|
ضقت ذرعا بكل شيئ
جريدة الرأي العام - الكويت
يوسف بزي
- من البحرين كل هذا العذاب، وما عليك إلا أن تصغي لهذا الصمت الذي يسوّر صوتي، لتعرف أن في البحرين بحار كثيرة، على الشاعر أن يجتازها، نكاية بالخليل بن أحمد وبحوره الساكنة، وتنكيلاً بما لا يقاس من السلطات التي ما أن تبدأ حتى لا تنتهي.
- (أخبار مجنون ليلى) تنشأ في الحياة، إذا تيسر لك أن تصادف صديقاً باهراً مثل الفنان ضياء العزاوي، قادر على غوايتك نحو المناطق التي حلمتَ بها وحيداً. و حين كتبتُ أخبار المجنون إنما كنت أقول أخباري، فالقصة القديمة لم تعد تعنيني. إنني لا أصدق ما قيل ويقال لنا عن الماضي. فالأسطورة أجمل بكثير من تاريخهم. مجنون ليلى هو أنا، هو ضياء، هو نحن / الآن. وينبغي أن نعيد قراءة كل شيء بحرية المخيلة وليس تحت سطوة المعلومات المعطوبة و العقل الواقف.
- أصحاب الحداثة (كمعرفة مقطوعة عن الحياة) قد يصطدمون بما يدعوهم إلى اليأس، فتلك أوهامهم. أما المبدع فهو لا يرى غير ذلك الأفق اللامتناهي في الحياة. وظني أن أدونيس (إذا كنتَ تدرك كُـنْهَ تجربته) لم يكن يذهب عن التراث ليعود إليه. إنه أحد المبدعين العرب الذين يدركون العلاقة بين الإنسان والنص، في مختلف حقول الحضارة وفتراتها الزمنية المختلفة، لكنه دائم إعادة النظر والشك فيما يفعل. ومن باب أجمل أن يتميز من يقرأه بالشك هو أيضاً.
- لم نتفاهم (العزاوي وأنا) على شيء، إنما تقاطعنا في التجربة الإبداعية، فقد جاء هو بخياله الجامح وألوانه الحارة ليقول (تشكيلياً) حساسيته مع أسطورة قيس وليلى، حيث جنون اللون هو الفارس الذي يقودنا إلى المهاوي الجميلة. فيما جئتُ إلى المجنون برؤيتي المعاصرة، أقرأ فيه أعماقي الشاملة، و أكتب غير ما اعتقدَ الآخرون بأنها أخبار قيس بن الملوح. العزاوي وأنا من المولعين بتقاطع الأنواع التعبيرية بشتى تجلياتها. وهذا جانب من السر.
- قلتُ ذات قصيدة في (عزلة الملكات) :
(أتذكر المستقبل قبراً قبراً).
إن المشكلة بالنسبة لنا هو المستقبل وليس الماضي. وهنا يكمن الجوهر. فلو أننا نستطيع أن نذهب إلى المستقبل أنقياء من الماضي لكان ذلك أجمل لنا، وقد يساعدنا الاكتشاف المبكر لمستقبلنا، أعني، لما نريده في مقابل ما نرفضه. فالحرية ليست في أن تعرف ما ترفضه، لكن أن تدرك ما تذهب إليه، وهذا بالطبع ليس من شأن الشعراء (إنهم يعرفون) فلو أن أحدا يصغي للشعراء في التاريخ العربي لما تعرضنا لكل هذا الخراب.
لستُ من المأخوذين بردم الفجوة بين الماضي والمستقبل، على العكس، أحلم بتكريس اتساعها وتعميقها ومحو الظلال المتماهية في هذه المسافة الجهنمية. إننا إلى المستقبل ننتمي أكثر من الماضي، هذا الماضي الذي لا يريد أن يذهب عنا، كأن المستقبل يبالغ في الغياب.
- لقد ضقتُ ذرعاً بكل شيء. إنني لا أطيق أن أتكرر في أشياء الحياة. أحبُ أن أقول نفسي بكلمة وشكل وإيقاع وصوت جديد في كل مرة. ربما لأنني أشعر حقاً بذاتٍ مختلفة في اليوم التالي. ولا أشبه نفسي التي كنتها قبل أيام، فهذه الآلة الجهنمية من الرتابة والتكرار التي تفتك بحياتنا اليومية لا علاقة لها بأعماقي، ولا سلطة لها على ذاتي الداخلية، ثمة في الباطن جذوة من الفتوة تظل متأججة وجديدة دوماً، ولولا هذا الشعور الغامض العميق لكنت انتهيتُ أمام نفسي، وساعتها سوف أكفُّ عن الحياة. إنني شيء آخر في كل لحظة، إنه شعور ممتع ويجعل المرء في درجة من اللذة تضاهي وجد المتصوفة وتجلياتها.
وهنا أجد نفسي مستجيباً دائماً لشهوة الانتقال التعبيري، معتبراً الأشكال اللانهائية المتاحة لي (بفعل المخيلة) مُسعفي الأول من آلة الحياة اليومية التي ينزلق عليها الآخرون. وبهذا لا أغادر الشعر أبداً، فالشعر هو كل نأمة في حياتي، وهو يتحول بي ويكتسب جماله معي.
- هذا كلام يسقط في تعميم لا أحبه. ولا أحب الخوض فيه. وبودي لو أن الصحافة الثقافية العربية تُعيد النظر في أسلوب تعاطيها مع المسائل الشعرية والنقدية. فمثل هذه الإطلاقات راجَـتْ عن طريق الصحافة الثقافية بدرجات مختلفة من عدم الشعور بمسؤولية ما تفعل. أتمنى أن يأتي يومٌ توضع مثل هذه الأحكام (من قبل نقاد دارسين وشعراء متأملين) موضع الدرس. فبالدرس وحده أستطيع أن أصغي لقرائة شعر الشباب في الخليج وفي غير مكان، دون أن يمنع ذلك أحداً من حرية قول ما يريد، لكن دون أن يتوقع منا أن نأخذ كلامه مأخذ الجد. ***
|
|
|
|