جريدة البيان - دبي
محمود جمال الدين
س / المرجعيات الأولى لشاعرية قاسم حداد، القراءات الأولى، الطفولة. بمن تأثرت من الشعراء العرب، الأوربيين. القراءات القصصية، و أثر كل هذا فيما بعد لاتجاهك في كتابة النص الشامل الذي تسميه نصاً مفتوحاً تتماهى فيه المسافات والمساحات بين الأجناس الأدبية؟
# في البداية كانت القراءات مدرسية عامة، وبعد ذلك تعرفت على المكتبة العامة التي هيأت لي الكتب التي لم أكن قادراً على شرائها. واستغراقي في القراءة المتنوعة صرفني عن أشياء كثيرة في الحياة من بينها الدراسة. وعندما جاء الشاغل السياسي أتاح لي مبرراً موضوعياً للإفلات من قيد الدرس الذي أصبحت أتخلف عنه. وسرعان ما انتقلت إلى العمل (في أول عهدي بالوظيفة) في المكتبة العامة بالذات. وأذكر أنني كنت أقرأ آنذاك بشغف كبير في علم النفس و الفلسفة والتاريخ و خصوصا التاريخ الشخصي لكافة أصناف البشر، هذا بجانب اهتمامي الرئيسي في مجال الأدب والرواية الشعر خصوصاً، وأذكر جيداً الاهتمام المبكر بقراءة النقد الأدبي العربي القديم، والنظريات النقدية القديمة و الحديثة. و أتاح لي هذا الاهتمام المبكر معرفة الكثير من الاتجاهات النقدية في الأدب العالمي، كل ذلك بالطبع من خلال الترجمات التي كانت متوافرة في الستينات. لا أعرف كيف يمكن الربط بين قراءات تلك الفترة وبين ما أدت إليه تجربة الكتابة عندي، وإلى ما تعتني به خصوصاً في هذه التجربة، وهو النص المفتوح ؟ لكنني أعتقد أن العلاقة قد لا تكون مباشرة ومنطقية بالشكل الرياضي، لكنني أستطيع ربطها بهاجس البحث الذي يرتبط بمجمل علاقتي بأشياء الحياة، وعدم الاقتناع و التعصب لشكل تعبيري محدد. وإذا كنت تستحضر جانباً من كتابتي الشعرية منذ الإصدار الأول بشيء من المقاربة ربما تلحظ ذلك الهاجس الذي أشير إليه كما لو أنه طبيعة جوهرية لرؤيتي الفنية، وهي رؤية تتصل بما يحلو لي دوماً أن أردده من باب الدعابة الأدبية : (في الفن القناعة كنز لا ينفع).
س / مكانتك الأدبية ضمن منظومة الشعر البحريني، ورؤيتك للشعر البحريني إجمالاً الآن ؟
# أولاً ليس ثمة شيء يسمى الشعر البحريني. منذ وعي على الحقيقة الأدبية والفنية لم أتعامل مع هذا المصطلح و لا أقبله. إنني أجد كل ما يكتب في خريطة العرب هو شعر عربي بالدرجة الأولى، وأحب أن تجري تجاوز هذه التسميات عند الجميع.
ثانياً، أنا أحد الأصوات الشعرية العربية التي تحاور إبداعيا أصوات كثيرة ممتدة في هذا الأفق.
ثالثاً، الشعر الذي كتبه الشعراء في البحرين لا يختلف في تفاصيل مشهده عن الواقع الشعري العربي بكل ملامحه و قصوراته وتطلعاته. ولا ينبغي التوهم بأن تمايزاً يمكن أن نصادفه هنا أو هناك. في البحرين أصوات كثيرة مختلفة الأمزجة الاهتمامات و القناعات الفنية، التقليد بجانب الحديث بجانب الجديد، وأيضاً سوف تجد من يكتب بالعامية وبالنبط. والثورة الغالبة التي يمكن مصادفتها في مقدمة المشهد هو النزوع الكبير نحو التجديد، ربما لأن هذه هي طبيعة أشياء الحياة.
س / كيف ترصد تطورك الشعري عبر ربع قرن من الشعر و من الزمان ؟
# إذا تجاوزنا مسألة إصدار حكم قيمة من قبل الشاعر إزاء تجربته، يمكنني القول أن لدي شعور حقيقي بأنني بالكاد أبدأ في تلمس حدود الشعر، وهذا الشعور هو الذي يمنحني الثقة الدائمة بأن كل ما كتبته حتى الآن ربما يؤهلني لأن أزعم بموهبة شهد بها البعض، مما يؤكد حاجتي الماسة للتشجيع، كأي مبتدئ يكتشف الكتابة. و ينتابني إحساس جميل بين وقت وآخر بأن ثمة أشياء جميلة يجب أن أكتبها الآن وقبل فوات الأوان، فالوقت الذي انصرم ربما كان كافياً بوصفه استعداداً للكتابة. إنني حقيقة لا أرى نفسي أكثر من هذا.. ولا أقل أيضاً.
س / لسنا للنسيان.. قلت مرة و.. النسيان إلغاء معلن للذاكرة. كيف ينشأ مستقبل عار من الذاكرة. الذاكرة حيث تجربة الروح و الجسد. ما الذي يطفو على سطح ذاكرتك هذه الأيام وهذه الآونة من الزمن العربي ؟
# في السياق التاريخي الذي نتدهور فيه ثمة من يقترح علينا مستقبلاً نقيضاً لكل ما حلمنا به طوال عمرنا. فقد كنا نحلم بالشمس و النهار و الحرية، فإذا بنا نخسر كل ذلك فجأة، كمن يتعرض للغدر من حبيبته، و يقتحمنا من يفرض علينا حاضراً و مستقبلا من الظلام والمصادرات والعسف والوحشية. ومثل هذا المستقبل لا يمكن له أن يتحقق إلا إذا انفصل الإنسان عن تاريخه الشخصي و الجماعي، وهو تاريخ يعذب الروح مادام يستحضر أحلام العمر المنصرم يومياً. ولهذا هناك من يصوغ لنا عملية غسل دماغ جماعي بعناصر من الجهل والتخلف و البدائية تستهدف الإساءة لتاريخنا و نضال أجيالنا و مسخ تلك الأحلام الرائعة التي كتبنا لها أجمل أشعارنا. وإذا قلت إننا (لسنا للنسيان)، إنما كنت أحاول التشبث بأجمل ما يملكه الإنسان وهي الذاكرة، و إذا أردت الحقيقة فإنني ربما سوف اعني لاحقاً (المخيلة)، لأنها قادرة رؤيوياً على استحضار الذاكرة وجعلها رؤية مستقبل أكثر من كونها رؤية ماض.
على سطح ذاكرتي (إذا عنينا بها المخيلة أيضاً) أرى أننا نقاد إلى الهاوية الذهبية، حيث يرى المرء ضوءاً ساطعاً مرة واحدة فيظن أنها الشمس فإذا بها نظرة الموت تخطف الروح وتذهب غير عابئة بشيء.
س / قلت مرة في قصيدتك (شظايا)
(أهيم يا أمي
أحلم أن أكون شاعراً
أمزج العناصر و أزهزه لها
أناقضها و أوالفها
و أبني جسوراً مكتظة
لا لأحد فسحة عليها
يا أمي..
متى أصير شاعراً.. متى)
أعتقد أن هذه الرغبة في كتابة ما أسميته النص المفتوح قديمة لديك طبقاً لما جاء أعلاه هنا. كيف ترى المسافة بين النص المفتوح و مفهوم النص بشكل عام ؟ وماذا عن تجربتك مع النص المفتوح ؟
# مازال نصاً مفتوحاً مثل الأفق. وربما كان علينا أن نتأكد من أن إطلاق المصطلحات الفنية على هذا الشكل أو ذاك من التعبير الأدبي ليس إلا احتيال المبدع على حدود الأشكال التي تقترحها التجارب الإنسانية وهي تحاول البوح عن مكنوناتها. بالنسبة لي لا أرى في مصطلح النص المفتوح حداً واضح الملامح، إنه ضرب من الاقتراح العابر في سياق التعبير الأدبي. لذلك لا أجد نفسي قادراً على التوغل في توضيح أو تفسير ما يحدث لي أثناء الكتابة. لستُ ناقداً لكي أطرح تنظيراً، و إذا حدث وقلت شيئاً في هذا المجال فهو حاشية لزينة الحياة وليست صدوراً عن ثقة في ظاهرة من ظواهر تجربتي أو تجربة سواي. في الفن لا أحد يعرف حقيقة نهائية، وربما لا توجد حقيقة نهائية في هذا الحقل. لذلك أتمنى عليك أن لا تتوقف كثيراً أمام التجربة بوصفها اصطلاحاً ولكن يتوجب سبرها باعتبارها روحاً شاملاً يحاول البوح والاتصال بالآخر، وبهذا ربما تسنى لنا جميعاً ملامسة التجربة الإنسانية التي يصدر منها (ويذهب إليها) الشاعر.
ذاتياً، أجد في المحاولات التعبيرية التي تقترحها تجربتي نوعاً من المتعة الإبداعية القادرة على تحقيق بعض التوازن الداخلي، وربما يتولد الإحساس بأن الحياة مازالت تستحق أن تعاش.
وهذا يكفي بالنسبة لي على الأقل.
س / كنتُ معجباً بقول ريمون كلوزيل عن رامبوا أنه (كريستوفر كولمبوس الأدب).
هل تطمح أن تكون كولومبس القصيدة الحداثية الجديدة ؟
# لا أفكر بهذا الشكل على الإطلاق. إنني أحاول اكتشاف ذاتي إزاء العالم، ثمة مكتشفون يحسنون الجغرافيا أكثر مني. سؤالك ينزع إلى الإطلاق الصحافي ، وبودي أن تتجاوز الصحافة الثقافية مثل هذا الأسلوب الذي ربما لا يتصل بالمعرفة الأدبية وحقيقة العمل الإبداعي. معذرة يا صديق.
س / قلت مرة في إحدى الندوات أن (اللغة طاقة هائلة يتم تقييدها وقتلها باستخدام الوزن والتفعيلة والقوالب الشكلية الخارجية، وهذا الكبت للغة يحرم المبدع من حرية التصرف الفني والإبداعي). من الذي يقيد اللغة ؟ ثم ألا ترى أن ترك الحبل على الغارب لشعراء النثر قد أدى إلى فوضى شعرية تحت مظلة قصيدة النثر، حتى أن الناشرين الآن يحجمون عن نشر الدواوين الشعرية إلا فيما ندر ؟
# ربما قلت مثل هذا في أكثر من مكان وبأكثر من طريقة.
أولاً ينبغي أن تعرف أنني لست ضد شكل تعبيري محدد على الإطلاق، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالوزن و التفعيلة، بل إنني مازلت أجد في التفعيلة (منظوراً إليها كجرس تقليدي) عالماً زاخراً بالمكتشفات إذا توفرت لها موهبة شعرية قادرة على تشغيل المخيلة الإيقاعية. وإذا تسنى لك قراءة كل ما كتبت حتى آخر إصداراتي ستلاحظ أن الإيقاع يشكل هاجساً جوهرياً في كتابتي.
ثانياً عندما أقول اللغة، أعني اللغة العربية خصوصاً حيث مفهومنا للإيقاع الشعري لا يجوز أن يتحدد في الأوزان والبحور الخليلية و حريات التفعيلة التي أعدتها لنا حركة التحديث الشعري العربي، اللغة العربية هي المصدر الذي لا ينضب للإيقاع و الموسيقى الشعرية اللانهائية و الباهرة. وهذه اللغة لا يقيدها شكل التعبير و لكن يقيدها قصور مخيلة الشاعر. لأن الشاعر هو الذي يبتكر أشكال التعبير بواسطة اللغة ذاتها، فاللغة كائن حي دائماً على يد الشاعر. و أنت تستطيع أن تكتشف حيوية اللغة على يد السياب وأدونيس وغيرهما. و إذا تحول الشكل إلى حدود خارجية سوف يكف النص عن شعريته. وأبسط مثال على ذلك الكلام السائد (عندما يتصل الأمر بالموسيقى الشعرية) الذي يكرر المطالبة بضرورة الإيقاع باعتباره موسيقى (خارجية). إن تعبير خارجية يعتبر نفي كلي لماهية الشعر وجوهريته الروحية. من يطالب بالإيقاع الخارجي ويؤكد عليه سوف يقع في مأزق الخلط بين النص الذي يتمسك بالإيقاع الخارجي (خضوعاً للشرط) وبين النص الشعري الذي يستدعي شروطاً غاية في الأهمية و التعقيد الذي يتطلب موهبة شعرية تتجاوز الحد الخارجي للتعبير.
ثالثاً، أنت تقول عن ترك الحبل على الغارب (لشعراء) النثر.
إذا كان ثمة شاعر، فيتوجب علينا أن نترك له الحبال كلها على الغارب، دون الشعور بالقلق. فمادام شاعراً فهو كفيل بأن يحقق ذاته ونصه بالشكل الجميل و الجديد معاً. وإذا بدا الأمر أحياناً في صورة فوضى - كما يجري الكلام هذه الأيام - فإن هذه الفوضى واحدة من مظاهر العمل الإبداعي. وهي فوضى جميلة إذا كان من يمارسها شاعراً حقاً. أما إذا كنت تعني الكتابات التي تزخر بها الصحافة و المطبوعات التي تصادفنا كل يوم، فإنها محاولات للحاق بالشعر، وهذا لا ينبغي أن يخيفنا، فينبغي أن تكون حياتنا فسحة كبيرة لكل من تسول له نفسه لأن يحاول التعبير بحرية. فحياتنا العربية التي يفتحها النظام العربي على كافة (الأسواق) لا ينبغي أن نتيح لأنفسنا إغلاقها على الإنسان لكي يرتجل ما يريد. إنني أرى إلى الأمر بوصفه نوعاً من محاولات تنفيس الإنسان العربي عن شتى أنواع الكبت التي يعانيها، ففي مجتمع تصادر فيه كل أشكال التعبير الاجتماعي و السياسي و الثقافي، وتغيب فيه الحرية والديمقراطية سوف يلجأ المرء لتوهم الأساليب لكي يخفف عن الضغط الذي يرزح تحت وطأته. إن ما تراه من الأعداد الهائلة من الأسماء التي تنشر محاولاتها ليست ظاهرات فنية أو شعرية إنها ظاهرات اجتماعية في معظمها. و هذا أمر لا يكون الشعر مسؤولا عنه، لكنه النظام العربي و مؤسساته وأجهزته.إذا رأينا إلى ذلك من هذه الوجهة سنكون أكثر هدوءاً واستقراراً وثقة أمام ما يحدث، فلو كانت في المجتمع أشكال متعددة للتعبير لما لجأنا لتوهم الأجنحة للسلاحف.
س / ما هي دلالة أن يتحول معظم الشعراء الحداثيين المنظرين ونقاداً، هل من قلة النقاد، أم للعب دور أكبر و أخذ مساحة أكبر من الضوء أم لأن طبيعة القصيدة الحداثية تحتاج لأن يكون منظرها شاعرها في نفس الآن، أو صاحب رؤية موازية كناقد على الأقل؟
# أولا، لا أجد هذا مقصوراً على الشعراء الحداثيين. كثير من الشعراء العرب والأوربيين في عصور مختلفة كانوا يكتبون نقداً بهذه الدرجة أو تلك.
ثانياً ربما بسبب رغبة في تحقيق اتصال أكثر بالتجربة الأدبية وتجاوز سوء التفاهم الذي كرسته ارتباكات الانتقال من مفاهيم مستقرة إلى مرحلة المفاهيم المستجدة، دفع بعض الشعراء لأن يمارسوا نوعاً من الحوار مع تجاربهم من جهة و مع الأفق النقدي الذي يذهب إليه الشاعر من جهة أخرى. إضافة إلى أن وتيرة التجديد الشعري في المشهد العربي جعل العديد من التجارب الشعرية عرضة لفقد نقادها، بعكس بدايات حركة التحديث التي نهضت منذ النصف الأول من هذا القرن. و ربما لأن تداخل المعنى الفني للفعل الإبداعي هيأ لمن يريد أن يبرر خروجياته الشعرية لكي يطرح علينا منظوره النقدي. وهذا لا ينبغي أن يعتبر نقيصة في المشهد الأدبي، على العكس، فإذا افترضنا أنه أحد أنواع الحوار الفني والمعرفي، لابد لنا أن نرى فيه إغناء للتجربة.
س / كثيرون من شعراء القصيدة الحداثية هم شعراء رومانسيون بشكل أو بآخر في الأساس، كيف تنظر للقصيدة الحداثية وشعرائها بشكل عام على المستوى البحريني و الخليجي و العربي؟
# إذا وضعنا في اعتبارنا المفهوم الثوري للرومانسية سوف نرى أن شعراء القصيدة الجديدة في حدود المفهوم نفسه على مستوى الهم الاجتماعي و الهاجس الفني. وهي ثورية على مستوى الفكر والفن و الحب و الحياة. بهذا الشكل يمكنني أن أرى بعداً رومانسياً في الشعر العربي الراهن.
س / قلت مرة : الشعر لا يبدو جميلاً إذا لم يكن غامضاً، بل أكاد أقول أنه لا يبدو شعراً على الإطلاق، أما الغموض المفتعل و الذي يسهل اكتشافه فإنه لا يعنينا، ولا نستطيع أن نعتبره فناً من فنون التعبير. أوافقك، إذن أي الغموض تعني.. أي غموض تطمح لأن يحويه شعرك؟
# في الحقيقة لا أعني شيئاً غير الشعر. فالشاعر لا يكتب غموضاً لكنه يكتب شعراً. وإذا حدث أن جمالاً في الشعر لم يتكشف للقارئ للوهلة الأولى واستدعاه لأن يعيد قراءة النص مرة ثانية ففي هذا جاذبية غير قابلة للتفسير يمكن أن يتميز بها الشعر خصوصاً. فأنت لا تحتاج لقراءة أي نص إذا لم يثر شيئاً من دواخلك، ويجعلك تشك في شيء كنت مطمئناً ومستقراً علي مفهومك إزاءه. فأنت مثلاً يمكن أن تعبر على شاعر يخاطب حبيبته قائلاً (ليلى.. إلى آخره)، تعبر دون أن يستوقفك شيئاً خاصاً عنده. لكن إذا قال (ليلاي....) فأن ثمة شيء خاص لا يشترك معه آخرون في هذه (الليلى). هذه الخصوصية هي الغموض الذي يقترحه علينا الشعر بغير قصد. لكن، من يستطيع حقاً أن يفسر الغموض ؟ إنني شخصياً أقصر عن ذلك، و إلا ما كتبت شعراً قط. *** |