لقاءات

ويتمان ونيرودا ومايكوفسكي..
شعراء شعبيون انظروا إلى العامي من خلال قوانينه الخاصة

قاسم حداد

أود أن أشير أولا إلى أن حديثي هنا سيكون عبارة عن مقدمات وموضوعات صغيرة، تميل إلى التركيز، أكثر من كونها بحثا أو دراسة، وذلك بسبب رغبتي في أن تكون هذه الموضوعات والمقدمات مشروعا مفتوحا للبحث والحوار، في سبيل إغناء المادة النقدية المطروحة. وهذا الشكل يفرض علينا عدم اللجوء إلى الاستشهادات والنماذج الكثيرة، اعتمادا على الإشارة فحسب، على أن يستوعب النماذج والاستشهادات بحث موسع في مجال أكثر اتساعا.

1

هل هو شعر شعبي أم شعر عامي؟

يجري الكلام كثيرا على الشعر المكتوب باللهجة المحلية الدارجة، على أنه شعر شعبي، ونادرا ما يتدارك البعض ليقول إنه شعر عامي، ولكن السائد، والذي تكرس بشكل خاطئ، وهوالقول بأنه شعر شعبي.
في البداية يستوجب علينا أن نوضح هذه المسألة التي تمثل مدخلا مهما للموضوع.
إن القول عن هذا الشعر بأنه شعر شعبي، لايعني تحديدا مناسبا من الوجهة الموضوعية، لأن مفهوم الشعبية صفة تتعلق بمضمون الشعر عامة ولاتتصل بشكله وأدواته الفنية. فمن المتوقع أن يكون الشعر المكتوب باللغة العربية الفصحى شعبيا أيضا لسببين:
الأول: احتواء الشعر على مضامين تتصل بالشعب وهمومه اليومية أو فلسفته الحياتية الجزيئة أو الشاملة. في هذه الحالة يمكننا اعتبار هذا الشعر شعبيا من هذه الشرفة، وعلى هذا نجد أن بابلو نيرودا والت ويتمان ومايكوفسكي يعتبرون شعراء شعبيين في بلدانهم.
الثاني: اتساع دائرة جمهور الشعر في الأوساط الشعبية وانتشاره داخل الحياة اليومية للناس، وهذا الانتشار قد لايتأتى بالضرورة من جودة الشعر وأصالته وسمو أهدافه، فنحن نعرف أن كثيرا من المواد الأدبية أخذت صفة الشعبية، حسب هذا المفهوم في مراحل عديدة من التاريخ العربي، كقصص ألف ليلة وليلة مثلا، فإنها مازالت تعتبر أدبا شعبيا من وجهة النظر النقدية، ونزار قباني يعتبر شاعرا شعبيا هو الآخر، حسب مفهوم الانتشار، فهو أكثر الشعراء العرب انتشارا كما تؤكد إحصاءات التوزيع لدى دور النشر.

2

إن تعبير «الشعر الشعبي» مرتبط أساسا بتراثنا الشعري الشعبي القديم، الذي كان في معظمه ينسب إلى الشاعر المجهول، والشاعر المجهول هنا يرمز إلى الشعب بمجموعه العامل الذي تناقل هذا الشعر، وتفاعل معه وامتزج به، حتى إنك كثيرا ماتجد روايات مختلفة لنص واحد، دون أن يتسنى لك الجزم بأن رواية من هذه الروايات هي الأصل.
فنجد أن وصف ذلك الشعر بأنه شعر شعبي له سبب تاريخي واجتماعي واضح. حيث إن تلك الفترة التاريخية التي عاشها المجتمع كانت من التخلف بحيث لم تفرز أدبا فصيحا، لانعدام وسائل التعليم والثقافة ولم يكن المجتمع أصلا قد دخل حدود الحضارة الحديثة.
ضمن تلك الظروف جاء الشعر (المنطوق) باللهجة المحلية، وسيلة تعبيرية موضوعية للشعب وإفرازا طبيعيا لمعطياته. لذلك جاءت تسمية الشعر الشعبي «منطقية، ليس لاعتماده اللهجة المحلية فحسب، ولكن أيضا، لأن خالق ذلك الشعر كان إنسانا لايملك سوى تلك الأداة ليعبر بها، لأن ذلك الشعر كان نابعا من حياة المجتمع اليومية والعملية وممتزجا بها، حتى لتكاد تشعر أن كل فرد في المجتمع هذا قائل ذلك الشعر حقيقة».
من ذلك نخلص أن الشعر الذي يكتب باللهجة الدارجة الآن لايستطيع أن يكون شعبيا بالمفهوم الذي نهض به الشعر الشعبي القديم، الذي صار جزءا من التراث الآن والذي يستحوذ الاهتمام.
إذن، إن إطلاق صفة الشعبية لم تعد، حسب التوضيح السابق، تحديدا دقيقا لمميزات الشعر الراهن فنيا وموضوعيا.
من هنا نعتقد أننا، لكي نميز بين شعرنا الشعبي القديم، والشعر الذي يكتب حديثا باللهجة الدارجة، ولكي نحدد هوية هذا الشعر الفنية، علينا أن نعتمد تسميته بالشعر العامي، فهذه هي التسمية المناسبة لهذا النوع من الشعر.

3

النظر إلى الشعر باعتباره لغة وفعالية بشرية معها:

من هذا المنظور ينبغي أن نتعامل مع ظاهرة كظاهرة الشعر العامي.
فنحن لانستطيع أن نفصل اللغة عن مبدعها وعن فعاليتها في الكون والحياة، لأن هذا الفصل يؤدي بنا إلى التنازل عن الماء الحقيقي الذي يسري في نسغ الشعر، فيحييه ويؤنسنه في ذات اللحظة.
حين نقول لغة، نعني واسطة للتواصل، هذه الواسطة، لكي تكون مشتملة على قدرة الفعل، لابد لها أن تكون جميلة، فالجمال هنا هو سمة خاصة من سمات الشعر. ولجمالية اللغة الشعرية قوانينها الحية التي تتصل بمادة الشعر أيضا، تلك القوانين التي يستحضرها المبدع في لحظة الفعل الشعري يبتكرها ويؤسس لها مناخ مميز، ولكل تجربة شعرية جمالها الخاص وقوانينها الخاصة أيضا.
الشعر العامي هو الآخر تجربة بشرية، من حيث كونه فعالية لغوية، تستخدم اللهجة، هو ليس لغة، كما يعتقد بعضهم ولكنه لهجة فحسب. والفرق بين اللغة واللهجة كالفرق بين المناخ والطقس.
فالمناخ هو الأصل والكل الواسع، الأساسي والدائم. أما الطقس فهو الفرع الصغير العارض والطارئ.
واللهجة، أيا كانت، تستورد لحمتها من قشرة اللغة، إن لم نقل من سقطها. لذلك فهي لاتمثل جمالا كالذي تمثله اللغة.
الشعر العامي إذن. يستوجب النظر إليه من خلال قوانينه الخاصة، التي يبتكرها فيما هي تحكمه، لكن ذات اللحظة، لاينبغي التنازل إزاءه عن شرط الجمال الفني الذي رأينا ضرورة توفره في واسطة التواصل. هذا الجمال لايمكن أن يخلو منه أي عمل فني يشتمل على قدرة الفعل.
من (مقدمات في الشعر العامي)

اوان- الجمعة, 1 فبراير 2008

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى