مالم ينشر في كتاب

نص على نص

يا (طويل البقا)
ستموت سريع
سليمان الفليح

هذا هو الولد البدوي سليمان الفليح يمزج جمال عذابه، بأجمل عذابات اللغة وهي تنتقل على يديه بين العربية الفصحى والعربية الأخرى، حيث (يستنبط) الصورة الجميلة ببسالة الشعر.
بدوي يحسن العصف بالقبيلة ويمجد الخروج.
في قصيدة (أغنية الولد البدوي) التي نشرها أخيراً في مجلة (اليمامة) السعودية، يطرح الفليح تجربة طريفة تنطوي على مزج خاص، بين الفصحى والنبط، وربما مثل هذا اختراقاً تعبيرياً يحمل مبرراته الذاتية في تجربة الشاعر نفسه. فالشاعر لم يغادر خروجياته وصعلكته منذ أن طلع علينا بقصائده الأولى، يريد أن يثبت لنا يوماً بعد يوم أن للشعر طاقة يمكن أن تشكل فعل رؤية، لواقع يأخذ من الحضارة خبرة الاستلاب الإنساني ليضيفها إلى خبرة السلب، التي عدها البعض أحد بسالات العرب المؤيدين ببدوية تتعرض للمسخ بلا هوادة.
وطاقة الشعر تلك التي لا يتوقف سليمان الفليح عن التشبث بها، هي التي ظلت تحصنه ضد مواهب الاستهلاك ومغريات الفقد الرائجة، متذرعاً بعفويته الأولى.
وسوف يخترق الشاعر هنا أداة الشعر النبطية لينكل بالذين ينحازون بها نحو الانحطاط، مضيئاً جوانب الجمال في هذا الفعل :
(إئتنا بالربابة
وغَنِّ لنا "يا طويل البقا" ما ينحّي الكآبة)
وعندما يضع (طويل البقا) بين قوسين، سيتيح لنا احتمالات السخرية المريرة في مستويين، أما شكا في طول البقاء هذا، الذي يراود الصعاليك في كل مكان وزمان، أو استهلالاً لديباجة تقليدية، مألوفة، وليست مشروطة هذه المرة بمعطى يشاكلها، ثم يصعقنا ببيتين من النبط مكنوزين بجمال شعري ورؤية إنسانية، ستظل تحدياً له طوال النص بعد ذلك، ولعله كان يعي ما يفعله، كما لو أن هذا التحدي قد تهندس جيداً :

(راكب فوق حر يذعره ظله
مثل طيرٍ كفخ عن كف قضّابه
ماحلى فزّته والخرج زاهٍ له
والمبارك على متنه تثنى به)

وليس لنا أن نعرف حدوداً واضحة بين الولد البدوي الشاعر وبين صاحب الربابة الذي يطلق علينا هذه الكلمات الجميلة.
إنه هو ذاته الصوت والكلام والربابة معاً.
وليس ترفاً انحياز سليمان الفليح منذ بدايته إلى جانب الصعاليك العرب، منذ هناك حتى هنا، ليس ترفاً، لأنه يتعرف على تجاربهم في الحياة والواقع قبل أن يكتشف رؤاهم وطاقتهم الشعرية، لذلك فإننا نفهمه جيداً عندما ينوي السهر معهم حتى الصباح يقتسم معهم التمر والعذاب.
فحين يوصد الآخرون أبوابهم، فإن الصعاليك يظلون ناراً مفتوحة على كل عذاب، حتى (هذا الزمان) :

(نعاني التشرد والفقر لا بأس
فالدهر إن كان صلباً فليس علاج الصلابة إلا الصلابة
وسيف يطيل الإقامة في الغمد يؤتي الصدا في جرابه ).

ترى هل أصبحت الكتابة، لدى الصعلوك( المعاصر ) هي بديل الفعل لسيف الصعلوك السابق ؟!. ولكن أية كتابة هذه التي يعدنا بها الولد البدوي، وهو يهتاج نحو قافية تغرر به مثل فرس شاردة ؟! لقد تاق الصعلوك إلى سيف غير الكتابة، سيف نام طويلاً في صدأ الغمد. والروح قد تراكم عليها ثلج السنين. لذلك سيسرع الشاعر إلى رفاقه الموزعين على خريطة العذاب. وهو حين يعدد لنا أسماء الماضي فإنه يستحضر تجارب رفاق معاصرين يتجاور معهم في عذاب يتبادل الهدايا ويحسن الانتقال.
صعاليك يعرفهم واحداً واحداً، هنا، الآن، وإلا فلا معنى لأن نسمع للمرة التاسعة أو العاشرة ذات الأسماء في قصائد الشاعر نفسه. ولو أن الولد البدوي لم يرصف لنا هذه الأسماء لكنا اكتفينا بالطاقة الإيحائية التي تتسلح بها القصيدة، كمناخ عام، ولكان جسد القصيدة الرهيف قد نجا من (كولاج) كبير كهذا :

(أضئني فإني لمحت بنارك عروة والشنفرى
وتأبط والعنبري وشظاظ وابن الغرابة )

وربما كانت قصيدة قصيرة جميلة مثل هذه ستنجو أيضاً، من الشتات، لو أن الشاعر اكتفى بالروح الغامر، دون اللجوء إلى قائمة باتت حاضرة في تجربته غير مرة. ولو أن الاحتفاء في النص كان مقتصراً في التجربة على هذا المزج الطريف بين النبط وبين الفصحى، لتيسر لأن نتفادى، مع الشاعر، الخطاب المتمثل في تقريرية الأسماء. في جانب آخر سوف نلاحظ تفاوتاً تعبيرياً بين بيتي النبط اللذين افتتح بهما الشاعر النص، وبين بيت النبط الآخر الذي سيدفع به بعد ذلك :

(من خط رباً واضحاً للمعالي
لازم على الشدات تضرب ركابه )

فنبرة الخطاب العالية في هذا البيت، وغياب الصورة الفنية قياساً للبيتين السابقين، سيجعله ضعيفاً، ومعطوفاً (في تقريريته) على قائمة الأسماء تلك، مما ينم عن تفاوت في بنية النص، دون أن يواجه الشاعر ذلك التحدي الذي أشرنا إليه قبل قليل.
لكن صعلكة الولد البدوي سوف تغرر بنا دوماً لكي نهيم بهذا العالم الوحشي الذي يحسن سليمان الفليح كشفه لنا (فيما هو يكتشفه، حياة وكتابة). وعندما استوقفتنا هذه (الأغنية) زاد يقيننا بأن هذا الشاعر الذي يمثل إدانة ضد واقع لا يكف عن الانحدار، هذا شاعر يؤكد زهده في هكذا واقع، متنكراً لمواهب الخضوع فيه. متشبثاً برفاق لا يخذلون القلب يضع رأسه على نار هادئة تنضج الوقت، لا يتنازل عن عذابه إذا كان الفقر بديلاً له. الصعاليك لا تعرف اليأس، تبتكر الأسلحة ولا تكترث بالقبيلة تهتاج بشمس تأتي من القصيدة، هكذا :

(انتبهت لنور الصباح الجديد
فتحت ذراعي للفجر قلت : هلا به).*

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى