عن الشاعر وتجـربته

نص قاسم حداد تشكيل جمال هاشم

عبده وازن - لبنان

يتخذ شعر قاسم حداد صفة النبوءة لا كحالة ميتا فيزيقية أو روحية وذاتية صرفة بل كذريعة للتغيير أو الأحرى لكسر الواقع التاريخي وتجاوزه نحو واقع آخر شديد الاحتمال والتصور. فالشاعر البحراني لا يتخلى عن غضبه لحظة حتى في حالات الصفاء الروحي، حين يرجع إلى النفري مثلاً ويسترجع بعض مقولاته : سيأتيك الحرف وما فيه.. سيأتيك منه السر ". فالدعوة ترتبط أولاً وآخراً بالبعد التاريخي وتنبثق من احتمالات الواقع الذي يصبو الشاعر إلى تغييره. والنبوءة تلتصق بهموم الجماع أكثر منها بالهموم الذاتية للشاعر. فالشاعر هو الصوت الصارخ للجماعة وهو الضمير المستيقظ أبداً يضيء عتمة الواقع. لكن قاسم حداد نبي مكسور، خذله العالم المحاصر بموته اليومي والواقع القاسي الذي لا يلين. إنه نبي رسالته فقط ورؤياه التي يصعب كثيراً أن تتحقق.
في كتابه الجديد "النهروان" يطل قاسم حداد عبر رؤية مأساوية تنهض على أنقاض التاريخ والواقع. ولا تترسخ الرؤية إلا عبر ثنائيتها الواضحة أي عبر سقوطها وانبعاثها المستمرين كلما اقترب الشاعر من واقعه لامس بعده المأساوي وأخذته الخيبة أكثر فأكثر وكلما لامس خيباته التاريخية وجد خلاصة في الشعر، في الهروب عبر الشعر من الهزائم المتراكمة ومن المدن التي "تجرجر عارها". يصبح الشعر معادلاً للواقع والتاريخ كما ينبغي أن يكونا، متحررين من الذل الذي يعيق سيرورتهما ومن البؤس الذي يحاصرهما.
يأخذ الشاعر صفة النبوءة دون أن يشدد على انتمائه الرؤيوي الميتافيزيقي، فهو يعلن رؤاه المغرقة في بعدها التشاؤمي أكثر مما يجدل عل منافذ الضوء : "أرى في ما أرى.. أرى طرقاً ستأخذني إلى طرق ستأخذني إلى طرق ". فالشاعر نبي سلبي مأخوذ بالإحساس العبثي والاستحالة، "شاحب الصوت"، يبكي "في التذكار" هو لا يملك رؤياه في المطلق ولا يحلق في الضباب، إنما قدماه على الأرض مغروزتان بالوحول وعيناه ترنوان إلى عالم يحلم أن يتحقق يوماً ما. وإذا الشاعر يرحل كنبي مرفوض فلكي "يفضح الليل في الشرق" وكي "يشهد الشرق مستسلماً للغروب".
ويرى الشاعر في ما يرى، يرى "القتلى موزعين على المداخل يحرسون قبورهم" ويرى "الجنائز تخرج محتجة" و "الدماء المهانة في موتها" و" السماء التي تضيق بعصفورة الأنبياء ". ويرى المعري "يعري الصلاة الطويلة " / أفيقوا / أفيقوا / ولم يستفق نائم في قبور الجزيرة. إنها الرؤية التي تؤلم ولا تبهج، تصطدم بالواقع وتواجهه وحين تعجز عن تغييره تمعن في تعريته وفضحه أملاً في تبديله يوماً ما. فالشعر الذي يضج بالرموز التاريخية والحضارية يحاول أن يجعل من نفسه بديلاً من العالم منذ أعلن رفضه العالم. بل يحاول أن يجسد مالا يتجسد في الواقع الملموس وأن يحقق الرؤية التي تخالج أعماق الشعر علاقة الشاعر بالعالم لا تتحاشى الخلل الذي يهددها باستمرار. فالشاعر غريب عن العالم في العالم وليس غريباً عنه في تخليه عن العالم. وإن أعلن قاسم حداد رفضه العالم مراراً فلا لأنه يتوق إلى رؤية الغيب وإلى النسيان المطلق، بل لأنه يحلم بعالم أشد احتمالاً واقتراباً.
قاسم حداد شاعر ملتزم ونبي واقعي وحين يسألونه : "تلائم أن تقاوم" لا يملك إلا أن يجيب بالنبرة الغنائية : "أي نهر سيغسل أحزان هذا الوطن". فالشاعر استطاع أن يرقى بالتزامه إلى مستوى وجداني وجودي وأن يحرره عبر اللجوء إلى الرمز من ثقله الواقعي، كما تمكن أن ينزل بنبوءته إلى مدارك العالم والواقع وأن يمزج رؤاه بالعذابات الإنسانية والجروح البشرية، يول الشاعر والناقد البحراني علوي الهاشمي عن قاسم حداد : "بقي مهموماً بقضايا الواقع التي لا تفارقه في لعبه وتجاربه وتوغله في طريق الشعر الجديد. فقد ظلت قضايا الواقع وهمومه القاعدة المتينة التي تربط هذه الحيوية المنفلتة وتشدها إلى قوانينها القوية وجاذبيتها التي يصعب على شاعر مثل قاسم بشكل خاص الإفلات منها".
لا يتخلى الشاعر عن التفاعيل الحديثة وإيقاعاتها المتناثرة ويعتمد أحياناً لعبة التدوير داخل البنية الإيقاعية العامة للقصائد والمقطوعات الشعرية. فالإيقاع يؤكد الطابع "الاوركسترالي" للقصيدة التي تحاول أن تستوحي التاريخ ورموزه، والواقع وأبعاده، عبر لغة سردية وصفية تتراخى أحياناً وتنقبض حيناً. فاللغة "تسعف" الشاعر "ليحتمل الموت" كما يقول قاسم حداد. وحين تؤدي اللغة هذه الوظيفة تقع في المواصفات العامة والملامح الشاملة : تصبح كل الدلالات ممكنة حيالها وتصلح كل المفردات والتعابير لأن تكون شعرية. فتكسر اللغة سدود الكلام وتبعثر حدود القصيدة وتنحو منحى شعرياً صرفاً. يصبح الشعر آنذاك احتمالاً للشعري وغير الشعري.
هكذا يبحث قاسم حداد عن الشعر في المطلق كي يكون الشعر بديلاً غير ظرفي للواقع والتاريخ، بديلاً ثابتاً ربما، تتحقق عبره الرؤى والأحلام التي يصعب تحقيقها في الواقع المعيوش والظروف الحية.
قصائد "النهروان" رسمها أيضاً في الكتاب الفنان جمال هاشم في "رؤية تشكيلية" بالأسود والأبيض وبالخطوط والكلمات. فإذا الرسمة نص يستوحي نصاً وزيوح تصوغ الرؤى والمواقف وتلقي ضوءاً شكلياً على القصائد والمقاطع.@

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى