الشاعر البحريني قاسم حداد شاعر البطولة الفذة في الالتزام بالمبادئ، سخر شعره كله في الدفاع عن المظلومين وعن حق الجماهير في الحياة بشرف وكرامة، وهو أحد المبدعين الحقيقيين على المستوى العربي والانساني، واهم ما يميزه قدرته على صوغ هموم اجتماعية انسانية تسكن في داخله، وتمتزج مع أحاسيسه ومشاعره المرهفة، انه صاحب رسالة نبيلة دافع عنها ببسالة، ورفض كل دعوات اليأس والاستسلام، حتى بعد أن سقطت جميع الايديولوجيات، واستراح المحاربون للأبد، فان قاسم حداد بقي على ذات النهج، يحمل نفس الاصرار، ويشحذ الناس دائما للتغيير والبناء، وينشر في الأفق.قصائد الحرية والمحبة والاخوة والسلام، اصدر ستة عشر ديوانا شعريا آخرها (تباين المسافات) ففي حياتنا المعاصرة مسافات غامضة ومتفاوتة الوضوح، بين الحقيقة والواقع، بين المعلومة والحياة، بين النص والشخص، مسافات مختلفة يبدو اننا مرشحون فعلاً للبحث عن وسائل لمعالجة هذه المسافة. لتقليص الخسائر الفادحة التي سنتعرض لها دائما..
ومعه يستمر الحوار:
قاسم حداد في شرق الوطن العربي وعبداللطيف اللعبي في غرب هذا الوطن اسمان لامعان في سماء الشعر، لكن الملاحظة المهمة انك اول شاعر من البحرين تعرف على قصائدك المتلقي العربي حين كانت تجربتك الشعرية في بدايتها..
* ما السبب؟
ربما لا يكون السبب شعريا خالصاً، بل هو انساني في العمق، ومن اول ما كتبت الشعر بدأت اعي المعنى العميق للثقافة والشعر والأدب بأفقه الانساني وليس بأفقه المحلي، لم اتصرف ولا لحظة من اول كلمة كتبتها، أو أول علاقة لي بالكتابة بوصفي بحرينيا او خليجيا، بقدر ما شعرت بانني جزء من هذا الأفق الانساني الواسع الذي يجعلني قادراً على التعبير عن نفسي، هذا جانب، أما الجانب الثاني فان انهماكي المبكر في العمل السياسي النضالي اليومي جعلني جزءا من هذا النسيج الرحب، انسانية الحلم في التحرر، في العدالة، في المستقبل الأجمل للانسان العربي إن ملاحظتك حول الاتصال المبكر من خلال النصوص الشعرية سمعته من اصدقاء كثيرين تعرفت عليهم لأول مرة سواء كانوا فلسطين او مصريين أو لبنانيين او أبعد من هذا،
* لماذا لم نسمع الا عنك؟
وفي الحقيقة فان هذه الملاحظة بقدرما تبهجني وتسعدني فانها تعطيني درسا قويا بانني كنت على الطريق الانساني الصحيح وقبل الشعر يجب أن تتصل بأبعد كائن انساني في العالم من خلال هذا الشعور الغامض لأن قضيته هي قضيتك، لأن تفصيل حياتك هو جزء من اهتمامه، هذا شيء جميل، والذي يؤكد هذا ما يجعل شخصاً مثلك وهو صغير يتذكر علاقته بقاسم من خلال مطالعته اشعاره.
* هل تعتقد ان السبب السياسي هو ما لفت اليك الأنظار؟
السبب السياسي الذي رافق التجربة ربما مر بتحولات مختلفة، ولكن ربما صدق النص الشعري هو الذي جعل هذا الاتصال في الذاكرة قابلا للمواصلة، فلو أن الاتصال سياسي خالص لما استمر، لكن النص استطاع ان يتطور ويتبلور ويؤكد انسانيته بعناصر فنية ولغة شعرية ربما تكون قادرة على الوصول الى شغاف الانسان، النص هو الذي اعطى الاسم والتجربة الطاقة المتجددة على الاستمرار في ذاكرتك وذاكرة الآخرين، وهذه نعمة من الله تعالى ان الشخص عنده اصدقاء بهذا العدد والعمق والرحابة، وحين تطرح عليَّ هذه الملاحظة فانني اشعر بانها صقل لروحي، وصقل لتجربتي، وجائزة اضافية، فربما اشياء كثيرة تذهب لكن العلاقة الانسانية والحب هي العناصر الوحيدة الدائمة، وانا بالفعل سعيد بسؤالك الأول.
* بعد سقوط الايديولوجيات وانفجارها فان العديد من الشعراء والمبدعين تخلوا عن قناعاتهم السابقة، في حين ان قاسم حداد لم يبرح مواقعه وازداد قناعة بمبادئه ولم تتغير منطلقاته.
من المؤكد ان ماقلته صحيح، والمبادئ موجودة بقدرما هي متكئة على ذاتها ودواخلها وعناصرها الانسانية الذاتية، لكن كل تجربة كانت تصدر عن الايديولوجيا او عن السياسة، او عن الأفكار الخارجة عن الذات فان عمرها قصير، فعندما تنهار تلك الأفكار وهو متكئ عليها سينهار الشخص نفسه، لكن الشاعر المبدع المتكئ على ذاته وموهبته ومشاعره الذاتية لا يتخلى عنها، لأنها تتصل بقناعات عميقة في احلامه، وافكاره ومبادئه لا يستطيع انهيار العالم يجعله ينهار.إن هناك العديد من المبدعين العرب، والشعراء خصوصا لا يزالون موجودين بالرغم من انهيارات الخارج، لأنهم يصنعون موهبة حقيقية، فهم يغنون الايديولوجيا والسياسة والأعمال التحررية لكنهم لا يعتمدون عليها، بقدر ما يعتمدون على ذواتهم وهو ما يجعل المعنيين بالعمل الايديولوجي والسياسي يتذكرون دائما كلمة تردد هي أن (شجرة الحياة خضراء، والأيديولوجيا رمادية) انا اعتقد ان الذي يعتمد على تجربته الانسانية الذاتية ولا يتنازل عن ذاته في سبيل الموضوع العام الذي يمكن ان يتساوى فيه الآخرون، يظل قادرا على حمل مبادئه وقناعاته ولا يتنازل عن أحلامه، فمن المحتمل ان تنهار الايديولوجيا بالمعنى المبتذل، او تنهزم الجهة السياسية، تسقط تجارب كثيرة لكن الموهبة والابداع لا يخذلان صاحبهما، وانا اشعر بالفعل إن هناك تجارب شعرية اكتسبت بعد الانهيارات رؤية جديدة لدور الشعر في حياة الانسان.
* يجري الكلام دائما حول التجديد في التجارب الأدبية والشعرية، حيث يحاول البعض الغاء ماقبله تماما.. كيف ينظر الشاعر المبدع قاسم حداد لتطور القصيدة الشعرية العربية؟
التجديد ليس ابتكاراً آلياً ينفي ما سبقه، وليس هناك قطيعة بين القديم والجديد، والذين يقولون بغير هذا فان ذلك يصدر عن خلل في بنية الرؤيا التي تطرح هذه الأفكار لأن التجارب الانسانية على الصعيد الأدبي هي تجارب متصلة في العمق، ومستفيدة من بعضها البعض ومكملة لمشهد التجربة الانسانية، فنحن لا نزعم بان تجربة الشعر العربي الحديث الذي خرج عن العمود قد خرج من فراغ، هو خرج من تجربة سابقة اعتمد على الأوزان والبحور والعمود، لذلك كل التجارب التي تلحقه هي تجارب من هذه الثقافة الواسعة العميقة، البعض يعتقد ان المبدع هو الذي يبدأ من الصفر، وان الذي يكتبه هو بحكم القيمة مبني على الغاء السابق، وتأسيس شيء جديد، هذا على الصعيد الفيزيائي غير ممكن فما بالنا على صعيد النسيج الانساني الشامل الذي يعتمد على ثقافة متعددة عبر الزمن والجغرافيا، ان كل جزئية من ثقافة في العالم عبارة عن هواء يستنشق منه المبدع لكي يصوغ تجربته، نحن نستطيع القول ان التجارب الابداعية الجديدة هي اضافة نوعية تصقل التجربة.. فانا احب نصوصا متعددة من كل العصور.
* ما الذي يجعلك معجبا بهذه النصوص؟
يعني ان هناك ابداعاً بالطبع، لا يمكن ان ازعم ان ما اكتبه هو الابداع، اذا زعمت هذه الفكرة فيجب عليَّ ان اتوقع ولا استنكر بان الجيل الذي يأتي بعدي من حقه ان ينفيني، انا اعتبر نفسي اقتراحاً انسانياً جديداً ارجو ان يكون جزءاً من هذا السياق التعبيري والابداعي الواسع للبلاغة، ازعم ذلك واتمنى أن يكون، من المؤكد انني لا استطيع ان انفي ما قبلي لانني لا اتوقع ان ينفيني ما بعدي.
* ماهو دور الشعر في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها العالم العربي؟
لا أميل الى الكتابة الفورية لانني لا اصمد انسانياً امام مشهد شهيد يقتل امامي، فما بالك بالنص الذي أكتبه، اعتقد ان الابداع يأتي في مرحلة لاحقة لأنه ليس وسيلة اعلامية، ولست من المؤمنين بأن الشعر له وظيفة تحريضية، لأن هناك آليات مختلفة، وادوات تعبير مختلفة لابداء الموقف والاستنكار وتصليب الذات، ربما هناك بعض الشعراء لديهم السليقة، ولديهم القدرة لأن يتفاعلوا ويكتبوا، لكن ليس بالضرورة، ولا تشكل ادانة او تبجيلا لموقف الشاعر مما يحدث، المسألة غالبا نسبية من جهة، وتأكيد لعدم تجيير وتوظيف الابداع بشكل اعلامي لأن ما يحدث في فلسطين من جرائم بشكل يومي هو شيء اكبر من الآن.ان الكتاب ما زالوا يكتبون عن تجارب سابقة كما لو انهم يكتبون الآن، اظن بأن اتصالنا المباشر بالاصدقاء والأهل بفلسطين هو ما يجعلني متوافقاً مع نفسي، لكنني سأكون قلقا جداً اذا كتبت نصا فقط لتلبية هذا الانفعال القوي، لكنني غير مقتنع به فنياً، ولي تجربة من هذا النوع على الصعيد الشخصي، فلقد كتبت ديوانا كاملاً من الشعر في مرحلة ما من مراحل حياتي لم اجرؤ على نشره فيما بعد.أظن يجب ان ندرك، وينبغي أن نرى دور الشعر والشاعر بشكل مختلف، قصيدة الآن عما يحدث ابتعاد، هذا صعب وظلم لأن الشعراء والأدباء والكتاب العرب هم جزء من الشعوب، وعلاقتنا لحسن الحظ جميعاً ممتازة، هناك اتصال يومي، والقصيدة ليست الدليل الوحيد على موقف الشاعر العربي.
* كيف تلخص لنا المشهد الشعري في البحرين؟
أظن ان اللحظة الشعرية في البحرين هي جزء من المشهد الشعري العربي ككل بالنسبة لحضور القصيدة الحديثة بشكل عام، ولم يحدث اي صراع بالمعنى التقليدي، بين القصيدة القديمة والحديثة، الا ان طبيعة المجتمع والتجربة الثقافية في البحرين غالبا ما تكون مهيأة لتفهم تجارب الكتابة الحديثة بالمعنى العميق، ولم تشكل صداما مثلما حدث في بعض الساحات الشعرية العربية او حوارا عنيدا او تنافرا، لأن القصيدة الحديثة موجودة مثل العمودية مثل النبط، ولا ينفي شكل شكلا آخر.
* هل تتذوق الشعر النبطي؟
- أنا أحب الشعر النبطي كثيرا خصوصا المكتوب من الشاعر الفطري، او النصوص القديمة لشعوري بآليتها الطبيعية، اداة التعبير عند الشاعر القديم التي تتناسب مع تجربته الانسانية ومستواه الثقافي، لكن الذي يكتب حديثا فانني اجاهد اصغي اليها، وبشكل عام انا لا اظن ان تجارب النبط او الكتابة العامية تشكل مشكلة بالنسبة للثقافة العربية، او بالنسبة للشعر الفصيح، هذا شكل من اشكال التعبير المتاحة والتي من حقها ان تحصل على حريتها وحضورها.
* لكن انتشار الشعر النبطي في منطقة الخليج قياسا لما يتاح للمساحة الحرة للشعر الحديث يبدو كبيرا؟
- هذه مسألة نسبية، وليست ثقافية.، انها متصلة بواقع اجتماعي وسياسي ورسمي أكثر، لست ممن ينادون تحجيم او تقليل صفحات النبط مثلما يشاع من بعض الجهات احساسا بالغبن، لانه في الوقت الذي اصدر من هذا الوهم فانني أكون انطلق من مصادرة مساحة ثقافية، مساحة موجودة لنشر نوع من التعبير، هذه مسألة ميدانية لانك لو تقارن ماهو متاح للاقتصاد والفنون والرقص والرياضة والسياسة لوجدت ان الشعر يحتل مساحة ضيقة في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. هناك شعراء جميلون في النبط احبهم، وأحب أن اصغي اليهم كثيرا، وهو شكل من الاشكال الكثيرة التي يمكن ان نصادفها في كل ثقافات العالم.
* رغم أن الشعر ديوان العرب لكن جمهوره قليل.. ما الذي يجعل من الشاعر الذي كان وزير اعلام القبيلة في الماضي مجهول الهوية ولا يكاد يسمع به أحد هذه الايام؟
- اشرت لمسألة طبيعية في المجتمع العربي خصوصا في المجتمعات التي لم تكرس فيها الثقافة بشكل حضاري، ولم تمثل الثقافة والأدب خصوصا جزءا من التقليد اليومي والعادة اليومية، وجزءا من النسيج في المجتمع العربي لاسباب اجتماعية وسياسية كثيرة ان الادب محدودة مساحته واهتمام الناس به قليل لأنه ليس جزءا من حياتهم الحقيقية، فهناك هموم أخرى سياسية واقتصادية ورياضية وغيرها، وحين نأتي الى المهتمين بقراءة الشعر، فان المجتمعات في العصور الحديثة لم يهتم بالشعر سوى شريحة بسيطة قياسا على مستوى الحجم الكمي وهو نسبة كبيرة جدا، هناك قراء للشعر وليس جمهورا، لا يمكن المقارنة، هناك جمهور للمغني، او السياسي، او الرياضي، لكن يوجد قارئ للشعر.
* ألا تتفق معي على ان هناك غياباً للنص الحديث في المناهج المدرسية وهو ما يؤدي الى ذائقة شعرية بليدة وكسولة؟
- نعم هذا صحيح، ما الذي كنا ندرسه ويدرسه ابناؤنا في المدارس الآن، الشعر القديم، النصوص القديمة السطحية والضعيفة وليست الجميلة، وهي تعرض بشكل مدرسي وتشرح بطريقة آلية لا تهيئ الطالب مع الوقت للتعامل مع النص بعفوية، بل تقنن له المفاهيم السطحية، كل نص له شرح مباشر، هو نفس الشرح الذي يدرس عشرات السنين، وحين تنظر الى هذه الظاهرة تشعر بخطورة التأسيس للأجيال المتعاقبة، نفس المعنى الواحد للنص عبر كل هذه السنوات كما لو انك تقولب مخيلة الطالب من الابتدائي حتى التخرج، وهذا لا يهيئه اذا افترضنا ان النص جميل، لا يهيئه لأن يقبل نصا حديثا يزعم بتعدد المعاني وتشغيل المخيلة.
المصدر: جريدة الرياض
Thursday 15 August 2002
|