ولم تعد العناصر السابقة في تقنية القصيدة القديمة كافية لإسعاف الشاعر الحديث لكي يكتب نصاً متوفراً على الشعرية التي يجري الكلام عليها ".
وحداثة قاسم - شأنها كأي حداثة - هي تحول معرفي، سمته الأولى الانتقال من المشابهة السكونية إلى الاختلاف والتحول أو الجدل، أي من التكرار إلى التوليد والتجاوز.
-----------------------
هوامش
شوقي بغدادي، قراءة نقدية في ديوان القيامة، مجلة كتاب، العدد 18 - 1988، ص 107.
مداخلة ألقاها قاسم حداد بقصر الثقافة، أصيلة، المغرب، ونشرت في جريدة الأضواء، عدد السبت 31 أكتوبر 1987، ص 10، العدد (1135).
أنظر قلب الحب، للشاعر نفسه ص 173.
أدونيس، المسرح والمرايا.
عاطف جودة نصر، الرمز الشعري عند الصوفية ص140 - 141.
ابن عربي، الفتوحات المكية، السعر الرابع، ص 192، وانظر كذلك ص 461 وص462 |