لقاءات

ربما كانت الأزمة في مكان آخر

جريدة أخبار الأدب - القاهرة
جمال الغيطاني

س / هل يمر الشعر العربي بأزمة؟

ج - بوصفه إبداعاً ليس دقيقاً القول بأزمة في النص الشعري. ربما يجوز لنا الكلام عن أزمة في المفاهيم السائدة، وأعني المفاهيم الثقافية العربية عموماً. وهذا الأمر لا يقتصر على مفاهيمنا للشعرية المعاصرة، لكنه يتصل بالبناء المعرفي الشامل الذي ما أن تعرض للانهيارات حتى بدا كل شيء في أزمة. فنحن مثلاً لا نستطيع الزعم بأن ثمة مفهوم عربي متبلور لمعنى القومية والوحدة والديمقراطية والحب والأخلاق والحق والحرية. كل هذه المفاهيم تتعرض للانهيارات الجذرية يوماً بعد يوم في تجربتنا العربية. و عندما انهارت البنى الأيديولوجية التي اطمأن لها العقل العربي طوال الوقت، استدار الجميع (عجزاً عن توصيف ما يحدث ومعالجته وتجاوزه) ليرى إلى أبسط الفعاليات الإنسانية (والأدب في المقدمة) باعتبارها الأزمة التي يمكن طرح الفتاوى فيها دون ضوابط و دوم أدنى إحساس بأن الفن والإبداع ليس مجالاً لممارسة الاسقاطات الأيديولوجية بعد فشل تلك الممارسات في مجالها. لا أميل إلى الاطلاقات التي تضع النص الشعري في حقل معطيات الأزمة، فالمشكل لا يكمن في هذا النص، لكنه يكمن في أمكنة أخرى ربما لا يجد المواطن العربي الحرية الكاملة لأن يقول فيها ما يعتمل في النفس. وأزمة المفاهيم هذه صادرة من التراث (القديم والحديث) الذي ظل يرى في الشعر وظيفة لابد لها أن تكون واضحة المعالم باعتبارها أداة. والأداة هذه غير مسموح لها بحرية الفوضى التي يستدعيها فعل المخيلة. وهنا سوف يلتقي التراثيون مع الدغمائيين المعاصرين لكي نحصل على قدر كبير من التشوش والتشويش الذي يتعرض له الجيل الراهن ممن يتصلون بالكتابة الشعرية. فقد تسنى لمثل هذا التشويش أن يبتعد و يغيّب المعنى الأول و البسيط للشعر. ليس في الأمر ما يدعو للقلق فيما يتصل بالشعر بوصفه إبداعاً. لكن القلق ينتج من هذا الغياب الواضح للقيم النقدية لمعنى الشعرية التي ينبغي أن تكون بسيطة للقارئ. والفعل الشعري إذا توفرت له الموهبة والمعرفة الشعريتين لا يكون لدينا ما يقال له أزمة.

س / هل الحداثة مسؤولة عن الأزمة التي نشهدها الآن؟

ج / هذا السؤال معطوفاً على سابقه، يفترض جدلاً أن ثمة أزمة نختلف فقط في توصيفها. أنا لا أرى الأمر بهذا الشكل، كما قلت. لكن القول بأن الحداثة هي سبب الأزمة، فهذا يشبه القول بأن أزمة المرور في مدينة تاريخية جميلة مثل القاهرة سببه ارتفاع عدد السيارات والتنوع الهائل في موديلاتها، وبعد قليل سوف نلغي اللوم على المترو (وهو اختراع صار تقليدياً في العالم) لأنه حتى الآن لم يقض على أزمة الازدحام في القاهرة. لا أدرك بالضبط معنى القول بأن الجديد يمكن أن يكون سبباً في مشاكلنا، في حين أن الجديد في الحياة (على كافة الأصعدة) يأتي لكي يجعل حياتنا أكثر يسراً وجمالاً و متعة. لكن ماذا نفعل إذا راح بعضنا يستخدم السيارة لكي يضاعف عدد نزلاء القصر العيني، أو يستعمله لاكتشاف كائنات قاع نهر النيل. أعني أن الأمر يعود إلى خلل المفاهيم التي نتداولها في حياتنا. ففي الشعر، كما في الحياة، ليس على الإنسان إلا أن يعيشها، وبعد ذلك يكتشف قدرته على الاستمتاع بها. ترى هل نستطيع الزعم أننا محدثين بالصورة التي نعلن عنها ؟ فنحن مثلاً على يقين بأننا مسلمين، فإن تاريخاً شاسعاً كالذي عشناه يبدو كافياً لأن نتأكد من هذه الحقيقة. لكن من يزعم أننا ديمقراطيين و متحررين كما ينبغي لأي إنسان في العالم؟

ترى هل الحق على الحرية؟ أم أن ثمة حقائق نعاني منها هي التي يتوجب مسائلتها مباشرة؟

س / كيف يمكن الخروج من الفوضى الشعرية؟

ج / هذا السديم الذي تسمونه فوضى ربما كان قرين السديم نفسه الذي بدأ منه الخلق الأول. في الشعر ليس ثمة نظام، و الذين يرون في الفوضى الراهنة مدعاة للقلق، لا أعرف بالضبط على أي شيء يقلقون، و ما إذا كان يهدد ملكية شخصية لأي جهة أو مؤسسة أو شخص؟. ربما كانت هذه الفوضى هي أحد أجمل المظاهر الفوضوية في حياتنا العربية. لا داعي للمبالغة في الشاغل العام على حساب العمل الشعري. فالشعر الجميل ستكون فوضاه جميلة أيضاً. وغير ذلك ليس بشعر ولا يشعرون. وأتمنى على الجميع أن يبحثوا عن أسباب الفوضى في مكان آخر غير الشعر والكتابة.



السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى