أنت رغماً عنك جار الله الحميد
قراءة في (أحزان عشبة برية) للقاص جار الله الحميد
(1)
أن يكتب الشاعر قصصاً، فهذا يعني أن على القارئ أن يحتمل الرفقة، ويحمل العبء.
(2)
جار الله الحميد. هذا البدوي المقذوف في أتون الحداثة. يكتب الشعر ويصوغ عالمه بصورة ورؤية جديدتين. ويتصل بتحقيقها.
ويبدو أن القصيدة - عنده - مشروع قابل البدوي للتحولات. فصار يكتب هجساً لقصة جديدة بلغة البدوي الذي سئم الكلام واللغة معاً. لأنه سئم القبيلة. وصار خارجاً. أو كاد.
* بدوي هو، يركض لاهثاً باحثاً عن العشب، ذلك المهاجر القديم. لكنه هنا يتخذ شكلاً فنياً بنائياً معاصراً. العشب هنا يصوغ العناصر البنيوية للقصة من جهة، ويؤسس لعلاقات رمزية في مضمون القصة من جهة أخرى.
إنسان جار الله يلوب في صحراء المدينة الحديثة. هذه المدينة التي نبتت في صحراء أو قامت عماراتها على عيون الواحات فيها. وهذا يهنئ لحياة أكثر قسوة وجفافاً من حياة البدوي الأولى. نقاء البدوي عند جار الله يحمل عبء البحث عن الواحات المغدورة الغائبة.
* يظل العشب في عموم القصص مدخلاً مفتوحاً لمناخ الفن والحياة الذي يخلقه الكاتب. وعندما لا ترد إشارات العشب مباشرة كمدلول رمزي، فإنها تأتي في صورة مشابهة ومقاربة لمعنى العشب فالعشب هو الماء والأجوبة والأمن والحرية. إنه الإنسان معذباً وحالماً معاً.
فالبدوي، هنا يواجه اشكالات حياتية من نوع خاص ومختلف.
(3)
* جار الله الحميد في قصصه يكتشف ويكشف
يكتشف، حيث الشخصيات تقع في الدهشة عند كل خطوة. ووفي كل فعل. كما لو أن الانسان يتعرف على العالم لأول مرة فمنذ أن يجد نفسه (في مكان فسيح جداً) يختلط عليه حدود الحلم بالواقع. ولنا أن نعتقد بأن المكان الفسيح هذا هو الصحراء (وأي صحراء!) حيث تتجاوز هذه الصحراء مدلولها المادي الجغرافي وهندستها الطبوغرافية، لكي تصير رمزاً نفسياً يتحرك في أقاليمه بطل القصص (بدرجات متفاوتة في كل قصة).
* وعندما يحاول بطل القصة الأولى أن يتعرف على أطراف الواقع من خلال تفسير الحلم الذي رآه، يقع في الدهشة، ويعتبره الآخرون غامضاً ومجنوناً. البدوي الذي حبيبته لها مائة اسم، ليست سوى الحرية. هذا البدوي، ليس بدوياً، والآخرون الذين (يملكون آذاناً صاغية وعيوناً تستطيع التحديق وكانوا يتمتعون بعافية) لا يستخدمون هذه الطاقات كما ينبغي. وهو تحت وطأة غذاب رؤياه يبحث عن تفسير والتفسير يعني هنا التحقيق. (حيث الفلاسفة السابقون لم يفعلون سوى تفسير العالم، وعلينا الآن تغييره).
وتلك السيارة (آلة الحضارة) ليس بوسعها أن تعبر الطريق بدون ساعد الانسان المرهق الذي يتصبب عرقاً تحت المطر. لكنه متعب الآن. ومثل بالأحلام ومتهم بالجنون، حين يقف أمام نفسه يكتشف أنه غامض الشكل وأي غموض هذا لا يقدسه الشاعر ويغسل به العالم !!
* لم لا، غامض ومجنون، لكنه بطل حياته. بطل يبحث عن تفسير لما يجري حوله. لما يختلط أمامه. وهو بتشبثه بحلمه. وإصراره على تفسيره بغموض، يشير إلى هيامه المجنون (بكشف) اكتشافاته وفضحها. لذلك فإنه يتلقى تحذيراً من (مغبة هذه الأحلام).
(ماذا تقول في رجل حلم بأنه يمسك بعشبة غريبة، بيضاء وحمراء ووردية وزرقاء، ويطير، كل مرة يحط في مدينة يرى نفس المرأة التي هي حبيبته، ولكنه كل مرة يناديها باسم آخر، مع العلم أنه هبط في مائة مدينة وربما أكثر)، وتتجاذبه اقتراحات كثيرة في أطراف الحلم الواقعية، حيث بعض الآخرين يجس المعنى، لكنه يبعد سريعاً، كما لو أنه يمسك الجمر ويكتشف البطل عذاباً جديداً (يعرف الانسان السر ولكنه لا يبوح) الجميع يبحث عن تلك العشبة الأسطورية ذات الألوان. الجميع يحمل ذلك الحلم اللجوج. الجميع يعيش من أجل ذلك الحلم. والجميع يرهب الاقتراب من حدوده. وهذا يجعل بطل جار الله يقع في مرارة الفقد، ويجعله مهدداً بإهدار جمالات المفاجأة ودهشة الفعل والتحقيق.
* لكن جار الله يتشبث بالعشبة وأحلامها، التي تشكل إيقاعا رمزياً محورياً تكاد القصص أن تنهض به. فحيناً نراها عشبة غريبة، أو عشباً نقياً، وأحياناً عشباً برياً رمادياً (حيث الحالة النفسية كذلك) وتبرز أكثر حين (حين يدوسها جمل منتفخ بنياشين التاريخ) ولا تموت.
ولعل صياغة هذا الرمز بهذه الملامح الإنسانية يمثل اتصالاً بواقع معاش يساهم في عذابه الكاتب وبطل القصص (بمختلف شخصياته المتحركة) والقارئ إلى حد بعيد، ففي صحراء من النوع الذي تتحرك فيها الشخصيات، لابد أن تكون العشبة البرية بعداً يعادل الحلم المتحرك ويوازيه.
* وينبغي أن لا تتوارد إلى أذهاننا عشبة الخلود الأسطورية التي بحث عنها (كلكامش) ولم يجدها. فعشبة جار الله ليست أسطورية بهذا الشكل.
إنها رمز وليست أسطورة. وهي واقعية حتى العظم. وتتصل بحلم الانسان الذي يظل في انتظار الفعل، - (من قال لك انك تستطيع تفسير أحلام كهذه لكن قل لي ما معنى العشبة البرية التي رأيتها تبكي؟)
ويمعن البطل في جنونه، يحاول التوضيح فيقع في الغموض (- هي، هي، أو هي.. أنت)
لكن أحداً لا يصغي. فيتشبث البطل بغموضه وجنونه. لا أحد يعرف، لا أحد يريد أن يعرف، والمعرفة هنا ليست تفسيراً، ولكنها فعالية.
(4)
* ومطر عبدالرحمن في القصة الثانية مكتنز بالدلائل.
لماذا (مطر) بالذات، في حين أنه يواجه الصحراء أينما يذهب، فقد : (اكتشف أن غرفته في الفندق هي الغرفة المقابلة تماماً للصحراء) و (مطر) هذا لا يختلف كثيراً عن شخصية القصة الأولى، ربما نستطيع القول بأنه لا يختلف أبداً. بل انه هنا ينتقل بعذاباته من فندق إلى آخر. إن لجوء الانسان في هذا العصر إلى الفنادق لا يدل إطلاقا على علاقة طيبة بالمجتمع. الفندق هنا محاولة للانفراد مع التراث وينبغي اعتبار ذلك هروباً في كل الأحوال. الانسان (الآن) لا يستطيع أن يهرب. بل إننا نراه يحاول الاتصال بالآخرين. لكن الوحدة (بمعنى العزل) تطارده.
مطر عبدالرحمن بدوي من نوع خاص يحتاج لمن يحاور همومه. والصحراء لم تعد تتميز بذلك البريق الفطري. للحظة شعر مطر عبدالرحمن أنه يمكن أن يجد من يصغي لعذابه. من يفتح معه حواراً في هذا العذاب الحميم. انه خادم الفندق العجوز الذي سأل مطراً ما إذا كان يشكو من مرض. وما أن بدأ هذا في التقاط الحبل حتى بادره العجوز (تصبح على خير) وغادر الغرفة. لا أحد يصغي للآخر. أية علاقات بشرية تتعرض للتذمر إذا انعدم الحوار. وللإنسان أن يبحث عن وسائل وعن أطراف أخرى للحوار. وعند مطر لا يضير أن تكون هذه الأطراف غير بشرية. ولذلك فإننا لا نصطدم كثيراً حين نجد مطراً يفكر في كلب الحراسة لعلة يستمع إليه.
* يضعنا جار الله بهذه الصورة في مواجهة ذاكرتنا لنستحضر حصان (تشيكوف) في إحدى قصصه. حيث يظل هو الملاذ الوحيد للحوذي الذي مات طفله برداً وجوعاً، ولم يجد أحداً يشكو إليه مأساته. فيلجأ إلى الحصان حساً (إنسانيا ) حين تترقرق أحداقه بالدموع فيما كان الحوذي يحكي عن موت طفله.
هل كان جار الله قد قرأ تشيكوف ؟ ليس هذا ضرورياً. لأن اللحظة التاريخية، بملامحها الاجتماعية التي تشكل الطبيعة البشرية لا تختلف كثيراً (في أساسها المادي) بين ذلك الوقت والآن.
وكان تشيكوف وقتها في روسيا القيصرية. وكانت شخصيته حوذياً بائساً. وهنا نجد أن بطل جار الله الحميد فقيراً ولد في السوق وينطوي على قدر كبير من احتمالات البؤس والعذاب حيث اتهم بالسرقة فأصبح طائراً غريباً. (ويمكننا أن نتخيل ماذا فعلت تهمة السرقة ببطل فيكتور هيجو في (البؤساء)؟!
* إنه يعيش في التجربة، يشعر بالشيخوخة في الثلاثين من عمره ولنا أن نعتبر البحر (مرة رأيت البحر فقال لي كل شيء) هو التجربة الحياتية التي عاشها وغرق فيها، وكانت (أشد صراحة من البصقة) لكنه خرج من التجربة (هل خرج حقاً ؟!) أكثر صحة.
(5)
* في القصة الثالثة، اعتقد أن جار الله قام بتخطيط رائع لقصة جيدة لم يتمكن من إنجازها، إن هذه القصة تمثل مشروعاً قابلاً لم يتوفر على فرصة التحقق، إنه احتمال فني تمنيت لو أن الكاتب أعطاه دفعاً أكثر ليصير. ليتكون، فدرجة الفن في هندسة البناء والعلاقات عالية هنا. وحسب جار الله انه كتب هذه القصة دون أن يشغل نفسه كثيراً بإقناع القارئ بالحدث والموضوعات.
* عند جار الله لا ينبغي أن نبحث عن حادثة في القصة. ذلك أسلوب لا يليق بتجربة جديدة من هذا النوع. فالقصة في هذه المجموعة هي الشخصية في مناخها. ليست الأحداث هي البطلة، لكنه المناخ الذي تصوغه الشخصيات وهذا هو الذي يحمل عبء عناصر القصة الجديدة من الوجهة الفنية والموضوعية في آن.
* من هذه الشرفة، يجوز لتجربة جار الله أن تقع تحت طائلة التجريب الذي يخفق أحياناً. ولكنه بشجاعة الاجتياح. انه يخفق لأنه يعيش في التجربة حياة وفناناً. ويخفق لأنه يكتشف ويكشف. ولأنه لا يتمسك بالقناعة. ففي الفن (القناعة كنز لا ينفع).
* (حديث خاص جداً)، قصة تتجه بالضبط بلغة التداعي نحو القصة المضادة وهي بالتالي، لن تشبع رغبة القارئ الذي يبحث عن القصة القصيرة بشكلها السائد. والتداعي هنا - من حيث هو في صيغة التحدي الهاجم - يتحول إلى هذيان شرس، يراهن على تعاسة الانسان، الذي هو (رغماً عنه) مربوط بركام من العلاقات التي تبدو إنسانية في ظاهرها. ولكنها حقيقة تمثل الاستلاب الذي يفرغ التكوين البشري للإنسان، وليس له ( الانسان ) أن يفاجأ ذلك أنه يسير حافياً عاري الرأس وعرقه بلا ثمن.
لا تبحث عن القصة هنا. هنا انفجار هذياني يخطط لمشروع قصصي أكثر جمالاً. ومن هنا تنبع أهمية هذه القصة. من بين المجموعة حيث الإشادة لما يمكن أن يحقق، وليس لما تحقق بالفعل.
* ولو أن الصوت الآخر (الذي تنصب على رأسه الأسئلة) تسنى له الدخول في لعبة الحوار لحصلنا على مناخ أكثر مأساوية ومناخ قصصي يتجه لأفق أوسع. ولكن الكاتب أصر على أن يمارس قمعاً ضد الصوت الآخر. ويتفرد بالهجوم. الانفراد بالصوت الواحد هنا فوت الفرصة على الكاتب فلم تتفجر القصة بجمال بنائي، وفوت الفرصة على القارئ ليدخل في تجربة أكثر رحابة..
* هناك افتراض آخر (وهي احتمالات من خارج التجربة)، فمن المتوقع أن يكون الكاتب واعياً لفعل الحصار المفروض على الصوت الآخر، يستهدف به تجسيد فعل الاستلاب الذي يجعل الانسان محروقاً أيضاً من فرصة الكلام وحق التعبير. وهذا اجتهاد يوظف الشكل الفني لتحقيق قدرة تعبيرية أكبر من زجل التوصيل المضمون. والشكل هنا يخدم المعنى. فيظل الانسان هنا (صغيراً) في مواجهة (السيد). لا يقدر على السؤال ولا يقدر على الإجابة. وهذا الاجتهاد الفني يمثل إضافة في مجال التجريب.
(6)
* التجريد شكل تعبيري شائك.
وبقليل من الحذر يستطيع الكاتب أن يقع خارج سلطة الكتابة في الفراغ. حيث يظل العمل الفني بلا مفاتيح ولا قراء.
وفي القصة (حلول المشكلة الطين) نشعر بأن المبالغة في التجريد فوتت علينا فرصة الإمساك بأطراف البناء الفني. لقد احتفظ الكاتب بكل أسرار اللعبة فظلت اللعبة محصورة في لاعب من طرف واحد. هو الكاتب وعجز القارئ عن اكتشاف المفاتيح.
* بالرغم من أن (البيت الطيني) ينطوي على قدرة رمزية كبيرة. فإن الكاتب خلق لنا حواراً معلقاً لم يساهم في تنوير التساؤل العميق الذي تطرحه القصة حول (البيت الطيني).
* لدى القارئ ذخيرة كافية من ذاكرة التراث. وهذه الذخيرة كان بإمكان القصة أن تفجرها إذا ما هيأت إضاءات معينة حول مشكلة (البيت). ولكن يبدو لي أن التردد الموضوعي وتوجس الخطر هو الذي جعل الكاتب يقع في التجريد. وإذا نحن تسنى لنا (بشكل ما) اكتشاف جانب صغير من تجربة هذه القصة (إذا اعتبرنا الطين هو الانسان) فإن البيت الطيني يظل إمكانية قابلة للتفجير بصورة أكبر لو أن الكاتب وعي لها.
* وحين نعود لهذه القصة بعد قليل لا ينبغي الاعتقاد بسهولة اختراق التجريد فيها. فستظل هذه القصة نموذجاً واضحاً لإخفاق الكاتب أثناء عملية التعامل مع التجربة والضعف أمام إغراء التجريد في السياق القصصي.
(7)
قصتا (الطوفان) و (تنويعات عن حركة العشق والسمكة) تدوران في أقاليم العذاب التي يحمل عبئها البطل المأخوذ بإنسانيته المستلبة.
برشاقة أخاذة ينتقل الضمير (في الطوفان) بين أزمان مختلفة، من الطفولة حتى الصعوبات الراهنة في مواجهة الحياة، والتنقل يبدو كما لو كان (فلاش باك) سينمائي مرسوم، والطوفان يغمر العالم كمن يريد أن يغسله، طوفان يخصب الأرض من هنا، حيث يجعل (لرائحة الحقول نفاذ عجيب)، ويخرب الأرض من هناك، حيث (المطر كان يهطل ويقسو). هنا إنسان يواجه طوفاناً مختلفاً، طوفاناً يبرره أمام المسجد بأنه امتحان من الله لعباده، وعلى الإنسان أن يكون (أيوب المعاصر).
(كان مثالاً للصبر والأناة / وكان مريضاً).
بين الطفولة والآن يمتد خيط عميق من العذاب :
(قال لي الموظف :
- هل ستكررها ؟
ثم قال :
- إذا كان ما حصل يطيب لك فكررها متى شئت ؟
وأحسست أنني عشبة برية يدوسها جمل منتفخ بنياشين التاريخ، والمؤلم أنها لم تمت، أخذت حقيبتي من صديقي.. وكان الطريق يبدو واضحاً حاداً لأول مرة (وِأثر عصا المدرس لا تزال في جلدي، ذهبت إلى بيت قريبي.. أخذت ثيابي.. ثم سافرت).
ما الفرق أن أثر العصا مازالت تذكر الانسان بأن شيئاً لم يتغير. مازال الانسان (صغيراً) ويعاقب بأشكال مختلفة، كأنه العذاب الأزلي، فيظل الكاتب إنسانا مولعاً بالسفر، السفر الذي يمثل في مناخ المجموعة إشارة لحكم الخروج من مأزق الحياة (حين عدت من سفري العجيب قال لي أمي : هل كنت تعاني من فقرك المعتاد ؟!)، نلاحظ أن شخصيات أكثر القصص أما على سفر، أو قادمة من سفر، أو أنها تستعد لذلك حتى أن القصة الأخيرة (التنويعات) تدور أحداثها في بلد غريب، حيث (النهر يفعل ذلك بالغرباء دائماً ).
* قلنا بداية، أن البدوي الذي يرحل راكضاً وراء العشب (هذا البدوي المعاصر) يتحول عنده السفر عبر القصص، هاجساً بدوياً معاصراً هو الآخر. ولكن العشب الجديد هنا يختلف بلا شك عن العشب السابق ( الواقعي ) انه الآن يمثل حلم الانسان بالانسجام مع واقع لم يتحقق بعد.
في (التنويعات) نتعرف على شاعر (ينبغي أن نتوقع أنه الكاتب نفسه) في بلاد غريبة، يحاول أن يتصل بالعالم من خلال عذاباته الخاصة، حريته سمكة مسجونة في الحوض، لكن تلك المدينة العجوز تكاد أن تلتهمه، ولم تعد النساء تفهم الشاعر، (لأن الشعراء يفسدون الأجواء المرحة، وليس وراءهم إلا الحزن).
حسناً، هذا هو البحث الذي يحمله صاحبنا معه أينما حل، والغربة لا تختلف عن الوطن كثيراً. الحبيبة / الحرية سمكة صغيرة في الحوض.
من يفهم الشاعر ؟ ومن يتحاور معه مع أحلامه العذبة ؟ مرة أخرى أقول، عند جار الله الحميد لا تبحث عن الحدث، فقط ادخل في مناخ العذاب.. القصة عنده مناخ فحسب، وهذه خاصية مهمة من خواص القصة الجديدة التي يتجه الكاتب بقوة وحماس مسلحين بأدوات الشعر.
لكن أخشى أن يكون جار الله قد بالغ أحياناً في الاتكاء على هذه الخاصية مما أوقع تجربته أحياناً في ذلك التجريد الذي أشرنا إليه قبل قليل، حيث التجريد يتصل بالشعر أكثر من اتصاله بالقصة.
(8)
في سياق القصة القصيرة السعودية، أعتقد أن (أحزان عشبة برية) (إلى جانب تجربة القاص محمد علوان - مع الاختلاف) تمثل إشارة مهمة للتجاوز الفني الذي تحتاجه كتابة القصة.
ومن خلال قراءتنا لهذه المجموعة ينبغي التأكيد على بعض الملاحظات التي أثارتها التجربة، والتي تحتاج للمراجعة النقدية من قبل المعنيين بالمسألة الفنية بالقصة السعودية، في سبيل إضاءة التجارب اللاحقة.
من خلال تجربة هذه المجموعة، يريد الكاتب أن يؤكد بأن القاص يستطيع أن يكون (واقعياً) بعيداً عن التقاليد الواقعية الموروثة وبمعزل عن العناصر الحديدية التي تتخبط بها التجارب السائدة.
فالواقعية (من حيث هي موضوع) ليست منحصرة في تقرير الواقع وفوتوغرافية الحدث وإنشائية اللغة، إنما هي قابلة لأن تتمثل في الرؤية الفنية لحركة الحياة، والإيمان العميق بأن (موضوعية) الواقع القاسية هي التي تجعل الأمر (ذاتياً) ينفس الدرجة، وربما أكثر حدة، كما أن التعبير الواقعي يمكن أن يتحقق بأدوات واقعية، تجريدية، وموغلة في الحلم.
وعند النظر في تجربة جار الله الحميد ينبغي الالتفات إلى هذا المزج الفني بين الواقعي واللاواقعي، حيث يلتقي الجوهر الشعري مع أصدقاء الواقع ومكوناته في آن، ليولد واقعاً حلمياً أكثر فاجعة وفعالية على الصعيدين الفني والمضموني، وهنا تكمن الامكانات المحتملة التي تنطوي عليها تجربة جار الله القصصية، باعتباره شاعراً يكتب القصة.
إن تجربة جار الله رفض فني مشروع لتقاليد القصة التي استوردتها القصة السعودية من تيمور والسباعي ومحفوظ أحياناً، هذا الرفض بمثابة الإشارة الساطعة في صحراء أدبية كادت أن تقتل مبدعيها.
إن التكوين الفني الذي ينهض على عناصر ذاتية في قصص جار الله يجعلنا نؤكد على حقيقة مهمة لا ينبغي أن تحسب ضد تجربة الكاتب كوعي الالتصاق بالذاتية الحميمة في القصص، لأن هذا أمر يساعد الفنان على اكتشاف الجوهر الإنساني في التجربة، ولا يضير الفنان أن يعبر عن ذاته بهذه الحدة، ما دامت هذه التجربة (الذاتية) تنهض بالحلم الجماعي المبثوث في الحياة، وليس الواقع سوى مجموعة ذوات متواصلة ومتصلة - بدرجات متفاوتة - تشكل في نهاية التحليل بناء شاملاً، ويحق للفنان أن يحتفظ بملامحه الذاتية وشخصيته فيما هو يحاول التعبير عن هذا الواقع الجماعي، إن كل الأعمال الفنية الناجحة إبداعيا غالباً ما تنطلق من تجربة ذاتية، لأنها تتصل بعنصر الصدق التعبيري.
وللحساسية الشعرية التي يتسلح بها جار الله الحميد، والتي جعلته يتشبث بخصوصية تجربته، دور كبير في تحديد موقعه من الواقع، حيث أن الزاوية الذاتية التي يأخذها الكاتب لرؤيته تجعله مهيئاً لمهاجمة الواقع بشكل قادر، وبلغة مهيمنة في آن.
ولكن اللغة المهيمنة هذه لم تكن انتصاراً في جميع الأوقات.
فقد لمسنا في القصص أن اللغة تصير أحياناً فخاً أمام التجربة، بحيث يقع الكاتب بسهولة في فخ اللغة، إنه فخ شديد الخطورة لأنه شديد الإغراء بسبب اشتماله على جماليات عديدة.
فقد تعامل الكاتب مع القصة تعامله مع القصيدة، مما يفرض على التجربة شروطاً ليست قصصية - من الوجهة الفنية - فتصير القصة غاية في الإيجاز، حتى تضيق على حركة الشخصيات، أو تختزل الاندياح الدرامي، وهذا يؤدي بدوره إلى غموض البناء الفني، وغياب فرص الدخول أمام القارئ في تجربة الكاتب، وتظل التجربة تتأرجح بين القصيدة والقصة من حيث اختلاط الأدوات والمعالجة (حديث خاص جداً معك).
وإذا فهمنا مشروعية استفادة القصة الجديدة من اللغة الشعرية، بشكل من الأشكال، فإننا لا نستطيع التعامل مع تجارب مترددة بين القصيدة والقصة. أذكر أنني قرأت للقاص محمد علوان زخر بلغة شعرية تكاد تحتفظ بالإيقاع فيها، ولكنني لم أخرج لحظة من مناخ الفن القصصي رغم ذلك. وهذا أمر ينبغي أن تهتم به قصة جار الله الحميد، فنحن لا بد أن نؤكد على حبنا لجار الله شاعراً لتميز تجربته بلا شك، ولكننا أيضاً نحب له أن يظل قاصاً لنفس السبب، وهذا يستدعي وعياً أفضل في سبيل الأخذ بتطوير تجربته القصصية دون الوقع في اللغة الشعرية، حيث خطورة الشاعر على القاص.
عند جار الله يشف الرمز كثيراً، وقد لا تبدو لنا من خلف هذا الرمز ملامح محددة واضحة، حتى أن القصة تصل إلى التجريد، وتجريدية جار الله - ذات الأسلحة الشعرية - تظل تميل إلى النماذج الإنسانية المطلقة، وهذا الإطلاق يستدعي تعاملاً خاصاً مع حركة القصة، خاصة وأن شخصيات القصص في المجموعة مرتبطة ببطل واحد يبرز في حالات مختلفة.
والتجريد (المبالغ فيه أحياناً) يتصل بالحلم أحياناً، ويحتك بالواقع حيناً آخر (تنويعات عن حركة العاشق والسمكة) وتظل هناك الأفكار والمعاناة المجسدة تستميت لتحقيق الوحدة مع حدود الشخصية.
ولعل الفقرة (3) من القصة الأولى تجعلنا نتسلح بالتوقعات التي يوفرها لنا الكاتب، فالتجريد الذي تتحرك فيه الشخصيات يبدو مقرراً سلفاً، حيث نقرأ (وقف بطل القصة بمواجهة نفسه فإذا هو غامض الشكل)، هذه الجملة التي يستدعيها سياق الحالة النفسية للبطل، يستحضرها الكاتب - لا واعياً - لتكون علامة فنية ضرورية لإعانة القارئ على الاتصال بباقي التحولات التي ينتقل فيها البطل نفسه. هذا التنقل الذي يترافق مع عملية تجريدية أخرى نلمسها في تفتيت الزمن، حيث التداعي والحلم يمزجان الزمن بصورة لا واقعية وغير قابلة للتصديق. لكن جار الله لا يهتم كثيراً باحتمالات التصديق، لأن القصة القصيرة - عنده - لحصة عميقة ممتدة من الحلم إلى الموت، وعندما تتفجر لحظة الامتزاج هذه، يبدو الحلم أكثر واقعية (وبشاعة) من الواقع (معاناة مطر عبدالرحمن ومباهجه).
من جهة أخرى، نحن لا نرى للمكان هندسة ثابتة، نجد الصحراء والفندق والمدينة (التي تكون بالقرب منك لكنك لا ترى منها إلا أعمدة الكهرباء )، وتحت المطر، وفي الشارع، وأمام البيت الطيني. هذه كلها أمكنة واقعية، سرعان ما يعيد الكاتب صياغتها فلا نكاد نتثبت من هندستها المتوقعة. فالتجريد الذي يطال المكان يتأتى من سطوة الواقع النفسي على الشخصيات والموقف، حيث يأخذ المكان طبيعته الجمالية من الدفق الشعوري الذي تعيشه اللحظة في القصة.
إننا لا نرى الصحراء فحسب، لكننا نرى صحراء في مواجهة الانسان بطل القصة، وهذا يعني أن المدينة يمكن أن تكون هي الصحراء، أو أنها تشتمل على صحراء. ولعل القصة (حلول لمشكلة الطين) نموذج قوي لهندسة المكان النفسية، فقد يمكننا التعامل مع الطين كرمز غني للطين البشري الذي يتعرض للدمار الداخلي.
(أليست السلالم في بيوت الطين ملتوية ومهترئة) ويظل في حاجة للحلول. حتى أننا نجد أنفسنا أمام شيء يشبه الأسطورة.
(حين وصلا بقعة مليئة بماء المطر الآسن، شما رائحة عجيبة، وكرر النداء ثلاثاً). هذا يذكر بالطقوس السحرية التي في الأساطير، حيث يبدو أن الانسان مازال يلهث باحثاً عن حل اللغز الأزلي لمشكلة الطين - الانسان. لكننا هنا لسنا بصدد لغز أسطوري، إنما هو واقع يومي يواجه فيه الانسان أزمته الذاتية ضمن الأفق العام، فينبغي أن لا نفاجأ إذا أخذنا الكاتب أخيراً إلى حل تكتمل به المعطيات السابقة :
(هل تبحث عن راحة حقيقة ؟
- ياله من سؤال !
- إذن.. فتزوج
- وفيما بعد ؟
- (ابن بيتاً من الطين!)
إلى أي حد يبدو هذا الحل منسجماً مع مشكلة الانسان - الطين ؟ فالزواج يشير إلى إعادة خلق وتكوين الانسان. فالهندسة النفسية هنا تصوغ البيت الطيني بمادة الخلق ذاتها ( الانسان ). الزواج هو استمرار الحياة والوجود الفعالية وبذلك يتكشف لنا جانباً مهماً من جوانب التشكيل التجريدي للمكان الذي يعتمده الكاتب، لم يعد البيت الطيني بيتاً مألوفاً، أو أنه ليس بيتاً على الإطلاق، انه الانسان.
هل لنا أن نطرح هذا البعد النفسي (الفني) للمكان باعتباره أحد إنجازات جار الله الجميلة التي تظل قابلة للكشف دوماً ؟!
( 9 )
ليس هذا عملاً نقدياً بالقياس الأكاديمي للنقد، ولكنه مداخلة ذاتية حملت متعة معايشتها منذ أن قرأت مجموعة (أحزان عشبة برية) للمرة الأولى قبل حوالي العام، إنها قراءة فحسب، فنحن لسنا نقاداً إنما نطمح أن نكسر صمتاً غامراً فرضته ظروف عديدة على نتاجاتنا الشابة في هذه المنطقة، ليس بسبب غياب النقد الذي يستوعب تجربة هذا الأدب ويحاورها فقط، ولكن لأننا محرومون (بشكل ما) من حرية محاورة تجربتنا كأدباء، شعراً وقصة.
من هذه الشرفة أتمنى أن ينظر إلى هذه المداخلة، ومن هذه الشرفة أتمنى على الأصدقاء أن يسقطوا من اعتبارهم احتمالات الصمت القاتلة، ولست أريد لهذه المداخلة أن تأخذ أهميتها إلا من كونها إشارة ودعوة للحوار، ولا تأخذ أهميتها من الآراء والملاحظات التي تطرحها.
( 10)
مرة قال الشاعر الأمريكي والت وايتمان (جاءتنا الولادات بالغنى والتنوع، وسوف تأتينا ولادات جديدة بالغنى والتنوع)
ويقول جار الله الحميد (معك عشب كثير. سينبت في يوم ما عشر آخر.. ونرى).*
جريدة الرياض -
|