لا نبالغ لو قلنا أن قاسم حداد، هو أحد البارزين اليوم على الخارطة الشعرية العربية، فمن كتاب إلى آخر، عرف الشاعر البحريني كيف يفرد مساحة للكتابة وللتأمل وللمنجز في القصيدة الجديدة. قد يكون قاسم أكثر من شاعر، لنقل انه أيضا أحد المنشطين الثقافيين: من مجلة (كلمات) وحتى موقع (جهة الشعر) على (الانترنيت)، أفرد الرجل فسحة حقيقية (للمّ) شمل ثقافة عربية تتوزع بين الإقامة والهجرات المتعاقبة.
حين التقينا للمرة الأخيرة منذ أسابيع، لم أطلب منه أن نجلس ونسجل حوارنا، فتجربتي الماضية معه، جعلتني على بيّنة بأنه يحب الكتابة أكثر من الشفوية، من هنا، ولكي لا تضيع اللحظات إذ تركناها للتنزه و(الثرثرة) و(البيرة) اتفقنا على ان تكون عبر الميل. هنا الأسئلة والأجوبة. * لنعد قليلا الى الوراء: كيف بدأ قاسم حداد كتابة الشعر؟ هل يذكر قصيدته الأولى؟ ماذا كان يريد من ذلك؟ من هم الشعراء الذين أثروا بك في تلك الفترة؟ لكل واحد منا أب في الكتابة، من هنا من كان أب قاسم حداد الشعري؟
- هذا وراء بعيد. ليس على الذاكرة فحسب، ولكن خصوصاً إذا رأيت اليه من شرفة التجربة فنياً وثقافياً. لم يعد ممكناً الكلام عن قصيدة أولى. دائماً لم تكن بالنسبة لي قصيدة أولى. إنما يمكن تذكر أنني كنت فيما أستغرق في قراءة شعر ذلك الوقت (أوائل الستينات) أشعر بغموض مقدرتي على كتابة ما يشبه ذلك. ربما لم يكن غموضاً خالصاً بل هو شيء من الغرور الداخلي. علماً بأن شعر ذلك الوقت كان أكثر تتطلباً تقنياً وثقافيا مما يبدو عليه شعر هذا الوقت.
أعني أننا كنا نأخذ الأمر بجدية وصرامة كبيرتين. لذلك كتبت، قبل أن أبدأ نشر محاولاتي الأولى، عدداً كافياً من النصوص يمكن أن يملأ تسعين سلة مهملات. لا زال بعض تلك النصوص في عتمة الأوراق والدفاتر القديمة.
ذهبت للكتابة ربما لأنني كنت أريد أن أرى نفسي بوضوح أكثر في هذا الكون. الآن أفهم بعض ما كانت تشي به بعض تلك المحاولات المبكرة. أرى نفسي، بمعنى أن ثمة هاجس يتصل بتغيير الكون برمته عن طريق الكتابة، ربما يبدأ التغيير من الثوب المهلل الوحيد حتى نظام المجرة. وأظن ان مثل هذه الشهوة مفهومة ومشروعة لدي الشاعر. بقي علينا أن نتفاهم لاحقاً على قدرة وجدارة وجمال أدوات تحقيق هذه الرغبة لدى هذا الشاعر أو ذاك: الموهبة الشعرية والأسلوب والمعرفة أيضاً.
قرأت للرواد جميعهم أبرزهم بدر شاكر السياب الذي استحوذ على تجاربي الأولى. لكنني بعد أن قرأت أدونيس شعرت بأنها التجربة التي تعلمني الشعر حقاً. على الأرجح أن تعبير الأب الشعري سيكون مناسباً جدا لأدونيس. فجميع ما تأسس لديّ من نزوع الى الحريات في الرؤيا والرؤية الفنيتين سيكون من تجربة أدونيس. لقد كان درس أدونيس الشعري أكثر تأثيرا وعمقاً: أخذت منه، ولا أزال، أن الشعر لابد أن يتوفر على عنصرين حرية المخيلة وجرأتها أولا، وجمال الأسلوب واللغة، ومن ثم عدم الثقة في ذلك في نفس اللحظة. وهذا ما جعلني أقول فيما بعد أنه في الفن: القناعة كنز لا ينفع.
الى ذلك كله يتوجب أن أشير الى أن هناك شعراء كثيرين أحببتهم وتأثرت بهم وتعلمت منهم أيضاً بدرجات مختلفة. لكن الأهم من هذا أحب أن أشير أن المرء لا يحتاج لأب شعري فقط لكي يتعلم منه ويأخذ عنه، بالنسبة لي ثمة أبناء شعريين أتعلم منهم كل يوم. هذه هي الحقيقة التي تمنحني الطاقة الغامضة على الإحساس بالطيف الشفاف الذي يسمونه المستقبل. فلولا ما تجترحه لنا هذه التجارب الشعرية الشابة لما تمكنت مثلاُ من كتابة نصوصي الجديدة. ان جرأة الشباب هو ما يجعل النبيذ القديم فتياُ وقادرأً على دفق الانتشاء في الأرواح والقدرة على المشاركة في السهرة وتبادل الأنخاب بنفس الدرجة من اللذة والثقة بأن الشعر هو دائماً في المتناول. * مضى اليوم زمن منذ أن بدأت هذه الرحلة الشعرية الى أين مضى بك القطار، هل من محطات توقفت فيها أم انك لا زلت تسير، ونحو ماذا؟ وبمعنى آخر، هل اختلفت دوافعك للكتابة اليوم عما كانت عليه في ما مضى؟
- الشعر مثل الأفق، لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى أن تذهب اليه. والطريق الى الشعر، مثل الطريق الى الحب، هو دائماً أجمل من الشعر ومن الحب. كأن في هذا ما يشي بكلمة النفري عندما قال بأن في المغامرة شيء من النجاة. شعرياً أحب أن أرى في التجربة سفراً متواصلاً لا يكفّ عن التألق بقدر تأجج شهوة العشق في القلب. أخذتني القطارات واختبرتني المحطات ووضعني الشعر تحت الامتحانات الكثيفة، وكنت أعمل على صقل روحي في كل محطة، في كل نص وكتاب وتجربة. وتعلمت أن الاقانيم الثلاثة في الحياة سوف تتمثل في الحب والشعر والحرية، تلك الاقانيم التي تقاطع معها أو تولع بها سرياليون رائعون قبلنا، الأقانيم التي لا يمكن تفاديها كلما تعلق الأمر بالشعر. ولعل التجربة الكثيفة (في النص والشخص) سوف تجعل ذلك الأفق الذي أذهب اليه هو في المتناول عندما تقدر المخيلة على نشاطها الحيوي بالحرية ذاتها وبالجمال ذاته وبقدر جدير من الحب.
بالطبع لم تعد شهوة تغيير الكون (المبالغ في تعضيدها سياسياً) هي ذاتها مصدر الشخص ومذهب النص شعرياً. لقد صار المرء أكثر (تواضعاً) كلما تقدم في الشعر والتجربة. الآن لا أخفيك بأنني لا اطلب سوى أن أتحصن ضد شهوة السلطات (المتعددة غير المتناهية من حولنا) في تغييري على هواها. لابد من الاحتفاظ بهذه المسافة الذهبية/ الجهنمية بينك وبين السلطات، فحتى عندما تبدو هذه السلطات غير مكترثة فان أحداً لا يكترث مثلها. إنها ترقبك عن كثب لكي تنالك.
فإذن، التواضع الذي أشير اليه هو ذاته المستحيل الذي تكلم عنه (رينيه شار) قائلاً بأن (المستحيل لا نذهب اليه، إننا نستخدمه كقنديل). الشعر يمنحني الثقة في أنني أقوى من تلك السلطات كلها.
لذا فان دوافع الكتابة لا تتصل بجذورها الأولى إلا فيما يتعلق بكون الشعر والإبداع عموماً هما في الجوهر فعل حب لا يجوز التفريط فيه ولا وضعه في مهب الوظائف والغايات.
الحب سوف يأسر القوى الأخرى. إنني أتعلم هذا كل يوم.
* تراوحت تجربتك في الكتابة بين نثر وشعر (ولا أقصد بين الشعر الحر أو الشعر المنثور)، هل الكاتب بحاجة أحيانا الى "لغتين" كي يقول ما يريده؟ وهل يشعر من اختلافات في هذين الفضاءين اللذين يطير فيهما؟
- لا أرى الأمر بهذه الطريقة. فليست ثمة لغتين في كتابة الشعر. بالنسبة لي على الأقل سأكون نفس الشخص والطاقة والرؤية والتعبير في لحظة الكتابة. حتى عندما أكتب مقالاً للجريدة لا أستطيع التخلي عن الشعر. ربما تفاوتت درجة حضور الشعر (لغة ورؤيا) بين سياق وآخر، لكنه سيظل هناك دائماً. غير أن كتابة المقال (وهو ما تعنيه في سؤالك بالنثر) سأكون مثل شخص يذهب الى حديقة الشمس بقدمين ثملتين، في حين ذهابه الى نفس الحديقة (في حالة الشعر) سيراوح بحرية المخيلة بين الجذور والأجنحة، محلقاً بأجنحة كثيرة وأقدام لا تحصى تمسّ الأرض التي تشفّ هي الأخرى عن الأعالي حيث شاهق الروح و القلب.
بهذا المعنى أجد بأن شروط الكتابة عند الشاعر سوف تختلف كثيراً عن شروطها عند الآخرين.
وإلا فما الفرق بين أن يكتب شاعر نثراً في صيغة مقالة أو غيرها، وأن يكتب شخص آخر نفس النص؟ السر هو هنا، في هذه المنطقة الجنونية من لغة التعبير. حتى عندما يكتب الشاعر مقالة للجريدة من حقه أن يكتبها بشروطه هو وليس بشروط الصحافة.
بالنسبة لي، تعلمت أشياء كثيرة من تجربة كتابة النثر (بشتى صيغه) للنشر في الصحافة.
حتى أنني كثيراً ما أحب بعض مقالاتي على بعض قصائدي. دون أن أتحرج في ذلك. خذ مثلاً نص (سحقاً للقصب الذي صار ناياً) أو ( درس الأرز). إنني لا افهم ما يحدث لي في مثل هذه النصوص. ثمة ما يشي بأن الكلام عن حدود الشعر والنثر يشبه الكلام عن تخوم الخير والشر. لكأن أحكام القيمة (النقدية) تلك تكاد تصبح أحكاماً أخلاقية هي الأخرى. الحدود المقدسة في الفن هي أخلاق (سلطة) إضافية يتوجب التحرر منها والثقة في حقنا في نقضها جمالياً.
ربما لأنني أثق دائماً في أن الشخص الذي كتب هذا النص يمكنه أن يكتب نصاً آخر، أجمل منه.
بقي أن أقول بأن الفضاء الذي يتيحه نثر المقال هو من الرحابة بحيث يسهم في صقل نزوعي العميق في تجاوز التخوم التي تتصل بمفهوم أنواع التعبير. وأظن أن هذه التجربة ساهمت في تنوير جوانب معتمة في تجربة تقاطع أشكال التعبير الأدبية. وفي هذا اغناء لتنوع الأدوات في لحظة النص. * قيل الكثير منذ سنوات عن موت الشعر وما الى هنالك من مقولات مشابهة، ومع ذلك نجد ان الشعراء يتكاثرون ويكتبون. كيف ينظر قاسم حداد الى ذلك؟
- على قدر ما قرأت عن هذا الموضوع، فإنني لا أستطيع أن افهم كيف يمكن إطلاق هذا التعبير على عواهنه في حياتنا الإنسانية. ثمة مشكلة نتعرض لها في الثقافة العربية تتمثل في استعدادنا العارم في تداول المصطلحات دون التثبت من فهمها أو استيعابها والاتفاق على دلالاتها.
سوف يكون هذا القلق أكثر تجلياً في حقل الكلام الأدبي، فما ان تفشى الكلام عن الحداثة على عواهنه، حتى تداعت الاجتهادات بلا هوادة في وضع نظرية (النهايات) موضع التنفيذ. ففي حين أصبح الكلام عن ما بعد الحداثة، (فيما نتعثر في القرن التاسع عشر) كلاماً مشاعاً، حتى بادر الكثيرون في وضع الشعر واللغة والأدب برمته، في مهب الهباء النهائي. فصار القول بموت الشعر موضوعاً ناجزاً يجري تداوله كما لو أنه حقيقة لا يأتيها الباطل من أي مكان ولا تحتاج سوى للتزكية من البعض. والغريب أنهم يريدون من الشعراء خصوصاً أن يصدقوا ويوافقوا على هذا الموت ثم يؤكدونه.
أظن أننا ضحية خلل في التقدير الإنساني لمعنى الشعر في الحياة ومسؤوليتنا الكونية هي في عدم ترويج الأوهام الشائعة، ثم التريث والاكتراث الرصين بالرغبة الحيوية التي تكتنز في تجارب الأجيال الجديدة من الشعراء. ها أنت تشير الى تكاثر الذين يكتبون الشعر. علينا أن نتعود على تفهم النزوع العارم نحو الشعر لدى الأجيال الجديدة من العرب، فربما عندما نقدر على اكتناه هذه التجارب في جوهرها سوف نتمكن من وعي أهمية وضرورة الجواب الصارم على الكلام عن موت الشعر، كناية عن رغبة يائسة في موت أشياء الانسان في حياتنا. أتمنى فقط أن نتميز برحابة الصدر ونحن نشهد الصعوبات الطبيعية التي تعيشها تحولات التجربة الشعرية العربية الجديدة.
لكن عندما لا نستطيع قبول الكلام عن موت الشعر من جهة، لا ينبغي فهم ظاهرة الزخم الهائل في الأصوات الشعرية كما لو أنه جواب ناجز أو حكم قيمة نوعي على هذه التجارب. لابد أن نتعود على الإصغاء لمن يطرح تجاربه الجديدة يوماً بعد يوم نافياً فكرة موت الشعر. ففي هذا الموت نفي خطير للحياة نفسها. وأتمنى على المعنيين بفعاليات الصحافة الأدبية والثقافية والناشطين فيها، من الشعراء خصوصاً، أن يعملوا على تخفيف غلواء مثل هذه الاطلاقات التي من شأنها أن تصرفنا عن تأمل الظواهر الشعرية الأكثر أهمية وجوهرية، وأقول أكثر اتصالاً بالشعر بوصفه نصوصاً وليس بتوهمه مزاعمَ وتجاربَ افتراضية فحسب. * قد تكون من النادرين الذين "جربوا" كتابة النص المشترك، فتجربتك مع أمين صالح لا تزال حاضرة في الأذهان. أولا ، ما الدافع الذي يحرك الشاعر في الدخول الى تجربة مماثلة؟ وثانيا، ماذا قدمت لك هذه التجربة على كافة المستويات؟
- للوهلة الأولى سأشعر بأنني لا أعرف بالضبط تفسير ما يحدث لي إزاء مثل هذه التجارب. وهو شعور يشي بعفوية تأسيسية لهذه التجارب. فالتجربة الجدية الأولى في هذا المجال كانت فعلا في كتاب (الجواشن) مع الصديق أمين صالح. ولا أستطيع توصيف أية دوافع خارج ذواتنا الفنية والإنسانية. وأظن أن درجة من التفاهم والتقارب الروحي والثقافي والإبداعي لابد من توفرها. دون أن يكون هذا شرطاً نهائيا. فقد انبثقت تجربة (الجواشن) في لحظة انعطاف تعبيرية لدينا معاُ. فبعد سنوات من التجربة الزاخرة بالمغامرات الحية في الكتابة، كان أمين صالح في واحدة من أجمل ذرواته المتألقة في سرد بالغ الشعرية لغة ورؤية، وكنتُ من جهتي خارجاً من مختبرات شعرية تبحث عن آفاق أكثر رحابة من مجرد الخروجيات التقليدية المملة على التفعيلة وكسر القالب النصي للقصيدة وسبر معطيات لا تحصى من الحريات التي تتيحها الكتابة خارج الوزن، إضافة الى القلق المقيم الذي كنت أعبر عنه بأشكال مختلفة حول ما يسمى (قصيدة النثر). كل ذلك جعلنا، أمين وأنا، في مناخ ينزع الى الذهاب الى أبعد من ذلك كله.
ولا أذكر أننا احتجنا لمناقشة طويلة قبل ان نبدأ تجربة الكتابة المشتركة. لقد كان ذلك ضرباً من المتعة لا توصف. جئنا الى (الجواشن) دون أن يكون لدينا مشروعا مسبقا أو هندسة محددة. لقد أمضينا أربع سنوات نكتب النص بأشكال عديدة وبثلاث مسودات مختلفات تماماً. ولم يكن لدى أحدنا إصرار على التشبث بأسلوبه الخاص، على العكس، فقد كنا كمن يبحث عن أسلوب ثالث لكلينا. الأمر المدهش الذي كنا نكتشفه دائماً فيما بعد، أننا كنا مكتنزين بتجربة إنسانية بدت كأن أشكال تعبيرنا المألوف لا يستوعبها. كنا نخرج معاً من ذلك التحول الرهيب والعميق الذي كان يطحن الانسان في جهنم السبعينات التي انهارت فيها الأحلام الشخصية أو الجماعية للكائن الإنساني، وكنا ننطوي على درجة عالية من شهوة استعادة حرياتنا التي أوشك انهيار تلك الأحلام أن يودي بها. والأجمل أن لذلك الانهيار جانبه الرائع الذي كان مسكوتاً عنه طوال الوقت (دون أن يجرأ أحد حتى الآن الجهر به) وهو أن نزوعنا المبكر نحو حريات التعبير الفني ورفض الانصياع لكل منظورات التقليد (الرجعي والتقدمي معاً) هو الآن يشهد الدليل على صوابية نزوعنا الفني وجماليات رؤيته. وهي الجماليات التي أخذ بعض الذين تبقوا من ذوي عاهات الفكر والفن في أقاليمنا يحاولون التظاهر بتقمصه (مؤخراً) بأكثر أساليب البؤس والجهل وفقر الموهبة فضيحة. كما لو أنهم لم يكونوا الأعداء والخصوم المغالين في كراهية حريات التعبير الفنية. هؤلاء الذين كانوا يشتمون أفكارنا وتجاربنا في النهار ويحلمون بها في الليل.
تجربة (الجواشن) هو أذن مظهر من مظاهر الحرية الكونية التي لم نفرط فيها أبداًُ.
بالنسبة لي فقد تعلمت الكثير من التجربة. وهي فتحت لي (ولغيري أيضا) الآفاق الرحبة لكي أثق أكثر في مشاركة مبدعين آخرين في حقول تعبيرية مختلفة الأدوات والآليات، الأمر الذي أغناني روحيا وفنيا ومعرفياًُ. خصوصا تلك التجارب التي تتقاطع من فنون بصرية حيث ولعي بالرسم والصورة من بين أكثر الأشياء التي تساعد الشاعر على اكتشاف جماليات الصورة الفنية وتسهم في صقل المخيلة الشعرية على الاطلاق. بقي أن أقول أنني الآن أشعر ببهجة مضاعفة وأنا أجد الكتابة العربية وهي تذهب أكثر ثقة الى الحوار العميق مع أشكال التعبير الأخرى. ان في هذا تحقيق مباشر وجميل لفعل الحب الذي يصدر عنه ويذهب اليه الإبداع قاطبة.
* قد تكون من أكثر المجربين في الشعر العربي الحديث، أقصد، كل كتاب يمثل تجربة خاصة مخالفة للتي سبقتها، كذلك عملت مع فنانين تشكيليين، لكتابة نص "مزدوج" يمازج بين اللون والكلمة، عملت مع موسيقيين، الخ، في النهاية، هل هذه المحاولات هي جزء من الخوف في الوقوع في نمط معين، مؤطر؟ كيف تفهم أنت التجربة الشعرية؟
- هو شيء مما تقول. لكن علينا أن لا نقف عند هذه التخوم. دعنا لا نحرم أنفسنا من القول بحرية أن الشعر هو دائما يكمن خارج النص (بشتى تجليات النص). فعندما نقول (التجربة الشعرية) فنحن بالضرورة نقصد شيئاً خارج مجرد الكتابة والنص. التجربة هي طريقة حياتنا.
وعلى الأرجح هي خصوصاً طريقة حلمنا الخاص عن هذه الحياة وهذا العالم. لا يخيفني شيء مثل الوقوع في رتابة التعبير. لا أقصد الرتابة في شكل النص وبنيته وآليته فحسب، ولكن في طريقة الرؤيا الشعرية للعالم. الانسان كائن حي، هو نهر عظيم غامض ويستعصي على الوصف والاحاطة. وهذا يتيح. لا. انه أكثر من ذلك. انه بالضبط يمنح (مثل الهبة السماوية) الانسان حريته المطلقة في أن لا يخضع لوهم الثبات والامتثال لما كان عليه في العام الفائت أو الشهر الماضي أو الكتاب السابق أو النص المنصرم. هذه هي الحقيقة التي تخيف المبدع. مشكلتنا أننا لا نملك الجهر بهذا الحق. لذلك تكرست المفاهيم المتصلة بوهم الأسلوب الخاص الذي يميزني عن الآخرين والذي يتوجب عليّ أن (أخلص) له مثل العبد الى أن أموت. فتجد الكاتب مثلاًُ، يقضي نصف حياته في تجربة الكتابة لكي يصوغ له أسلوباً مميزاً واضحاً مستقراً، ثم يمضي نصف عمره الآخر في محاولة مستميتة للخضوع لآلية بالغة البلادة والعبودية من أجل تكرار نفسه في نفس الأسلوب نهائياً، ليس هذا فقط، بل انه سيفاخر بذلك. إنني لا افهم هذا.
هذه الفكرة تفزعني حقاً. وأعتبرها ضرباً من التناقض الهائل بين أن يسعى المبدع لتحقيق حريته بالتعبير عن كوامنه وأحلامه، ثم يقبل بأن يؤدي به كل ذلك الى الركون في أسلوب آسن الى النهاية. أظن أنني سوف لن اقبل ذلك لي ولا اقبله للأجيال الجديدة. الشعر أكثر حرية وجمالا مما يصفون.
دعني أحكي لك شيئاً مكنوزاً بالدلالة لجانب مما أعنيه.
في السبعينات، إذا لم تخني الذاكرة، وجه أحد الصحفيين للشاعر محمد الماغوط السؤال التالي:
ما رأيك في العودة الى التراث؟ فأجابه الماغوط بسخريته المعهودة : (إنني لا أطيق العودة حتى الى البيت، فكيف الى التراث؟ ). لكي نفهم عمق كلمة الماغوط يجب أن نتأمل طبيعة الشاعر وجوهره. * منذ 13 عاما، في العام 1992 أجريت حواري الأول معك، ويومها اقترحت أن أكتب السؤال على ورقة وتكتب أنت الجواب. اليوم في 2003 وفي هذا الحوار الثاني، اتفقنا في "الملاجة" حيث كنا في مهرجان السنديان، على ان يكون الحوار عبر البريد الالكتروني. ماذا تعني لك كتابة الحوار؟ بعيدا عن الشفوية وما الى هنالك، هل تريد القول ان الحوار أيضا يشكل جزءا من عملية الكتابة بأسرها؟
- (الكتابة بأسرها): هذا تعبير يروق لي فعلاً. أذكر ذلك الحوار جيداً. وأظن أن هذا سوف يفسر للكثيرين لماذا أقترح عليهم دائماً أن يتركون أسئلة حوارهم لكي أبعث لهم الإجابات مكتوبة. لا أزال أقترح هذا وأمتن إذا قبل الآخرون الفكرة.
اشعر بأنني لست كائنا متكلماً. لستُ شفوياً على الاطلاق. الارتجال يخذلني. لا أحسن الارتجال أبدا. لا أكون موجودا بشكل مناسب هناك. أجد نفسي حقيقيا ومنسجماً ومتماسكاً عندما أكتب. مجرد فكرة الارتجال ترعبني. وهذا سوف ينطبق على قراءة الشعر في الحشد (بونويل يعتبر الحشد : ما يزيد على ثلاثة أشخاص). القراءة العامة تربكني. انه موقف لا يحسد عليه أحد. إنني حتى الآن، وبعد كل هذا العمر، فالقراءة في الأمسيات ضرب من الامتحان القاسي الذي أتمنى المعجزات لتفاديه. لكنني اضطر لذلك لكي أرى الأصدقاء والعالم.
ليس بالضرورة أن يكون الشاعر قادراً أو موهوباً في ارتجال الكلام والتعبير عن أفكاره شفوياً. ثمة أشخاص، وأنا أولهم، يجدون أن كل ما يتعلق بالكتابة يجب أن يكون مكتوباً. وثمة أشخاص، وأنا لست منهم، يتميزون بموهبة الارتجال بصورة تدهشني.
هذا الحوار مثلاُ. من المؤكد أنني لن أتمكن من ارتجال ربع الحديث الذي أنجزه هنا حتى الآن. مستحيل. أشعر بأنني عندما أكتب تشترك أعضاء كثيرة من الجسد والروح في آن واحد. ليس العقل والعواطف والذاكرة والخيال فقط، لابد أن تكون للأصابع واليد والبصر أدوار لا يستهان به في هذه اللحظات للكتابة بوصفها شكلاً حياً طاقة على شحذ التعبير. ثمة حساسيات جديدة تتخلق بفعل آليات الكتابة المستحدثة. أكثر من هذا، فإنني أستطيع الزعم، في هذه المناسبة، أنني صرت أكثر مقدرة على الكتابة وأكثر تدفقاً بعد أن تعودت وتآلفت مع استخدام (كيبورد) الكمبيوتر. إنها سلاسة أشعر بأن القلم قد يعجز عنها (من وجهة نظر تجربتي الشخصية). * في بحث له، قال مرة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث ان الشعر هو خارج القصيدة. كيف ترى أنت الى هذه المقولة؟ من أين يأتي الشعر عند قاسم حداد؟
- دائما الشعر هو قبل الكتابة وبعدها، وإلا فلا معنى للنص. لأن الاكتفاء باقتصار الشعر على القصيدة هو وهم يؤدي الى تفريط الكائن في حقيقته الوجودية ونفي الصلة الجوهرية بين الشخص والنص. لذلك كنت أقول دائما بأن الشعر هو طريقة حياة وليس طريقة كتابة فقط.
ولا أعرف الى أي حد أستطيع الزعم بأنني لا أكاد أميز تخوماً بين وجودي المادي في الكون وتمثلي الفيزيائي في الشعر بوصفه فعلاً نصياً يعبر عن أخلاطي الغامضة من مشاعر ورؤى وأحلام وتوق جمالي. الشعر هو هنا وهناك في نفس اللحظة. وأخشى أننا إذا فرطنا في السعي الحقيقي بتحويل العالم الى صنيع شعري سوف نفقد أسباب وجودنا ونفي قدرتنا وجدارتنا بهذه الحياة. وإذا حدث أنني لم أكتب نصاً لبعض الوقت فان هذا لا يعني أنني لا أعيش الحالة الشعرية التي تميزني عن الكائن غير الشعري. * هل لا يزال للشعر اليوم أي دور يلعبه. كيف تحدد أنت هذه العلاقة؟ بمعنى آخر، يقودنا السؤال الى سؤال آخر: لماذا نكتب اليوم؟
- لا أعرف على التعيين جواباً ناجزاً على هكذا سؤال.
على كثر ما تعرضت لهذا السؤال إلا أنني في كل مرة أجد نفسي مضطرباً وبلا جواب واضح. كأن شخصاً يسألني ( لماذا أنت هنا). قلت مرة أنني اكتب لأنني لا أحسن فعل شيء آخر غير هذا. وهو قول مما يضعني في خانة العاطل الباحث عن وظيفة شاغرة. ثم أن الشعر لا يلعب أدواراً ولا يجب ان يبحث عن أدوار يلعبها.
الشاعر هو بلا وظيفة شاغرة أبدا. ربما لأنه في العمق لا يصدر عن كونه موظفاً لدى جهة أو سلطة. انه موجود في الحياة لأنه موجود في الشعر بالدرجة الأولى. هل في هذا ضرب من الجنون؟ الشعر هو أيضا جنون خالص. خصوصاً إذا وجد الشاعر في واقع يملك أن يطرح عليه سؤالاً لا معنى له مثل : لماذا تكتب؟ . * غير الشعر هناك جانب "تنظيري" في كتاباتك الأخرى، هل يبدو الشاعر أحيانا بحاجة الى "فلسفة" مصاحبة للقصيدة؟
- ليس تماماً. عندما كتبت ذلك لم أكن أسعى الى تنظير ما يتعلق بالشعر. إنما كنت كمن يفكر مع نفسه بصوت عال ويحاور تجربته مشركاً الآخرين (إذا طاب لهم ذلك) في تأكيد حق التأمل المشترك بين الشاعر والقارئ. الى ذلك، فإنني أشعر بأنني أكتسب نوعاً من اللياقة الفنية والجمالية والمعرفية فيما أكتب تلك المقالات الصادرة عن انطباعات أو قراءات ذاتية في المسألة الشعرية وما يتصل بها. لكن من المؤكد أنني لا أسعى الى (فلسفة) ما بقصد الترويج لها أو تزكيتها أو تبرير التجارب التي طرحتها أو أحلم بها. لا أظن أنني مؤهل لمثل هكذا مشروع. إنني أدرّب نفسي دائماً على الإصغاء لدواخلي والإصغاء للآخرين في آن واحد.
لكن إذا بدت بعض الكتابات في صيغة تأمل نقدي فإنما هو شكل من أشكال الاستطراد (المبالغ فيه) بعد القصيدة السابقة وقبل القصيدة اللاحقة. وليس من الحكمة أخذ مثل هذه الكتابات كما لو أنها حكم قيمة نافذ لقناعات نهائية للشاعر في هذا الحقل أو تلك القضية. على العكس أنني أشعر بأن مثل هذه الممارسة من شأنها، ومن بين أبرز مهماتها، أن تمنحني الحصانة ضد الركون الى قناعة ثابتة أو رؤية مستقرة للمسألة الفنية في الشعر والكتابة كما في الحياة. فربما أكون شخصاً ورؤية مختلفة بعد قليل من هذا المقال، وربما أكون مغايرا كثيرا فيما أنا عن كثيب من النص التالي. هذه هي الحياة. * هل لعب الشعر الأجنبي أي دور في صوغ عالمك الشعري؟ أم أنك تجيء من شعر عربي خالص؟ أطرح السؤال وأنا أفكر في العديد من المقولات التي لا تزال تظهر أحيانا باتهام الشعر الجديد ( المنثور، الحر، قصيدة النثر...) بأنه يتنكر لتراثه، وبأن ما يكتب اليوم ليس سوى أفكار مستوردة، وما الى هنالك من تعقيبات تقف ضد القصيدة الجديدة؟
- الشعر الأجنبي، من بين مصادر ثقافية غاية في التنوع، هو أحد المؤثرات غير المباشرة على حساسيتي الأدبية عموماً. أقول، غير المباشرة، لأن التأثر لا يكون مباشراً إلا إذا جاء من قراءة النص بلغته الأصلية. خصوصاً إذا كان شعراً. فليس من المتوقع أن تصدر تجربة شعرية كثيفة بدون لغة تسعفها في الاتصال بالنص الأصلي. فإذا كنت تقصد الشعر الأجنبي المترجم فإنني بالطبع قرأت شعراً مترجماً الى العربية عن لغات مختلفة لأنني لا أمتلك لغات تسعفني على الذهاب الى الشعر الأجنبي في مضانه. غير أنني كنت ولا أزال مولعاً بقراءة الشعر المترجم من شعوب مختلفة وأتابع كل جديد بعناية بالغة. هذه متعة لا أفرط فيها أبداً.
ولا أكترث بالوهم الذي يصادر حرية الشاعر في أن يأخذ ما يشاء من أية جهة يحب وأية لغة أو أدب يتصل به. ليست لدي عقدة إزاء المزاعم التي تسبق النص والتجربة لكي تصادر أن يكتب الشاعر العربي الجديد بالشكل الذي يروق له مهما كان مصدره أو مذهبه. فالتراث الإنساني هو تراثي على الاطلاق. أما الكلام عن الأفكار المستوردة هو الآن نوع من السذاجة التي لا تليق بكائن يعيش هذا العصر. وليس من الحكمة إضاعة الوقت في هذا. * منذ سنوات أحدثت موقعا الكترونيا: "جهة الشعر"، وقد تكون "رائدا" في هذا المجال.أولا ما الدافع الذي كان وراء العمل في هذا المجال، أي لماذا كان "جهة الشعر"؟ وثانيا هل تعتبره "وريثا" ما لمجلة "كلمات" التي توقفت؟
- الشعر هو السر. الولع بأن أرى الشعر في مكانه الجميل. مغامرتي في مصادفات العلاقة بالمستقبل واستحواذ الأحلام علي سلوكي جعلني أتصل مبكراً بالكمبيوتر. وهذا سوف يساعد على اتصالي المبكر أيضاً بتجربة الانترنت وبالتالي بالنشر الإلكتروني.
وسرعان ما رأيت في هذا المجال ما يحقق شيئاً من معطيات المخيلة. لقد شعرت أن في فكرة الانترنت شيء من الشعر، بل أنها فكرة شعرية خالصة ومكتنزة بما يغري بالمغامرة الشعرية التي لا أفرط في الاستسلام لها دائماً وبحرية كاملة.
قال لي صديقي (عبيدلي عبيدلي) وهو مدير مؤسسة لتقنية المعلومات في البحرين، تعال نطلق موقعاً عن الشعر العربي باسم المتنبي. قلت له لا، أحب أن يكون الاسم متصلاً بالمستقبل وليس بالماضي. اقترحت عليه اسم (جهة الشعر). وهكذا كان. وسرعان ما رأيت الشعر الجديد في الأفق الأزرق واضحاً، ولم أفعل بعد ذلك سوى السعي لتحقيق تلك الرؤيا. وتبلورت التجربة التي صرت أتعلم فيها كل يوم شيئاً جديداً ومشوقا وغير مسبوق.
ما توفره شبكة الانترنت ينطوي على شرطين يهمني توفرهما في ما يمكن أن أعمل عليه: الحرية والجمال. ويعرف الذين يتصلون بالانترنت ما أعني بهذين الشرطين.
قياساً للفترة التي أطلقت فيها (جهة الشعر) نجد الآن لحسن الحظ ان عددا كبيرا من الشعراء قد أسس موقعا شخصيا أو شارك في شيء من هذا. مما يبهجني حقاً. فقد قلت غير مرة بأن هذه التجربة مستقبل لا يمكن تفاديه ولا يجوز أن نتأخر عنه أكثر مما فعلنا. شريطة أن لا نذهب الى النشر الالكتروني والانترنت (بوهم الانتشار الإعلامي) ولكن (برغبة الاتصال الإنساني). وكلما أخلصنا الى حقيقة كون الشعر والإبداع هو في جوهره فعل حب شاسع، فمن المتوقع أن يكون حضورنا في هذا الحقل مدعاة للأمل في إسهام الإبداع العربي في الحوار الإنساني الجميل.
ولا يجوز أن نقلل من الدور الذي بدأت تجربتنا في وعيه، فما زال أمامنا الوقت لاستدراك ما فاتنا من جماليات الحوار الإنساني بعناصرنا الإبداعية التي هي أكثر أهمية وصدقاً وفعالية من العناصر والوسائل السياسية البليدة التي ستأخذنا دائما الى الطرق المسدودة، لأن أحدا في العالم لا يصغي إليك إلا إذا كنت مبدعاً وتذهب الى العالم برغبة الحب والمعرفة وليس بوهم إعطاء الدروس والوعظ والإرشاد.
(جهة الشعر) من هذه الشرفة قد حققت حضوراً إنسانياً فاتناً بشهادة الكثيرين. واكتسبت خبرة مضاعفة وصداقات غاية في التنوع وشكلت جسراً حيويا للشعر جميعه وبين الشعراء في مناطق عديدة من العالم. وأصبح يسهم فيها شعراء ومترجمون من جنسيات مختلفة. كل ذلك بجهود فردية خالصة لا يكاد أحد يصدق إنها كذلك طوال الوقت. غير أن ذلك يحدث ما دمنا نصنع شيئاً نحبه. ولا يحتاج الانسان لمعجزة لكي يفعل شيئاً مثل هذا، انه لا يحتاج سوى لطاقة أكيدة وواثقة من الحب والصدق.
(جهة الشعر)، وبعد ما يقارب من التسع سنوات، هي الآن تستعد لنقلة نوعية من العمل الفردي والجهود الشخصية الى مشروع جماعي وتطوير ثقافي وتقني وفني ينطلق في بداية العام القادم 2004، بمشاركة مجموعة أصدقاء شعراء و مبدعين في التحرير والاستشارة عربياً ودولياً. * كيف تنظر اليوم الى الخارطة الشعرية العربية؟
- أقرأ النص وقرينه. كأن (الماء زاد على الطحين) كما يقول المثل الشعبي. لكنني أقرأ ما يصلني وما أصل اليه. ثمة كثافة كمية في الكتابة يتخللها شعر يحتاج للتمعن والإمعان في الفرز.
أتمنى أن لا يكون هذا الاندفاع العارم لكتابة الشعر سبباً للقلق. على العكس، ربما يستدعي هذا أن نثق بأن ثمة ما يعتمل في عدد لا بأس به من التجارب الجديدة على امتداد الشعرية العربية. ما يهمني في هذا العنفوان الشعري هو ما يكون على الأرجح خارج السرادقات، في الهوامش الهادئة ولدي من يكتب نصوصه بدرجة من التردد والحذر. ان ظاهرة كثرة من يكتبون ليس دليلا على وجود الشعر، غير أن الشعر سيكون موجوداً بالشكل والطريقة التي تتطلبها طبيعة جديدة مختلفة عما عهدناه في زمننا. لذلك علينا أن نحسن الإصغاء للتجارب الجديدة، الشعرية منها خصوصاً، لكي نتعلم كيف نقرأ هذه التجارب. وربما هذا التسارع المذهل لولادة الأصوات واحتدامها من شأنه أن يربك طبيعتنا القديمة في التفاهم مع ما يكتبه الشباب. لكن علينا أن لا نثق أكثر من اللازم في أن منظوراتنا وذائقتا وآلية تعبيرنا ستكون دائماً صالحة وبمثابة أحكام قيمة على ما يحاول الشعراء الجدد اقتراحه علينا. لابد أن نكون حذرين عند هذه المسألة.
وأن لا نتوقع تجارب شعرية واضحة المعالم والاكتمال مهيبة الشخصية تقليدية الشروط مثل الذي عهدناه في رواد وكبار شعراء الحداثة المكرسين. أظن أن علينا التخلي عن مثل هذه الأوهام. ثم ان هذا لا يحدث في مراحل المنعطفات الكبرى لتحول الأفكار الأساسية لمفاهيم الشعرية جذرياً.
ثمة ما يتكون بشكل مغاير تماماً للسابق، فالأصوات الجديدة تذهب بعيداًُ عن الشروط السابقة. الأمر الذي يجعل سؤالاً يرى الى الشعر من شرفة (الخارطة الشعرية العربية) معرضاً للإخفاق إذا هو جاء بأدوات النظر القديمة، تلك النظرة التي تشبه نظرة السائح الى معالم الخريطة والمظاهر البارزة فيها. هناك تجارب شعرية باهرة وجديرة بأن تقرأ جيداً. وأخشى أننا لم نعد نصادف من يقرأ جيداً لكي يتعرف (وان بصعوبة وبعض الجهد) على الشعراء من خلال نصوصهم وليس من خلال كلامهم أو الكلام عنهم أو الكلام عليهم. ثمة آلية تعاطي سلبية مع التجارب الشعرية الجديدة باتت تشكل ما يشبه الحجاب الذي يحجب نصوصا جيدة تحت طائلة الزعم المطلق بنفي جديد الشعر. هذا بالضبط ما يقلقني.
17 تشرين الأول 2003
|