مالم ينشر في كتاب

نص على نص

سماء عيسى

(جاءت أقدام تهرول بعيداً، داست علينا و نحن نيام، أقدام تهرول حاملة رماحاً مسمومة إلى الداخل، كلما اتجهت إلى داخل الوطن اتجهت السموم إلى أعماقنا. لكن أعماقنا خاوية إلا من البرسيم، فمن إذن يحمل إليك المشعل، أيها النهر الدموي، أيتها الجثة، أيتها الحياة)

( 1 )

من هناك يأتي سماء عيسى منذراً بفجيعة ما.
معه نمشي في خراب طاغٍ يسود الكون و العناصر. إنه قادم من حروب خاسرة ذاهب إلى منفى الأعماق و الدواخل. و كان سماء عيسى قد جاء قبل كل هذه الفجيعة التي نتمرغ فيها الآن. يكتب الشعر منذ سنوات دون أن يعبأ بما لا يحدث أو بمن لا يكترث بما يحدث. يكتب حيناً و يكبت أكثر الأحيان. في عُـمان، ظل في الجزء الخفي الهادئ من المشهد، عادة العمانيين الذين يمارسون جديتهم في الضوء الرزين. سماء عيسى ظل في الظل الذي تكون درجة الحرارة فيه أكبر من الشمس. لم تسعفهم الظروف مبكراً أن يحضروا في هيلمان الإعلام الأدبي المعاصر،. و كان هذا حسناً بالنسبة لقسم مهم من الكتابة الشعرية الجديدة. و لم يزل قسم كبير من الصوت الأدبي الجديد، هناك يتحرك بتردد النار الهادئة. و لعله القسم الذي سيغني الكتابة في مستقبل الأيام . و الذي يجري التعرف عليه تدريجياً.

ذات صيف، عندما كان العام 1987 يغري الكثيرين بوهدةٍ ما، أصدر سماء عيسى كتاباً شعرياً انتخب له عنواناً ينقض وهم الوهدة : [نذير بفجيعة ما ]. و ربما لم ير الشاعر في العام سوى الدواخل التي لا تخطئ كثيراً. جاء الكتاب في نسخ محدودة طبعت في أبعد منطقة عن الأرض العربية يمكن أن يتخيلها المرء، في نيويورك. للوهلة الأولى، لن تجد مبرراً (موضوعياً) يجعل شاعراً يعيش في عمان يطبع شعراً في أمريكا، سوى رغبة الاختراق المكبوتة (أعني شهوة العزلة الضارية) في طبيعة الشاعر. فهو ليس شاعراً مغترباً، وليس في كتابته ما ينم عن ذلك (جغرافياً)، و إن كانت لا تخلو من مشاعر الوحشة. فهذه طبيعة الانسان في هذا الكوكب.

( 2 )

سماء عيسى، قادم من الفجيعة بامتياز، و مبشرٌ بها في آن واحد. ومن يعرف الشاعر، و جيله، و تجربته، يدرك أن الأمر لا ينطوي على مبالغة ما. ففي العمق، تجسد كتابة الشباب العماني الجديدة الخلاصة الصافية لقطاع كبير من تجربة شباب هذه المنطقة، متميزة بطاقة الرؤية الفجائعية. و لعل طبيعة الهدوء الظاهري في تأمل أشياء العالم، ستجعل الصورة الشعرية أكثر نفاذاً لمعطيات هذه التجربة.

(الخراب يسكن العمق البشري الآفل)
(الريح عندما تهب من الشرق حاملة غبار أسود
كمعاطف النهار كانت تحمل أيضاً رائحة الموت)
(لم يكن في البهجة إلا نذير ما، كان ينذر بفاجعة دماء تتراكم متفجرة كشلال)

ليس في الصور إلا الواقع. فالشاعر لا يفتعل. الخراب الروحي الذي يتعرض له هذا الجيل ليس إلا تركة شاملة عليه أن يتجرعها ببسالة القتلى.
الجملة الشعرية عند سماء عيسى تصدر عن حس مأساوي تكفلت به التجربة المعيوشة (جسدياً ونفسياً)، والتي كما يبدو لن تنته بقرار، مثلما لم تبدأ بقرار. المرء لا يحدد درجة اتصاله بالعذاب و الخلق ، إلا بناء على درجة حضوره في الوجود أو العدم. الجملة في نص سماء عيسى تتبادل الهجوم تلو الهجوم مع احتمال واقع سوف يقع مثل يقين الرزنامة. لا تعلن حرباً إلا بكونها رؤية اختراق لماضي التجربة الذي لا يكف عن الحضور :

(كنت مستغرقاً في وجدٍ قلّـما يأتي
في ضـوءٍ قلْما ينير عتمات الروح)

ورؤية مفعمة باليأس من مستقبل ٍ، ما دام :

(يصنع لنهاره نهاية ً.. )
الجملة الصغيرة، المكتنزة، المترفة بصريخ الروح، تعتمد صناعة المشهد، إنها صور تنهض من بلاغة المشهد الشعري، فالشاعر لا يعبأ بالتفاصيل إلا نادراً. لغته ليست جزئية، إنها في كلية المشهد ، من (اربط دموعك بنار بعيدة ) حتى نهاية المقطع : (مراث ٍ كأجراس خبت في دمار الغروب) إلى خاتمة التدفق، حيث :

قناديل لعصافير الموت)

يتسنى لك أن ترى (أعني أن تعرف ) مشهداً مكتملاً ، أو أنه يكتمل باكتشافك - كقارئ - حتى (النار) البعيدة التي يذهب إليها في بداية المشهد. متصلة " بقناديل " لعصافير الموت في نهاية المشهد، و فيما بين هذين الضوئين يتكشف لنا جانب من تجربة تتعرى في الأم المغتسلة بالكآبة و جمجمة العشيق الميت. و المراثي، و وصايا الجد، و رسائل العناصر، و الأفول و الذهاب النهاري إلى الحتف، حتى العودة الخائبة، و ولع الخروج لمنح الماء زرقته. كل ذلك يقدر سماء عيسى على اجتراحه من عصب الواقع و تحويله إلى سياق أسطوري، فيما هو نسغ الواقع و لحمته.

( 3 )

ستصاب بالخيبة - أيها القارئ النبيل - إذا حاولت أن تبحث عن شعار الأمل لتصد به هجوم الفجيعة الماثلة. لا يعبأ الشاعر بذلك . ربما لم يكن هذا من شأن الشاعر. فالأمل ليس في أن تهبنا إياه القصيدة، الأمل في درجة اليأس الذي تدفعنا إليه.
كأن كل شيء ينذر بفجيعة ما. خراب الواقع، إندثار الوقت، خيانة الأحبة، أم تفترس الإسفلت. اندثار الروح، لم يعد ثمة ندامى، النار انطفأت،كآبة طفل بقر بطن أمه، عربة تجر قافلة من القتلى، شجر يسلم ما لديه للنار، ورقة تحمل صورة صديق مات و أخرى لصديق يموت بعدي، انحلال الجسد.
إنه اختزال خارق لتجربة لم تزل ماثلة للحواس كلها. ماثلة في أشلاء لا خلاص لها من شهوة الذاكرة. كل صورة عند الشاعر مكتنزة برائحة التاريخ و مراوغة الفيزياء، وضراوة الفعل السياسي. و لكل من يرغب في المزيد من انفجارات الرؤية مع هذا النص أن يتميز بموهبة اجتياز تخوم الذات و الموضوع في كتابة سماء عيسى. فبغير هذه الطريقة لا يتسنى لنا أن نقرأ النص مطلقاً في هواء اللغة، أو نتعامل معه كفعل فـنٍ عارٍ من الحياة. و الشاعر هنا لا ينذر بما سيحدث ، لكنه ينذر بما حدث، لأن ما حدث هو الذي يمنح الواقع و المستقبل طبيعتهما.
ها هو يطلق الأسئلة :

(إلى أين أوصلتك الدروب دونما مأوى، دونما عشاق)
(تحمل الريح من وطن إلى وطن
من زمن إلى زمن )

و يجوز له أن يتبادل مع رفقته الشعرية في عُمان (و بلاد أخرى) احتمالات الفاجعة :

(علّ وطناً يستيقظ من أنقاض تراكمنا)
ليست صدفة أن نلمس عند سماء عيسى كل هذا الخراب، ليس في هذا النص فقط، بل في مجمل كتابته (ما سبقت و ما لحقت). تلك التي تصدر عن هذا البعد المكنون.، عند معظم الأصوات الأدبية من جيله، في عُمان خاصة، يصدرون عن الفجيعة ذاتها، ليحققوا فعل الصدفة الموضوعية التي تليق بجيل عربي لا بد له أن يتصل بكتابة جديدة يمارسها الشباب في عُمان. فالفجيعة عند هؤلاء ليست مزحة، و لا هي فعل مبالغة شعرية. جديد كتابتهم متصل بجوهر تجربة قلما عرفتها التجارب الشعرية العربية المعاصرة. و ما علينا إلا أن نصغي لهذا الصوت، نصغي إليه قادماً من " نار انطفأت " و من (رماد يخبئ أسرار الخليفة في أرحام الأمهات).

( 4 )

بعد ذلك بحوالي خمس سنوات سوف يصدر لسماء عيسى كتاب جديد بعنوان (مناحة على أرواح عابدات الفرفارة) ، ليقول فيه أن :
(الرماد يغسل الخطيئة في صمت بعد أن تنطفئ النار)
و يلـذّ لنا أن نلتفت إلى تلك النار التي تنطفئ دوماً عند سماء عيسى. يلذّ لنا أن نثير أجوبة لا تقنع الأسئلة.

( 5 )

قبل ذلك بسنوات، كان سماء عيسى قد أصدر كتيبه الأول بعنوان ( ماء لجسد الخرافة ). افتتحه باستهلالة صغيرة من سان جون بيرس، يقول فيها :

(أنذركم بأزمنة حرارة كبيرة
و بالأرامل الصارخات
على تشتت الموتى )

و لذلك فان انحيازنا لتتبع شهوة الاختراق التي تتلبس سماء عيسى لا تتصل بالشكل الفني الذي يستحوذ على غيره فحسب، و لكن ذلك الاختراق المتصل بخراب مهيمن على الروح و الجسد معاً. فمنذ لحظته الأولى رأينا كيف يتأثث مشهد سماء عيسى الشعري بخرائب تبدأ و لا تنتهي . فهو لا يصدر عن تجربة الروح و الجسد إلا بالقدر نفسه الذي يصدر فيها من تجربة الواقع الضارب في لحمنا حتى العظم . ففي كتيبه الأول نصادف نصاً بعنوان (خرائب) ، يبدأ :

( وهدة كدثار الفجيعة
تضرم في شفتي جحافل)

وعندما يتوقف المتأمل في نص سماء عيسى عليه أن يلتفت ملياً إلى هذه المسافة الزمنية التي تفصل بين كتابه الأول (ماء لجسد الرغبة) وبين كتابه الأخير (نذير بفجيعة ما)، لكي لا يتوهم في لحظة أن حس الفجيعة والخراب عند سماء عيسى محض نزوة شعرية طارئة. و ربما بهذا الملمح نستطيع أن نقترح تميزاً يسم تجربة هذا الشاعر. هذا الشاعر الذي طاب له أن يتقنع بالسماء، كمن يريد أن يقول لنا أنه يرى إلينا.. إلى واقعنا من هناك.. من الأعالي، دون أن يزعم ذلك أو يدعيه.
يا الهي، لماذا نذرت الشعراء برسالة طيور الغابة المحترقة.؟ *

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى