ترغيب المثقفين و ترهيبهم في منطقة الخليج
جريدة الإتحاد - أبوظبي
س / باعتقادكم ما هو الدور الذي قام به المثقفون الخليجيون لإعطاء فكرة "مجلس التعاون" طابعا وبعدا ثقافيا؟
ج - اسمحي لي أولا أن أتحفظ على تعبير (مثقفون خليجيون) فأنني لا افهم لهذا التعبير دلالة علمية وموضوعية تفيد الحديث. أشعر دائما بأن في صفة (الخليجي) نزوع معطوب نحو تمييز ما لا يقبل التمييز . بل أنه خضوع لمشاريع سياسية لا ينبغي للمثقف خصوصا الغفلة عنها. أنا ضد محاولة (خلجنة) حياتنا في مظهر قبيح لعنصرية مبتكرة لم يعد السكوت عليها مقبولا من قبل الكثيرين في أصعدة مختلفة في مقدمتها أصحاب الثقافة و الفكر والأدب.
أما عن الدور الذي قام به المثقفون في هذه المنطقة فهو دور مفقود بالمعنى الحضاري لجوهر دور المثقف في الحياة و العالم، أخشى أنه دور مصادر أو مكبوح في أحسن الأحوال. والكلام عن دور حقيقي للمثقفين قد يكون ضربا من إظهار الأمر على غير حقيقته. لأن معنى المثقف متصل بطبيعة دوره النقدي الفعال ، هذا النقد الذي لا يطيقه ولا يقبله النظام السياسي ومؤسساته.
و(مجلس التعاون)، كمؤسسة تابعة، يعبر عن منظومة سياسية لا تزال تصدر عن مفاهيم بعيدة عن القرن العشرين. هذا القرن أنجز حق الاعتراف بالرأي النقدي الذي يمثله المثقفون، وفي أعراف هذه المنظومة مبدأ الاعتراض أو الاختلاف مرفوض. والنقد عندهم هو ما يكرس الأمر الواقع ويروج لعدم المس بكل ما يتصل ببنية المنظومة الفكرية والسياسة للنظام. وفي هذا نقض جوهري للدور النقدي للمثقف. فالمثقف هو الفعل الحر للتعبير عن الاختلاف في مواجهة الواقع و تجلياته. ومتى غاب هذا الشرط لا يعود للمثقف معنى في الحياة، إلا إذا قبلنا تصور السلطات للمثقف بوصفه مداح وماسح جوخ ومعجب غاية الإعجاب بالأمر الواقع، ولا بأس من بعض التحفظات السطحية التي تزين مظهر الواقع ليبدو في قشرة من الحضارة (والروح جاهلية) كما قال الشاعر نزار قباني ذات قصيدة.
فأصحاب الحل والربط في مؤسسة مجلس التعاون وما تمثله يريدون من المثقف أن يروج للفكرة والمشاريع المطروحة بكونها حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وما عليه ألا أن يصقل صورة الواقع بأدواته الثقافية، وهو بالضبط المعنى الذي ينطوي عليه سؤالك عن (إعطاء فكرة "مجلس التعاون" طابعا وبعدا ثقافيا). في حين أعتقد أن هذا ليس من مهمات المثقفين، على العكس على المثقف أن يقف أمام ما يحدث في المشهد موقف الرصد النقدي الذي يصون حقوق المجتمع ويحمي مستقبل أجياله، خصوصا في واقع يفتقد فيه المجتمع الأشكال الحديثة و الضرورية لوسائل التعبير عن الرأي والمشاركة الجماعية في صياغة السياسات ومراقبة تنفيذها. ولابد للجميع أن يعترف آخر الأمر بأن الديمقراطية هي المستقبل الذي لا يمكن تفاديه.
س / كيف تنظرون إلى أداء المجلس في المجال الثقافي؟
ج - عطفا على كلامي عن تخلف المفاهيم السائدة في المؤسسات الرسمية للثقافة وطبيعة دورها في المجتمع وموقفها من أساليب صياغة المشاريع وتنفيذها، أقول أن ثمة خلل يشوب تعاطي مؤسسة مجلس التعاون مع الآفاق التي يتوجب أن يذهب إليها المثقفون بحريات واضحة تتصل بالحق الكامل في نقد المنظورات وسبل تطبيقها في حياتنا بعيدا عن الترغيب والترهيب التي يتعرض لها المثقفون بأشكال مختلفة ولا تليق بكرامة الإنسان.
وهناك عدد كبير من التجارب التي حاول فيها المثقفون المساهمة في مناقشة وتوضيح صورة الواقع الثقافي ومتطلبات اللحظة الراهنة والمستقبل، تلك التجارب التي قوبلت بموقف غاية في السلبية والتجاهل وعدم الاكتراث من قبل مؤسسات مجلس التعاون أو ما يمثله من أنظمة وسلطات، خصوصا عندما تتصف هذه المحاولات الفردية والجماعية بدرجة واضحة من العلمية والموقف النقدي الصادر عن وعي الخطورة التي يتعرض لها المجتمع بسبب الخلل الذي يشوب المشاريع الثقافية الرسمية لعدم مجاراتها لمتطلبات الواقع الاجتماعي ومستقبله.
من هنا أعتقد بأن مؤسسة مجلس التعاون، بسبب من طبيعة بنيتها وتبعيتها لما تمثله من سلطات، خاضعة للأوهام التي يتصورها كل نظام على حدة أكثر من تحسسها و إخلاصها للوعي المتقدم الذي يتصف به قطاع كبير من مثقفي هذه المنطقة ، وأكثر أيضا من إصغائها لما يعتمل في نفوس الجموع العظيمة من شعوب هذا القسم من العالم. وبهذا فأنني أشعر بالقلق إزاء مشاريع وآلية عمل مؤسسات مجلس التعاون خصوصا فيما يتصل بالعمل الثقافي.
ومن مفارقات ما يحدث وما يؤكد قلقي حول هذه المؤسسات، فكرة هيئة المستشارين التي خرجت بها علينا إحدى قمم مجلس التعاون، بزعم أن الهيئة ستكون عاملا مساعدا للقيادات من جهة تمثيلها (الاستشاري) لشعوب المنطقة، ففي هذا المشروع إشارة قوية تقر بالخلل دون أن تعترف به، ذلك الخلل الذي تعاني منه بنية مجلس التعاون ونظام عمله الفوقي، القائم على الفجوة العظيمة بين ما يحدث (هناك) وما يتحرك (هنا). فمع احترامنا الشخصي لأعضاء هذه الهيئة، وغيرها من الهيئات و اللجان و المؤسسات، إلا أن محاولة الترميم التي يجري اللجوء إليها بين وقت وآخر، لا تنفي الحاجة الجوهرية للأسلوب الحديث في تحصننا بالرأي النقدي والاختلاف المعلن والشرعي في المجتمع، ومن الأجدى الاعتراف بهذه الحقيقة باكرا لئلا ننال من الخسائر أكثر مما تعرضنا له حتى الآن.
س / ما هي الإستراتيجية المطلوبة لبلورة موقف أو خاصية ثقافية في ظل التحديات والإشكاليات المعاصرة؟
ج - لا افهم في حقل الاستراتيجيات الشعارية التي يتحدث فيها الكثيرون في السنوات الأخيرة. ما أعرفه جيدا وشاركت في بعضه، برامج العمل والحوارات الثقافية المتصلة بواقع ومستقبليات العمل الثقافي التي سبق أن طرحت على مؤسسات مجلس التعاون أو على مؤسسات بلدان المنطقة (وأحيانا بمبادرات منها أيضا)، وتم تحقيقها بمساهمة أفراد ومجموعات عمل ثقافية مختلفة، ولم تزل هذه المشاريع موجودة في أدراج المسؤولين.
الآن، ولم يعد يعنيني ما إذا كان لدي المسؤولين نية صادقة في الاستدراك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو أن الأمر لا يزال مجرد دعاية إعلامية مثلما الحال في كل مناسبة.كل ما أتمناه هو أن لا نبالغ في الأمل منظومات وأساليب عمل ومنظورات لم تكن صالحة للقرن العشرين، وهي بالتالي لم تعد الآن صالحة على الإطلاق للقرن الجديد الوشيك. ففي مثل حالتنا ليست المشكلة في الاستراتيجيات إنما المشكلة تكمن في العقليات القائمة على وهم خضوع المثقفين لمنظورات المشروع السياسي و تجلياته في السلطة والمجتمع.
س / هل تعتقدون أن المجلس ساهم في إرساء ملامح خاصة بالثقافة الخليجية ، وكيف؟
ج - المجلس طوال تاريخه لم يؤسس لبنية تحتية أساسية للثقافة الحديثة في المنطقة، وكل ما ساهم فيه هو مشاريع ثقافية تخدم المفهوم الإعلامي والاستهلاكي للثقافة، وفي بعض الحالات النادرة التي حدثت في هذه العاصمة أو تلك من تحقيق قاعدة مادية للثقافة، نجد أن هذه المنجزات لم تتصل بالفكر الحديث على صعيد العمل. وفي معظم الحالات عمد العديد من المؤسسات الرسمية إلى تهميش المواهب الإبداعية والمثقفين النقديين وحرمانها من حق المشاركة بشروطها النقدية، في محاولة ساذجة لتوظيف المفاهيم و القيم القديمة في سياق العمل الثقافي والفني الذي تروج له مؤسسات مجلس التعاون أو المؤسسات الرسمية في هذا البلد أو ذاك. كل ذلك لأن القائمين على العمل الثقافي يعتقدون أن ثمة (ملامح خاصة) بالثقافة (الخليجية) على المثقفين والمبدعين أن يعلنوا عن الأيمان بها ومن ثم الترويج لها بوصفها قيما وملامح تميز (الخليجي) عن سواه. وللآسف فان معظم هذه الملامح من التخلف بحيث تظهرنا في صورة كائنات خرافية متعصبة لا نختلف كثيرا عن المتمسكين بعنصرية الدم واللون والسلالة. وفي ظني أن ما جناه هذا الضرب من التفكير في مجال العمل الثقافي (موظفا توظيفا رديئا في أجهزة الأعلام) هو زرع أوهام التعصب وكبت المبادرات الفردية والجماعية وزيادة الاحتقانات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والطائفية والقبلية التي وقعنا جميعا ضحية لها.
والتوهم الفادح بالملامح الخاصة هو ما يشي به سؤالك الذي يؤكد ما أعنيه بخضوع التفكير السائد في وسائل الأعلام من ترويج التميز والاختلاف لكائنات هذه المنطقة من العالم. ولم يبق إلا أن نتوقع في المرة القادمة أن يتوجه لنا الصحفيون بالسؤال التالي : (ما رأيكم في هذا الفردوس الذي تعيشون فيه؟)
|