الشاعر ليس موظفا عند أحد
مجلة الوسط - لندن
موسى برهومة
س / منذ كتابك الأول (البشارة) كان هناك سعي حثيث للتعبير الجماعي عن حساسية التجربة الإنسانية. أنت منذ البدايات مدرك لحدود الكتابة. من أين انبثق لديك هذا الوعي العميق؟
* لا أحد يستطيع الزعم أنه كان مدركاً للأشياء منذ لحظته الأولى. يتعلم الإنسان بفعل الحياة والكتابة. وهذا ما يمكنني الاعتماد عليه في سياق التجربة طوال الوقت وحتى هذه اللحظة. التعبير الجماعي لا يأتي بقرار ولا يذهب بنفي. إذا سمحت لي ببعض التعديل في مصطلح (التعبير الجماعي) سأعتبر أنك تعني التعبير عن الروح الجماعي، لئلا يختلط قولك بالدلالة الفنية لمصطلح التعبير الجماعي. أميل إلى الاعتقاد بأن ثمة حساسية مبكرة فرضتها على تجربتي طبيعة الدور الحياتي الذي انهمكت به منذ بداياتي. وخصوصاً علاقتي بالعمل النضالي المباشر الذي كان متطلباً بالنسبة لشخص وضعته الظروف في مهمات قيادية تكاد تكون أكثر تطلباً من الاستعداد الذاتي للشخص. أضف إلى ذلك أنني كنت متورطاً في الولع بالكتابة بصورة تجعلني أضعها في مقدمة اهتماماتي الحياتية، وغالباً قبل مشاغلي السياسية. وإذا تخيلنا طبيعة التربية الفكرية التي تصدر عنها المنظورات الحزبية اليسارية من مفهوم الالتزام و ووظائفية الأدب والخضوع للجماهير، سوف يكون المشهد أكثر وضوحاً، لكي أبدو آنذاك في مواجهة النقائض كلها دفعة واحدة تضغط لكي أكون مخلصاً لدوري النضالي على حساب طبيعتي الأدبية، حيث كان الشعر وقتها قد استحوذ على كياني. فوجدت نفسي أشعر بخطر يكمن لتدمير الشاعر في روحي. آنذاك تأسست لدي حساسية العلاقة الملتبسة بين الأدب والسياسة. والحق أن الصراع،الذي بدأ يسفر عن أدواته منذ الستينات، لم يكن بيني وبين التنظيم الذي أساهم في قيادته خصوصاً، ولكن الصراع كان أكثر اتساعاً، حيث كان التيار العربي كاسحاً بحيث وجدت نفسي في مواجهة سياقاً فكرياً حديدياً لا يرى إلى الأدب أكثر من كونه موظف يتوجب عليه أن يتلقى التوجيهات ليس من الحزب فحسب، ولكن أن يكون خادماً (وأعني الكلمة حرفياً) للجماهير. من هناك بدأت أضع الحدود الواضحة بين الشاعر في القصيدة وبين الإنسان في النضال السياسي. وعندما كانت جبهة المختلفين معي في هذا الحقل تتسع كنت أشعر بالاطمئنان لسلامة موقفي. هذا الموقف الذي جاءت الأحداث والتحولات على كل صعيد تؤيده وتنتقل إليه جهراً ومواربة، و إذا أردت الحق فإن هناك، ممن كانوا يحتربون ضد ذلك الموقف، أصبحوا الآن يبالغون في الذهاب إليه بحماس ملتبس.
من كل ذلك الدرس الكثيف (حياة وكتابة) أعتقد بأن على المرء أن يتعلم الإخلاص للتعبير عن ذاته بالدرجة، وباقي الأشياء تأتي تلقائياً وبغير افتعال أو أوهام، فالإنسان لا يعيش وحده في هذا الكون. ولشاعر، بوصف تجربة في الحياة، سيكون قادراً على اختزال العالم في النص..
س / أيضاً، منذ البدايات يسكنك هاجس التعبير وشكله، كأنما تراودك، على الدوام، فكرة أن المعاني مطروحة في الطريق - كما قال الجاحظ - ولكن الفنان الحقيقي هو من يحسن التعبير عنها عبر التقاط الجوهري فيها. ما مدى اقتراب هذه المعاني من حدود تجربتك في الكتابة؟
* كأنّ أهمية التعبير الفني والأدبي تكمن في خصوصية شكل التعبير وليس مضمونه أو موضوعه. وكأنّ قطاعاً شاسعاً من الثقافة العربية احتاج لقدر كبير من التضحيات (بالوقت والطاقات والمواهب الحقيقية أحياناً) لمجرد الاكتراث بهذه الحقيقة. وكأنّ ما تبقى من العرب، الذي اكتشفوا هذه الحقيقة الجوهرية بشق الأنس، سيكون عليهم تعويض الخسارات الفادحة التي سببتها النظرة القاصرة والدونية لشكل التعبير في النص.
بالنسبة لي استحوذت عليّ شهوة الشكل مبكراً، ومنذ الكتاب الثاني اكتشفت لذة الحريات التي تمنحها لي لحظة الكتابة فيما أكون مستسلماً لجماليات المخيلة وهي تشتغل على وضعي في المغامرة لكي لا أنجو. وتعلمت درساً لا أزال مخلصاً له، وهو أن أكتب النص كما لو أنني أضع الحب على قلب من أحب. وهذا يستدعي أن أكون جميلاً مثل النص، وأن نكون معاً (النص وأنا) جديرين بجمال الحبيبة.
بهذا المعنى، كيف يمكننا أن نكتب نصاً لا يقترح شكلاً جديداً وجميلاً للحياة؟
أليس الكتابة الجميلة هي دليلنا على أننا نحسن الذهاب إلى الحبيبة وقلبنا أجمل الهدايا؟ والجمال لا يكون إلا في قلب العاشق. الشاعر هو ( بهذا المعنى) أجمل الكائنات، وكذلك يتوجب أن يكون نصه الجديد.
س / التجربة السياسية التي خضتها.. الألم، المعاناة وشظف العيش. ماذا تركت من بصمات على مجمل تجربتك الإبداعية. هل كان لتجربتك أن تأتلق بمنأى عن أشباحها؟
* لا أكاد أجزم بقدرتي على تمييز التخوم بين تجربتي السياسية وتجربتي الإبداعية، إن الحياة تنهض من كل هذه المكونات. أكثر من هذا فإن لدي ميل عميق إلى اعتبار أكثر مراحل تجربتي السياسية والحياتية وجعاً وألماً ومعاناة، هي أهم وأجمل مراحل حياتي على الإطلاق، بل إنها المرحلة التي أعادت صياغة كياني الإنساني بصورة أكثر عمقاً وجوهرية. ويمكنني القول أن ثمة احتمال لعدم تحققي بالشكل الذي أنا فيه الآن (روحياً) لولا عبوري تلك التجربة الكثيفة من العذاب والعذوبة. لست إلا واحداً من الآلاف الذين عرفوا ما عرفت من التجربة، وسيكون على كل شخص أن يكتشف طريقته الخاصة في الصعود مع النيازك الباهرة التي يتفجر الإنسان فيما يكتشف الأسرار الجميلة في هذه الحياة. لا أخفي عليك، ثمة شعور بأن طاقة الروح لدي أكبر بما لا يقاس من طاقة الجسد، وبودي حقاً لو كان بإمكاني استعارة أجساد أخرى لتحقيق ما تبقى لي من أحلام تستعصي على الوصف.
س / في (الجواشن) انصهرت تجربتان مختلفتان في الشكل: أنت في الشعر وأمين صالح في القصة. وكانت التجربة لافتة ومثيرة، هل من اليسر أن تتآخى أشكال الكتابة إلى حد التماهي؟
* لسنا (أمين وأنا) صديقين طارئين، وليست علاقتنا عابرة. لقد عشنا معاً أجمل التجارب، في الحياة والكتابة. منذ لحظة الجنون شعرنا أن قانون الحرية هو الذي يضيء لنا الطريق. لقد شكلنا معاً طاقة حوار عميق بين روحين شريدين قادرتين على الانعتاق من كل أشكال السلطات. ولم نتوقف عند التخوم المتعارف عليها في حقلي الشعر والقصة، وهذا ما جعلنا نشعر في لحظة فاته بأن ثمة طريق تغرينا لأن ندخل التجربة المفتوحة آفاقها لنا كما أحضان الجنة، وبدون أي تردد وجدنا النص يتقدم بنا في ما يشبه البهجة الغامرة، شخص قادم من تفلت القصيدة على شكلها، وشخص قادم من تألق لغة السرد في شعرية طاغية. وكلينا كان قد فرغ تواً من تجربة العسف العام والمعاناة الذاتية. لم نكن نخرج من الحياة لندخل الكتابة، لقد كنا نصوغ ما نحلم به وما تقترحه علينا المخيلة في سبيل التحصن ضد سلطات الواقع ومحاولة مصادرة حقنا في إعلان اليأس من هذا العالم على طريقتنا. لقد كانت تجربة (الجواشن) أكثر من التآخي بين أشكال الكتابة. (الجواشن) إعلاننا بأن لا يدٌ على المبدع إذا أراد أن يصوغ حريته كما تحلو له. وتلك التجربة لم تزل تغري بالمزيد من الذهاب إلى الأفق الذي أشارت إليه. ونحن لا نزال نحدق في ذلك الأفق بشغف العاشق، على أن يغفل عن الحب.
س / هل يمكن اعتبار خروجك على التفعيلة منذ (قلب الحب) و (شظايا) وسواهما، جزءاً من قلق البحث عن آفاق للتعبير الشعري؟ا.
* أظن أن ذلك كن نتيجة لتجارب مختلفة من البحث التعبيري. ليس في الأمر قرار مسبق بما سيحدث، كل ما في الأمر أنني أتبع قلبي لحظة الكتابة. العواطف أكثر صدقاً من العقل عندما يتعلق الأمر بالتعبير. وبالنسبة لي لا تنفي الأشكال بعضها البعض، إنما هو ضرب من تبادل الأقداح واختبار قدرة القوارير على منح الشخص لذة الترنح دون أن تقع الريشة من على رأسه. الآن، لم أعد أقف عند حدود مصطلحات مثل التفعيلة والشعر والنثر، كل ما حدث فن تجارب السنوات الماضية كان كفيلاً بجعل النص أكثر جسارة على الذهاب إلى الحفل بما يحلو له من القمصان وبعنق أكثر حرية من الريح. إما القلق فهو الحال التي يمكنك وصفي بها دائماً. فأنا لا أكاد أثق بشخص قليل القلق، حتى قاسم حداد.
س / لم تغادر كتابتك، خارج الوزن، الموسيقى. هل تقصد بذلك استعاضتك عن الوزن الخارجي بإيقاع داخلي. هل أصبت نجاحاً.. هل حققت رضى في مسعاك هذا؟
* بعد قليل سوف أعترف لك بأنني لا أكاد أشعر بالحياة، كل تفاصيل الحياة، بدون أن يكون ميزاني في ذلك الموسيقى. لدي إحساس بأن ثمة موسيقى تحكم الكون. وكلما تسنى لنا اكتشاف أسرار هذا القانون صار لنا أن نزعم بأن متعتنا باتت وشيكة في هذه الحياة. كأنني قلت منذ قليل بأن أحد أهم جمالات هذا العالم أنه يعوم في فضاء شاسع ورحب من الموسيقى، وعلى كل شخص في مجاله أن يتعرف على قانونه الخاص ويصوغ إبداعه بدون أن يفرط في هذه الجمالات التي لا تضاهى. بالنسبة للشاعر سيكون عليه أن يكون أكثر رحابة فيما يتلمس الإيقاع لكتابته، ويعترف بنفس راضية أن الموسيقى في الكتابة ستكون أكثر رحابة من البحور والأوزان والحدود المقننة في شتى العصور.
س / كنت محاطاً منذ الطفولة بتجليات الإيقاع منذ الطقوس الحسينية في منزلكم إلى العمل في الحدادة والبناء وصناعة السفن وسواهما. ما الذي تركته تلك التجارب المتراكمة على الإيقاع في قصيدتك؟
* قلت لك قبل قليل، إن اكتشاف سر الموسيقى في حياتنا من شأنه أن يغني السلوك الإنساني في شتى حقول الحياة. بل أنني أعتقد بأن الشخص الذي يتميز بالحساسية الموسيقية (بوصفها شاحذة للطبيعة البشرية) يمكن أن يكون أقدر من غيره على تحويل علاقته بأشياء الحياة والكون من الشفافية والرقي والشعرية بحيث يمتلك طاقة الكائن الذي لا تحتمل خفته، لفرط اتصاله بالجمال الروحي. حياة الطفولة بالنسبة لي كانت غنية بحيث أسست لما يشبه النزوع الحر نحو موسقة كل ما تمسه الكتابة، وإذا كنت أفشل أحياناً في التعبير عن ذلك في النص، فربما حاولت تعويض ذلك في الحياة، حيث ليس ثمة مسافة بين الشخص والنص إلا في الخطأ.
س / قلت ذات مرة : (خرجت عن درس الخليل بن أحمد، لكي أكون مخلصاً لدرس الشعر) ماذا كنت تقصد بذلك؟
* الخليل بن أحمد لم يخلق موسيقى الشعر العربي، إنه فحسب وضع لها القوانين. وأمرؤ القيس أو طرفة بن العبد وغيرهم لم يكونوا يدركون ما يفعلون بالمعنى التقني للمسألة. الخليل بن أحمد بشر مثلنا لا يجوز التقديس له ولأفعاله. ويقال أن الخليل بن أحمد أمسك بفكرة أوزان الشعر في سوق الصفارين أو الحدادين، وبعضهم زعم أنه كان يعمل هناك. وإذا جاز لنا المشاكسة (بدون خفة) يحق لكل شاعر في أي مكان أو زمان أن يقترح ما يبدعه من أشكال الموسيقى لكتابته (بمعزل عن مفهوم الشعر ومصطلحاته المستقرة). وذهاباً في تبادل الأدوار، سيقول شاعر أنه ما في مكان ما في زمان ما أنه حدادٌ أيضاً، وطاب له أن يعيش ذلك الزخم من الإيقاعات التي لا توصف بسهولة، ويجوز له أن يتقمص طاقة الرؤية الفنية ويقترح خروجاً جديداً على الإيقاع لكي يخلص للشعر دون أن يقلل من إنجاز الخليل وخصوصاً الشعراء.
س / تقاطعت تجربتك الشعرية مع تجارب تعبيرية في الرسم والموسيقى والغناء والمسرح. ما المحرك وراء هذه المغامرة. ما الذي تود أن تبرهن عليه؟
* أحسب أن في مثل هذه التجارب ذهابٌ مضاعفٌ نحو تجاوز تخوم أشكال التعبير من جهة، وامتحان خبرتنا على تحقيق الحوار الإبداعي بين التجارب المختلفة الأدوات والآليات و الرؤى.
أظن أنني مولع بهذه المغامرات، وأشعر بمتعة وشغف لأن أصغي للمبدعين الآخرين وهم يتقاطعون مع هذا النزوع التعبيري نحو اكتشاف أشكال جديدة تنشأ من التقاء التجارب.
لا أبرهن على شيء، إنني فحسب أكتشف الأشياء التي تحدث معي و مع الآخرين.
س / شاركت في مئوية عرار. ما القيمة الإبداعية التي يمثلها هذا الشاعر. هل يستحق كل هذا (التبجيل) أم أنك ترى أن للاحتفال دوافع أخرى غير شعرية..؟!
* معظم هذا السؤال لا يعنيني ولا أحب الإجابة عليه. من طبيعتي أن أحترم الأدباء الأحياء وتجاربهم وقد يصل هذا الاحترام إلى (التبجيل) الذي تشير إليه، وسوف أكون أكثر تبجيلاً للأدباء الذين سبقوني إلى هناك. ولذلك أستغرب أن يعتبر أحدهم الاحتفاء بشاعر أو أديب نوعاً من الصدور عن دوافع غير شعرية. لا أميل إلى مثل هذه التقديرات، ولا علاقة لي كشاعر بما يصدر عنه الآخرون، هذا شأن غير شعري ولا يُسأل عنه الشعراء. و أتمنى أن يأتي علينا يومٌ لا نصادف فيه مثل هذه الأسئلة (بكل ملابساتها) في الواقع الثقافي العربي.
س / شظايا الكائن تتناثر في شعرك. أنت لا تحاول لملتها. أنت ترصد الخراب بعينين تشعان بالجمال. أهذا دأب القصيدة. أهذه وظيفة الشاعر؟
* سؤالك يقترح بعض الأجوبة التي لا يمكن تفاديها. كلام الشاعر عن شعره يشبه مسألة زجاجة النبيذ فرغت تواً لكي تصف لنا رحلة العنب من الكرم حتى القدح دون أن تقع في المديح ومن غير الاتكاء على ذاكرة الحقل.
بالنسبة لي ليس ثمة وظيفة أقوم بها لحظة الكتابة، لقد برأت من هذا الوهم باكراً. ولا أنصح أحداً بالتورط في الإجابة في مثل هذه الوظائفية. إنني أعشق أن أرى ما لا تراه المرايا. كما لو أنني أحلم أن أجلس في المستقبل وأنظر إلى الحاضر وهو يتحول ويتبلور، حتى نكاد لا نقدر على تمييز الجسد من القميص. كأنني جوهرة المراصد وهي تسبر خراباً وشيكاً يمكن وصفه بفضيحة تليق به، لكن دون التنازل عن الجمال، أعني الشعر في الحياة.
س / قصيدة النثر التي تكتبها، يرى بعض النقاد أنها مستقبل الشعر العربي. هل ترى أفقها مفتوحاً إلى هذا الحد؟
* هل يقولون هذا حقاً ؟ إنني لا أقول هذا. في مثل هذا القول خضوع لمفهوم الموضة أو المبتكرات الاستهلاكية العابرة للقارات. إن أفق الشعر هو مل يغري الشاعر و ليس أفق ( السعر). ثمة من يريد بيعنا في هذه السوق الوحشية تحت شهوة من يستطيع شراء كل شيء مستعد أن يبيع كل شيء.
(والذين يبيعوننا الشعر بالوزن، يبيعوننا للهواء) قلت ذلك في كتاب (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة)، فيما كنت بالكاد أتجاسر علي الخروج عن الوزن، دون أن أفكر في قصيدة النثر أو مستقبل الشعر العربي، فقد كنت أحاول التعبير عن ذاتي فقط. وأظن أن ذلك أهم من كل شيء.***
|