جمال الخياط في "كائنات المستنقع"
( 1 )
لماذا يريد كاتب مثل جمال الخياط أن يفتح قصته على تجربة تغاير كتابته السابقة كلها ؟!
أعني لماذا يحدث هذا هكذا فجأة، كمن يرغب في وضع كتابته في مواجهة اختبار لم تعهده ؟!
هذا تساؤل أثارته عندي (بعد القراءة الأولى) مجموعة " كائنات المستنقع " آخر ما صدر لجمال الخياط :
أولاً : الذين يعرفون تجربة الخياط يستطيعون ملاحظة بناء و عناصر الأسلوب التقليدي في مجمل كتابيه السابقين، فالحكاية تبدأ و تنتهي كما ينبغي للحدوثة أن تحدث، الشخصيات النمطية التي يمكن أن نصادفها في كل مكان من حياتنا الرتيبة، الملامح الواضحة الملموسة و الحوارات المباشرة بين الشخصيات. فلم تكن قصة الخياط السابقة تلفت إلى خروج فني عن الشرط التقليدي في قصتنا المحلية، و لم يكن هو يزعم ذلك أيضاً، فقد ظل ينسج تجربته على مبعدة من حركة الحوار الفني و الأدبي طوال السنوات الأخيرة، مكتفياً بما يشبه العزلة عن الاتصال المباشر بما يحدث. لكن الحقيقة - التي تتكشف دوماً فيما بعد - أن الخياط لم يستطع تفادي ما يحدث حوله من حوار ثقافي و فني يتغير مثل الحياة، فقد كان يرقب كل شيء بدرجة من الحساسية التي لا يخطئها القارئ لكتابه الأخير، وهي حساسية لا يستغني عنها الكاتب إذا أراد أن يكون حياً.. في الكتابة الحية.
ثانياً : تجربة الخياط الأخيرة إشارة مختلفة على أكثر من صعيد. ويمكننا أن نقترح سلسلة من الدالات ترتبط، بداية، بعنوان المجموعة : كائنات المستنقع. فالكتابة مثل الحياة، معرضة لكل احتمالات الحركة والسكون، وعندما قلنا قبل قليل عن حياتنا الرتيبة التي ظل الخياط ينتخب شخصياته منها، كنا نريد أن نتوقف لحظة أمام الكتابة التي ستقع تحت وطأة السكون و الرتابة عندما تصدر من رؤية خاضعة لرتابة ما. جمال الخياط جاء - مثل كثيرين غيره - من تجربة تقليدية في قصتنا العربية، والمحلية خاصة، فالقصة عندنا على تنوعها التعبيري المحدود، تعرضت سريعاً لنوع من السكون، خاصة في جانبها الذي تحفّظ (أو تردد كثيراً) إزاء الحرية الفنية وطاقة مخيلته. أقول هذه الرتابة جعلت القصة تتحول، بفعل التقليد والتكرار، إلى ما يشبه المستنقع. و عندما ينفلت ( أْعني عندما يحاول جمال الخياط أن ينفلت ) من أسر هذا المستنقع، فإنما يفعل ذلك بشكل يوحي بتداخل الدلالات الفنية و الرؤيوية إلى الدرجة التي تثير الالتفات حقاً.
ثالثاً : في المستنقع (أي مستنقع) و تحت طبقة الماء الساكن توجد هناك ما لا يحصى من المخلوقات الأولية، قيد التخلق (أو الموت)، العناصر الهلامية، غير المكتملة. جمال الخياط يصعد بمخلوقات مستنقع الواقع في الشكل الذي لم تألفه كتابته من جهة، و بالملامح التي تفضح الواقع لمجابهته بالمسوخ التي دأبت بعض الكتابات على تجميلها من جهة أخرى.
من هذه الشرفة نستطيع أن نتفاهم مع الشكل الذي تقترحه علينا تجربة الخياط، فان الدخول في هذا الكتاب يشبه الدخول في غابة شائكة من المخلوقات والكائنات، بشراً و حيوانات أو حالات. وكاتبنا القادم من تجربته الواقعية سوف نجده يلهج بكل هذه المخلوقات
(شكلاً ورؤية ) متورطاً بغابة تظل بحاجة ماسة لكثير من التشذيب الفني وإعادة الخلق لتصير حديقة جديدة.
رابعاً : يقسم الكاتب نصه إلى ستة فصول أطلق على كل فصل اسم (مناورة)، و هذا الإطلاق يمكن أن نلمس فيه دلالات متوازنة على صعيد شهوة التجريب يمكن أن نرى إلى مناورة فنية، حاول الكاتب أن يهندسها بتدفق كثيف من الخروجيات الواضحة على سياق كتابته السابقة. وله أن يعتبر ذلك مناورة قياساً لتقليد الكتابة التي حققه في كتابته السابقة.
( 2 )
(كلكم منقادون خلف حاوٍ كهل يضرم النار في شعر رأسه يصدح بأغان شعبية بديعة..
أنا خادم الأرض السعيدة
حيث الحب لا يباع
و لا يستباح
فلنطرد الأوغاد سوياً
سليلي النزق و الانحطاط
و هناك عبد أجير يجر عربة يدوية مزركشة تقل رجلاً ميسور الحال، ممسكاً بطائر لا هو بنعامة و لا هو بدجاجة و لا هو بطاووس يتعلق في رقبته اللزجة طفل أسطوري يشبهك).
بهذه اللوحة الخرافية يفتح جمال الخياط أمامنا عالمه الجديد في كتابه "كائنات المستنقع " و هذا ليس كل شيء، إنها " رائحة السفر" التي سيأخذنا إليه الكاتب بحماس وتوتر واضحين، ففي الكتاب المزيد من الصور والعوالم الغرائبية المشحونة بعناصر الواقع الذي نعيشه. لكن ينبغي التنبّه إلى أن عوالم هذا الكتاب ليس جديدا على القارئ فحسب، لكنه بالدرجة الأولى اكتشاف يذهب إليه الكاتب أيضاً، و فنياً على الخصوص. وعلينا أن نعرف تجربة جمال الخياط السابقة لكي نلاحظ المغايرة التي يضع الكاتب نفسه في مهبها في هذا التجربة.
وهي مغايرة لم تتحقق دوماً دون محاذير أو اخفاقات.
يكتب الخياط القصة منذ سنوات تصل إلى العشر إلا قليلاً، و صدر له كتابان، ظل كليهما مأسوراً (لكي لا نقول أسيراً) بحدود القص التقليدي، حيث الحدوثة والشخصيات المتراكمة محصورة في هاجس محاكاة الواقع. ولم تكن أجواء وعوالم حكاياته تغادر المألوف العادي. مما جعل لغته التعبيرية توازي انحيازه لمنطقية مضامينه و حياديتها الفنية.، و هذه خصائص عديدين كتبوا القصة عندنا دون أن تشغلهم مسائل تطوير أساليب تعبيرهم الفنية.
المناورات الست التي يضمها الكتاب تعتمد على عناصر تتناسل و تتكاثر بمحض مصادفات فنية، دون أن نتوقع حضوراً مكتملاً لجميع هذه العناصر، لكن من المؤكد أن ثمة عناصر ستظل محورية ينطلق منها و يعود إليها سياق السرد وهندسة الحالات. خصوصاً (ابن القبيلة) الذي سيبدو لنا عبارة عن ذهاب متوتر لجميع تلك المناورات. ابن القبيلة يتعرض للنفي، يقع في المستنقعات، يهرب منها، و تحضر معه في المشاهد فتاة تزعم له أنها (.. منفية مثلك ). في المقابل يأخذنا ابن القبيلة في بحث محموم لاستعادة الحورية المخطوفة من قبل شخص يعوي كالذئاب. انه (الغريب) الذي يبد أحيانا ً كمنتصر. و رحلة البحث هذه تزخر بالمرير من التجارب، فلا ينجو ابن القبيلة من مطاردات المفتش الذي يتلذذ في اقتحام البيوت، محاصرتها، دائم السؤال عن جثة تتأرجح بين الحقيقة والوهم. كذلك سيصاب ابن القبيلة بطبيعة الجحيم التي تؤثث مجمل مشاهد التجربة التي يقتحمها بحثاً عن حوريته المخطوفة (هل هي فردوسه المفقود ؟). إنه في طريق يكتشف فيه (أن كل عتبة تحوي صنفاً معيناً من الكائنات المعروفة منها والمنقرضة). إن جمال الخياط يصوغ لنا عالماً غزيراً من الغرائبية ليس للمنطق (الذي سبق أن هيمن على قصصه السابقة) سلطة عليه. لقد شعرت و أنا أعيد قراءة التجربة هذه كما لو أن الكاتب يخضع تجربته الفنية لضرب من التطهير في انغماس كلي بعالم يجري اكتشافه عند كل جملة يصوغها. و إلى حد بعيد يمكننا الإمساك بعناصر مختلفة في هذه التجربة تشير إلى نشاط غير معهود لمخيلة أصبحت في الحرية الآن. و هي مخيلة، و إن كانت تنقصها الخبرة و غير متدربة على مجابهة عوالم المكتشفات الغريبة، إلا أنها تقدر على استعادة توازنها والسيطرة على مخلوقاتها وتعيد تشكيلها لتصير عالماً جديداً تذهب إليه.
فالاستغراق في خلق المشاهد الأسطورية التي يغلب عليها الفنتازيا واللامعقول سوف تقع غالباً في الارتباك الفني، لدرجة أن بعضها سيبدو أما خضوعاً غير واعٍ لذاكرة " كليلة و دمنة " المعروفة، أو صوراً ينقصها الجمال الفني الذي تستدعيه الحالة الشعرية التي يقدمها لنا الكاتب. و أعتقد أن هذه ظاهرة مفهومة في سياق تجربة جمال الخياط، بمعنى أنها ممارسة قيد التبلور و ينبغي التعاطي معها على هذا الأساس.
لقد بدا لنا جمال الخياط مغموراً بفرح اكتشاف الصور التي كانت تنهال عليه وهو يتحرر من قيود أنماطه السابقة، مثل عاشق يهتاج في لحظات اكتشاف التضاريس الجديدة لحبيبته. و هذا ما يفسر لنا الحشد الذي لا يحصى من الحالات والمخلوقات و الصور و المفردات أيضاً، التي يمكن أن يصادفها القارئ في الكتاب. و لا نستبعد أن ثمة ارتباك يمكن أن يقع فيه القارئ و هو يجد نفسه في متاهات الحشد. لكن كل ذلك ينبغي أن يعتبر عنصراً مكوناً من عناصر تجربة جمال الخياط التي تبدأ مجدداً في كتابه الأخير. فالحرية الفنية التي يجربها الكاتب هنا منحت مخلوقاته فضاء لم تعهده مثلما لم يعهد الكاتب نفسه الاستسلام لقياد المخيلة بعد أن كان قد اعتاد الخضوع لسطوة الذهن و المنطق.
الجديد في تجربة الخياط هنا انحيازه الواضح نحو اللغة الشعرية التي لم يكن يحتفي بها في كتابيه السابقين، وهذه اللغة أداة من شأنها أن تفتح أمام القصة آفاقاً رحيبة من التعبير الحميم عن الدواخل التي لا يطالها القول الذهني المباشر.
لكن ينبغي أن نلتفت إلى الطبيعة الوحشية التي يصوغ بها جمال الخياط لغته الشعرية، وحشية تتصل بنكهة البداوة التي يصدر منها " ابن القبيلة " من جهة، وتتصل بالمخيلة الأسطورية التي يعتمدها الكاتب مصدراً من مصادر مخلوقاته الفنية. و لكننا قد مشهداً صادماً في بعض الصور الوحشية هذه، خاصة عندما نصادف (الحورية تتبرز بيضة نعام تكسرها المرأة نصفين على رأسها و تطلب منها أن تغتسل بصفارها) ربما لأننا لم نتوقع من الحوريات أفعالاً من هذا القبيل، أو لأن ثمة مفردات يمكن أن تكون صادمة بشكل أكثر جمالاً في الفن مما قدمه لنا جمال الخياط. وظني أن الكتاب وقع في الكثير من هذا الذهاب الوحشي الذي جعلنا نتأكد بأن لوضوح الرؤية الفنية دور كبير في وضوح عمل المخيلة و بالتالي تبلور البناء الفني الشامل للنص. و لاشك بأن الكاتب سوف يكتشف هذا في ممارساته الكتابية اللاحقة.
"كائنات المستنقع" تقترح على الكاتب مهمة إضافية (أعتقد أنه يلتفت إليها الآن) وهي ضرورة إعادة تنظيم الكائنات بعد ابتكارها. ففي النص مشاهد وحالات و صور تفتقر إلى الفن الذي لابد أن يكون أجمل من الواقع.
بقي أن نقول أنه من المؤسف أن تجارب قصصية جادة و طموحة مثل كتاب جمال الخياط لا تحصل على الالتفات النقدي المتأمل، في حين نصادف إطلاقات تتكرر عن غياب الأصوات الجديدة في هذا المجال. و أخشى أن تعثّر الممارسة النقدية، من قبل المعنيين بالنقد الأدبي، من شأنه أن يعطي نتائج سلبية على العديد من المواهب في هذا المجال. * |