لقاءات

ليس النص هو المهم .. بل المبدع

محمد حجي محمد
(المغرب)

لنبدأ بقصيدة النثر، بعد أكثر من ربع قرن على التحاقها بالقصيدة العربية الحديثة، ما الذي استطاعت أن تضيفه من إسهامات جديدة إلى الحقل الشعري العربي وكيف تنظرون إلى الحصار الذي تعانيه اليوم من قبل معظم الشعراء والنقاد على الرغم من المد الذي تشهده في أكثر من بلد عربي ؟

- أحب أولاً أن أطرح تحفظاً نقدياً حول مصطلح (قصيدة النثر) لأنه تعبير ينطوي على ملابسات دلالية وتاريخية تبدأ من الشاعر الأمريكي والت ويتمان مروراً بالشعر الأوروبي، الفرنسي خاصة، ولا تنتهي في اختلاط الاجتهادات العربية التي تصل حد التناقض. وقد أدى ذلك كله إلى ارتباكات كثيرة في الشعر العربي المعاصر، على صعيد النقد والشعر والقارئ معاً.

أعتقد أن تعبير (قصيدة النثر) لم يعد صالحاً للتعبير عن الكتابة الشعرية الجديدة التي تتجلى في نماذج عربية قليلة. وينبغي علينا التوقف عن الكلام أو تداول هذا المصطلح. ونتحدث عن الشعر، خاصة بعد أن تكشفت التجربة الشعرية الجديدة عن رؤية فنية ترى إلى القصيدة بأفق أكثر رحابة وعمقاً في آن، دون أن تكون البحور (أو الوزن، أو التفعيلة) شرطاً لشعرية النص. أما عن الذي أضافته هذه التجربة الشعرية، فالأمر سيبدو أكثر تعقيداً مما نتوقع القول عنه سريعاً بهذا الشكل.

أولاً، لم يعد جائزاً الكلام عن شيء يشير إلى كون (قصيدة النثر) تجربة منفصلة، أو ملتحقة، أو متمرحلة، مع الشعر العربي عامة. فالتنظير الذي روجه نقاد وشعراء منظرون كثيرون لتكريس الفصل بين الكتابة وزناً والكتابة خارج ذلك الشرط، ذلك التنظير سبب في التعامل مع الكتابة الجديدة (مهما كانت طبيعة اجتهادها الإبداعي) كما لو كانت كتابة دخلت على المتن الشعري العربي بعناصر ليست شعرية، أو على الأقل قادرة على النهوض بمسؤولية التعبير الشعري.

ثانياً، مادامت تجربة الحداثة الشعرية الأولى (السياب ورفاقه) لم تزل تحت شك الإضافة، على أكثر من صعيد نقدي وتاريخي، فإن الكلام عن إضافات موضوعية (شعرياً) يمكن ان نتوقعها من اجتهادات غاية في الارتباك والتشوش، ليس سوى ضرب من التسرع، وأخذ الأمور على غير طبيعتها الحقيقية. لأننا بهذا المنطق سنقع تحت نفس الوهم (النقدي) الذي يريد أن يرى إلى تجربة الشعر الحديث - وهي تجربة لم يتجاوز عمرها الزمني أكثر من خمسين عاما - كما يرى إلى تجربة الشعري العربي القديم الذي استقر منذ مئات السنين، وأصبح على قدر من الاكتمال والتقنين. وهذا اختلاط يبتسر التجارب، ولا يتيح للحركة العميقة في تاريخ الأدب لأن تأخذ ما يكفيها في سبيل التبلور، إننا لسنا في عجلة من أمرنا على الإطلاق. والذين يركضون نحو تحقيق تاريخيتهم الأدبية، وإنجاز النصوص والتنظير أمام حركة الإبداع وليس في داخله وعمقه، إنما هم يتورطون في وهم النص ويذهبون بعيداً عن حقيقة الحياة وإبداعها. الكتابة الشعرية العربية الراهنة إنما تطرح اجتهادات ينبغي إنقاذها من غابة المصطلحات والتنظيرات الهامشية، أولاً، والإيمان بها كحركة فعل رؤية وحرية تواصل التعبير عن الطاقات الكامنة التي لا يعنيها من يحاصرها أو يصادرها، إنما تحتفي خصوصاً لأن يكون النص الشعري قادراً على حمل عبء تلك الحريات الخارقة التي يذهب إليها.

ولعل الكتابات الكثيرة التي تصدر عن مناطق عربية معتمداً تلك الخروجيات الشعرية، لا تستدعي ثقة كبيرة في كونها كتابات شعرية حقاً، بل تستدعي التريث والشك في أن تلك الكتابات جديرة بصياغة رؤية واضحة لما يجري على صعيد الشعر العربي الجديد، ففي البلاد العربي المزيد من الكتب والنصوص التي لا تنم عن الوعي الشعري الذي تنهض به الموهبة. لقد أصبحت كتابة الشعر عند الكثيرين ضرباً من فعل الترف الثقافي والاستهانة وسلوك الاستهلاك الاجتماعي. وفي مثل هذه الظاهرة تقتل العديد من الذين يتوهمون الشعر فيما يكتبون وينشرون. الشعر شيء والنثر شيء آخر. علينا أن نتميز بالصرامة مع أنفسنا، لا ينبغي قبول كل ما يكتب (مهما كان كاتبه) على أساس أنه شعر. وعلى الصحافة الثقافية العربية من البحر إلى البحرين أن تكف عن الخضوع لاستراتيجية الإعلام، والالتفات إلى مسؤولية الأدب والمعرفة الأدبية. لا بد من أن نيأس بشكل جيد من الأوهام المهيمنة.

ليس النص هو المهم .. بل المبدع أجراه محمد حجي محمد (المغرب) لنبدأ بقصيدة النثر، بعد أكثر من ربع قرن على التحاقها بالقصيدة العربية الحديثة، ما الذي استطاعت أن تضيفه من إسهامات جديدة إلى الحقل الشعري العربي وكيف تنظرون إلى الحصار الذي تعانيه اليوم من قبل معظم الشعراء والنقاد على الرغم من المد الذي تشهده في أكثر من بلد عربي ؟ - أحب أولاً أن أطرح تحفظاً نقدياً حول مصطلح (قصيدة النثر) لأنه تعبير ينطوي على ملابسات دلالية وتاريخية تبدأ من الشاعر الأمريكي والت ويتمان مروراً بالشعر الأوروبي، الفرنسي خاصة، ولا تنتهي في اختلاط الاجتهادات العربية التي تصل حد التناقض. وقد أدى ذلك كله إلى ارتباكات كثيرة في الشعر العربي المعاصر، على صعيد النقد والشعر والقارئ معاً. أعتقد أن تعبير (قصيدة النثر) لم يعد صالحاً للتعبير عن الكتابة الشعرية الجديدة التي تتجلى في نماذج عربية قليلة. وينبغي علينا التوقف عن الكلام أو تداول هذا المصطلح. ونتحدث عن الشعر، خاصة بعد أن تكشفت التجربة الشعرية الجديدة عن رؤية فنية ترى إلى القصيدة بأفق أكثر رحابة وعمقاً في آن، دون أن تكون البحور (أو الوزن، أو التفعيلة) شرطاً لشعرية النص. أما عن الذي أضافته هذه التجربة الشعرية، فالأمر سيبدو أكثر تعقيداً مما نتوقع القول عنه سريعاً بهذا الشكل. أولاً، لم يعد جائزاً الكلام عن شيء يشير إلى كون (قصيدة النثر) تجربة منفصلة، أو ملتحقة، أو متمرحلة، مع الشعر العربي عامة. فالتنظير الذي روجه نقاد وشعراء منظرون كثيرون لتكريس الفصل بين الكتابة وزناً والكتابة خارج ذلك الشرط، ذلك التنظير سبب في التعامل مع الكتابة الجديدة (مهما كانت طبيعة اجتهادها الإبداعي) كما لو كانت كتابة دخلت على المتن الشعري العربي بعناصر ليست شعرية، أو على الأقل قادرة على النهوض بمسؤولية التعبير الشعري. ثانياً، مادامت تجربة الحداثة الشعرية الأولى (السياب ورفاقه) لم تزل تحت شك الإضافة، على أكثر من صعيد نقدي وتاريخي، فإن الكلام عن إضافات موضوعية (شعرياً) يمكن ان نتوقعها من اجتهادات غاية في الارتباك والتشوش، ليس سوى ضرب من التسرع، وأخذ الأمور على غير طبيعتها الحقيقية. لأننا بهذا المنطق سنقع تحت نفس الوهم (النقدي) الذي يريد أن يرى إلى تجربة الشعر الحديث - وهي تجربة لم يتجاوز عمرها الزمني أكثر من خمسين عاما - كما يرى إلى تجربة الشعري العربي القديم الذي استقر منذ مئات السنين، وأصبح على قدر من الاكتمال والتقنين. وهذا اختلاط يبتسر التجارب، ولا يتيح للحركة العميقة في تاريخ الأدب لأن تأخذ ما يكفيها في سبيل التبلور، إننا لسنا في عجلة من أمرنا على الإطلاق. والذين يركضون نحو تحقيق تاريخيتهم الأدبية، وإنجاز النصوص والتنظير أمام حركة الإبداع وليس في داخله وعمقه، إنما هم يتورطون في وهم النص ويذهبون بعيداً عن حقيقة الحياة وإبداعها. الكتابة الشعرية العربية الراهنة إنما تطرح اجتهادات ينبغي إنقاذها من غابة المصطلحات والتنظيرات الهامشية، أولاً، والإيمان بها كحركة فعل رؤية وحرية تواصل التعبير عن الطاقات الكامنة التي لا يعنيها من يحاصرها أو يصادرها، إنما تحتفي خصوصاً لأن يكون النص الشعري قادراً على حمل عبء تلك الحريات الخارقة التي يذهب إليها. ولعل الكتابات الكثيرة التي تصدر عن مناطق عربية معتمداً تلك الخروجيات الشعرية، لا تستدعي ثقة كبيرة في كونها كتابات شعرية حقاً، بل تستدعي التريث والشك في أن تلك الكتابات جديرة بصياغة رؤية واضحة لما يجري على صعيد الشعر العربي الجديد، ففي البلاد العربي المزيد من الكتب والنصوص التي لا تنم عن الوعي الشعري الذي تنهض به الموهبة. لقد أصبحت كتابة الشعر عند الكثيرين ضرباً من فعل الترف الثقافي والاستهانة وسلوك الاستهلاك الاجتماعي. وفي مثل هذه الظاهرة تقتل العديد من الذين يتوهمون الشعر فيما يكتبون وينشرون. الشعر شيء والنثر شيء آخر. علينا أن نتميز بالصرامة مع أنفسنا، لا ينبغي قبول كل ما يكتب (مهما كان كاتبه) على أساس أنه شعر. وعلى الصحافة الثقافية العربية من البحر إلى البحرين أن تكف عن الخضوع لاستراتيجية الإعلام، والالتفات إلى مسؤولية الأدب والمعرفة الأدبية. لا بد من أن نيأس بشكل جيد من الأوهام المهيمنة. * أنتم تكتبون الشعر الحر والشعر المنثور فأين تجدون أنفسكم ؟ في إجابة على سؤال مماثل (لمجلة اليوم السابع) قلت تفصيلاً عن هذا الأمر، أختزل الآن - تفادياً للتكرار - بأنني أكتب - (حين أكتب) بمعزل عن الشرط السابق. ليست للكتابة بأنواعها حدود، ما دامت تحقق الشعرية، دون أن يعنى هذا الكلام نجاح كتابتي، إنها محاولات فحسب. وعندما أنتهي من الكتابة، متوهماً أنني وجدت نفسي في هذا الشكل، أكتشف أنني أفقدها فأقع في الفجيعة. * لماذا جاء "موت الكورس" مشتركاً بينكم وبين القاص أمين صالح ؟ وكيف قوبل في البحرين ؟ "موت الكورس" بالأساس كان مقدمة لمشروع نشتغل فيه معاً، منذ عام 1984، ولم نزل. أمين صالح وأنا نشكل تجربة ذات تجليات متقاربة إلى حد كبير، أو على الأقل إنني أزعم ذلك. لقد التقينا منذ الستينات ولم نفترق أبداً. الحوار الإبداعي فيما بيننا، لم يتوقف عن التأجج. نحتفي كثيراً بعوالمنا الداخلية التي لم تنقطع عن واقع يتميز بالضراوة (ذاتياً وموضوعياً). فجأة وجدنا أنفسنا أمام مغامرات ومفاجآت تغرينا بعدم التوقف. جاء أمين صالح من تجربة الكتابة القصصية (بروافد فنون أخرى هام بها أمين صالح من أهمها السينما)، وجئت من الكتابة الشعرية. ترى ماذا يشكل هذا اللقاء (متسلحاً بحريات رؤيوية وفكرية وفنية لا حدود لها) عندما يستجيب لغواية الكتابة ؟! بعد أن قطعنا شوطاً في ذلك المشروع، تكشفت بغتة فكرة "موت الكورس" - دون أن نطلق عليه اسم بيان. أردناه أن يكون نصاً أدبياً بعيداً عن التنظير السائد. وكنا فيه نحاور ذاتنا أكثر مما نقدم خطاباً للآخرين. الشيء الوحيد الذي تمنيناه على القارئ هو أن يعيد النظر في كل ما ورد في النص (من المؤكد أننا نعني جميع النصوص على الإطلاق) وأن يهدم النص بعد اكتماله. ويبدو أن هذا الهاجس هو الذي يتحقق في علاقتنا فيما نكتب. فنحن نؤمن - بما لا يقاس - بأن كل ما يكتب من نصوص لا ينبغي أن تكون مقدسة (فنياً) ومن الخطورة التعامل معها على هذا الأساس. وأخشى أن مثل هذه الرؤية هي التي تفزع بعض الذين يرون أنفسهم، ككيان أدبي مستقر ومكرس، في درجة القداسة التي يرجونها لنصوصهم، بالنسبة لنا ليس النص هو المهم، لكن المبدع، وكل أشياء العالم لابد أن تصير تحت سطوة الشك والمساءلة والنقض أيضاً.
* أنتم تكتبون الشعر الحر والشعر المنثور فأين تجدون أنفسكم ؟

في إجابة على سؤال مماثل (لمجلة اليوم السابع) قلت تفصيلاً عن هذا الأمر، أختزل الآن - تفادياً للتكرار - بأنني أكتب - (حين أكتب) بمعزل عن الشرط السابق. ليست للكتابة بأنواعها حدود، ما دامت تحقق الشعرية، دون أن يعنى هذا الكلام نجاح كتابتي، إنها محاولات فحسب. وعندما أنتهي من الكتابة، متوهماً أنني وجدت نفسي في هذا الشكل، أكتشف أنني أفقدها فأقع في الفجيعة.

* لماذا جاء "موت الكورس" مشتركاً بينكم وبين القاص أمين صالح ؟ وكيف قوبل في البحرين ؟

"موت الكورس" بالأساس كان مقدمة لمشروع نشتغل فيه معاً، منذ عام 1984، ولم نزل. أمين صالح وأنا نشكل تجربة ذات تجليات متقاربة إلى حد كبير، أو على الأقل إنني أزعم ذلك. لقد التقينا منذ الستينات ولم نفترق أبداً. الحوار الإبداعي فيما بيننا، لم يتوقف عن التأجج. نحتفي كثيراً بعوالمنا الداخلية التي لم تنقطع عن واقع يتميز بالضراوة (ذاتياً وموضوعياً). فجأة وجدنا أنفسنا أمام مغامرات ومفاجآت تغرينا بعدم التوقف. جاء أمين صالح من تجربة الكتابة القصصية (بروافد فنون أخرى هام بها أمين صالح من أهمها السينما)، وجئت من الكتابة الشعرية. ترى ماذا يشكل هذا اللقاء (متسلحاً بحريات رؤيوية وفكرية وفنية لا حدود لها) عندما يستجيب لغواية الكتابة ؟! بعد أن قطعنا شوطاً في ذلك المشروع، تكشفت بغتة فكرة "موت الكورس" - دون أن نطلق عليه اسم بيان. أردناه أن يكون نصاً أدبياً بعيداً عن التنظير السائد. وكنا فيه نحاور ذاتنا أكثر مما نقدم خطاباً للآخرين. الشيء الوحيد الذي تمنيناه على القارئ هو أن يعيد النظر في كل ما ورد في النص (من المؤكد أننا نعني جميع النصوص على الإطلاق) وأن يهدم النص بعد اكتماله. ويبدو أن هذا الهاجس هو الذي يتحقق في علاقتنا فيما نكتب. فنحن نؤمن - بما لا يقاس - بأن كل ما يكتب من نصوص لا ينبغي أن تكون مقدسة (فنياً) ومن الخطورة التعامل معها على هذا الأساس. وأخشى أن مثل هذه الرؤية هي التي تفزع بعض الذين يرون أنفسهم، ككيان أدبي مستقر ومكرس، في درجة القداسة التي يرجونها لنصوصهم، بالنسبة لنا ليس النص هو المهم، لكن المبدع، وكل أشياء العالم لابد أن تصير تحت سطوة الشك والمساءلة والنقض أيضاً.

أما كيف قوبل هذا في البحرين، فإن سدنة الثبات وعبدة النصوص، لا يروق لهم أن يكون المرء حراً فوق كتفيه. ولقد تجاوزت ردود الفعل حدود البحرين والخليج، ونادراً ما استوقفنا نقاش مهم في هذا السياق. على كل حال، إننا الآن نشعر أننا كنا رفقاء كثيراً مع تجربتنا.. رغم كل شيء.@

رجوع...

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى