مالم ينشر في كتاب

نص على نص

أمل دنقل :
جدار في الظهر

سيف في الصدر

تشبثوا بآمالكم، فإن أمل دنقل قد مات. ومن لديه أمل فليعض عليه بالنواجذ. هاهي آمال الشعر العربي تغادر.. وتتسرب من بين أيدينا واحداً بعد الآخر.
هل أمل دنقل آخرها / أول الذين /
( لا وقت للبكاء
فالعلم الذي تنكسينه.. على سرادق العزال
منكس في الشاطئ الآخر.. والأبناء يستشهدون كي يقيمون.. على تبة
العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن مرارة النكبة خيطاً من الحب.. وخيطين من الدماء )
قال ذلك عند وفاة عبدالناصر / كأنه يقولها لنا الآن، فهو لم ينس الحياة حتى وهو بين فكي الموت.
عندما مات انهالت مئات المقالات بسرعة البرق للحديث عن شاعر مات. حتى نكاد نشعر بأن بعض هذه المقالات فرحة لأنه مات.

لماذا الآن يصير الشاعر جديراً. ويسمعه الناس ؟
هانحن ندخل في واحدة من محن الشاعر العربي الجديد. أمل دنقل لم يعرفه طوال تجربته الشعرية ربع عدد الذين يعرفون / يعرفونه الآن.. بعد /
نحن أمة تقدس الموتى. موتاها خاصة. بل أننا أمة تقتل مبدعيها لتقدسهم. إن الفرق / المفارقة بين إهمال الشاعر ومحاصرته إلى درجة الحرب أثناء حياته، وبين الاهتمام والاحتفاء إلى درجة التقديس بعد موته، مسألة مثيرة وجديرة باكتشاف النفسية العربية تجاه المبدعين الأحياء / الأموات.
أمل دنقل، جاء. صرخ في العالم المستكين، لم يعبأ بصوته أحد. ما همه أحد. كتب أجمل الأشعار ومات.
(أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور ليطمئن قلبه، فما يزال طيره المأسور لا يترك السجن ولا يطير
أبصر تلك الشفة المثقوبة

ووجهة المسود، والرجولة المسلوبة.
.. أبكي على العروبة)
* الصعيد المصري / محافظة قنا / قرية القلعة / 1941. ولد دنقل. كيف نتخيل طفلاً يرى النور للمرة الأولى في (قلعة/ و إن مجازاً) - حمل الشاعر قلعته معه. في دمه / كلماته. واشتغل طوال الوقت على كسر هذه القلعة. بدون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة. كسر جدران قلعته في القصيدة، كما لم يعهد الشعر المصري القصائد، ولم يعهد الكسور.. بهذا الشكل. قصيدته تكتظ بالواقع، بالعذاب الذي رآه في المدينة أكثر تعقيداً من عذاب القرية. هناك صورة العذاب واضحة، مباشرة حتى البساطة. في المدينة بدأ الصراع على درجة من التعقيد إلى الحد الذي يتطلب قوة أسطورية لدى الشاعر لكي يعبر الجحيم. يحترق فيه دون أن يتلاشى. كان فلاحاً هادئاً يمكن أن تلمس هدوءه في موسيقى القصيدة. في قافيتها خاصة. والمدينة صاخبة /
(كنت لا أحمل إلا قلماً بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا.. قلمي
في يدي : خمس مرايا
تعكس الضوء (الذي يسري إليها من دمي)
.. (افتحوا الباب)
فما رد الجرس
- (افتحوا الباب.. أنا أطلب ظلاً..)
قيل : (كلا).
1958 / دخل كلية الآداب. جامعة القاهرة. لمدة عام واحدة فقط. كأنه ليس مهيأ لشيء سوى الشعر، المهمات والواجبات التي تتطلب جلوساً في المقعد لا تليق به.
عاد إلى محافظة قنا. عمل موظفاً في المحمة. لكنه انشغل بالشعر والحياة.
ترك الوظيفة /
(ملك أم كتابة).

صاح بي صاحبي، وهو يلقي بدرهمه في الهواء
ثم يلقفه

(ملك أم كتابه
صحت فيه بدوري
فرفرف في مقلتيه الصبا والنجابه
وأجاب : (ملك)
دون أن يتلعثم.. أو يرتبك
وفتحت يدي
كان نقش الكتابه
بارزاً في صلابة)
انفجر أمل في الشعر الحديث بهدوء. لكن بنوع من السخرية لم تتوفر كثيراً في هذا الشعر. كان الفن عنده يسخر في الجرح ويسخر به معاً. وصارت هذه الخصيصة من أرقى ملامح شعره. وربما وصلت في أحيان كثيرة إلى ذروة المأساة الإنسانية التي تنطوي على قدر كبير من درامية الحياة البشرية. ويستطيع أمل دنقل بجمالية شعرية غاية في الشفافية أن يباغت القارئ بصورة يومية تصعد إلى مستوى الصورة الشعرية الراقية. يحدث هذا من غير أن تفقد الصورة اليومية الشعبية بساطتها، ودون أن يقع في المبالغة الكلاسيكية المعتمة، والتي يحيط الضجيج البلاغي بها. فاللمحة الساخرة عنده تفجر في ذهن القارئ مالا يقاس من المعاني والآفاق الشعرية.

(قيل لي "اخرس".
فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد ( عبس ) أحرس القطعان
أجز صوفها.
أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي : الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان :
أدعى إلى الموت.. ولم أدع إلى المجالسة).
إنها قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التي كتبها في الأسبوع الأول من هزيمة 67. والتي انتشرت في مصر بالدرجة الأولى، تماماً كما اشتهرت (هوامش) نزار قباني في البلاد العربية. مع أن الشعر عند دنقل وصل إلى مراحل فنية تأخرت (الهوامش) عنها.

هنا السخرية تصير نوعاً من الطقس الحزين الذي يفضح صلاة كانت. من أجل صلاة جديدة. لقد اختصر الشاعر هنا تاريخاً عميقاً من القمع والجوع. فكل كلمة هنا تشتمل على مدلولاتها التاريخية الواقعية. فالإنسان الذي لم يكن يتمتع بالحرية والديمقراطية، هو المطلوب للدفاع عن الوطن. والذي يعرف عمق الإشارة إلى الواقع الاقتصادي، سيكتشف بشاعة الإشارة إلى كلمة (لحم الضمان) / إن أمل هنا يوظف السخرية الشعبية في تفجير الجذور.

الناظر إلى قصيدة دنقل للوهلة الأولى يعتقد ببساطتها البنائية، لكن المتأمل فيها سيكتشف التركيب الإيحائي والعلاقات الجمالية التي لا تزركشهما المبالغات اللغوية. لكن بساطتها تكمن في حساسية خاصة يمتلكها الشاعر تجاه اللغة. لغة بذاكرة غير مقموعة ولا موروثة :
(حين سرت في الشارع الضوضاء
واندفعت سيارة مجنونة السائق
تطلق صوت بوقها الزاعق
في كبد الأشياء :
تفزعت حمامة بيضاء
(كانت على تمثال نهضة مصر
تحلم في استرخاء)
طارت وحطت فوق قبة الجامعة النحاس
لاهثة، تلتقط الأنفاس
وفجأة : دندنت الساعة
ودقت الأجراس
فحلقت في الأفق.. مرتاعة)
عند أمل دنقل تجد المفردات التي لا تتوقع أن تكون بهذا الجمال وهذه الطاقة الشعرية. إنه يتشبث ببساطة المفردة وبشحنها بإيماءات جديدة. كانت الروح الشعبية لديه تتعرض لعذاب الماس في طريق الصقل والبريق. المفردة عنده تلمع وتطلع.

أمل لا يخلق لغة شعرية ساخرة. بل يحول المناخ المفاجئ الذي نعتاده ببساطة لكي يبرق أمامنا بشجن ومرارة ويبدو لا معقولاً. غرابته الساخرة تنبع من العذاب الكبير الذي تجسده المفارقة في الصورة، ومن طاقة المعنى التي تفيض من إطلاق اللغة من إسارها. إنه يدخل اللغة في الحرية :
(أبانا الذي في المباحث. نحن نرعاك. باق لك الجبروت. باق لنا الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت.

تفردت وحدك باليسر. إن اليمين لفي الخسر
أما اليسار ففي العسر. إلا. الذين يماشون
إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة العيون.. فيعيشون.. إلا الذين يشون. وإلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت.
.. الصمت وشمك. والصمت وسمك.
والصمت. أنى التفت - يرون ويسمك.
والصمت
بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين يلف الفراشة.. والعنكبوت.)
/ القراءة. والقراءة. ثم القراءة. تجعل الشعر يصير أكثر جمالاً وتجعله أفقاً لكشف. الشعر الذي لا يدعوك لذلك / ليس كذلك.
في أوائل الستينات عمل أمل دنقل في مصلحة الجمارك بالسويس. ثم الإسكندرية لكنه ترك الوظيفة. انغمس أكثر في الشعر. (لم أعرف لي عملاً أو مهنة غير الشعر. لم أصلح في وظيفة. ولم أنفع في عمل آخر. وأخشى أن أتهم باستخدام الكلمات الكبيرة إذا قلت أنني كنت راهباً في محراب الشعر وحده. ولقد اكتشفت الآن أن الفن والأدب على إطلاقهما لا يقبلان بغير هذه الرهبنة.)
أنت لا تستطيع أن تكون موظفاً وكاتباً أو صحفياً وشاعراً. الكتابة موقف متصل.
أن تكون أو لا تكون. تكتب أو لا تكتب.

على نقيض ما يقول به شكسبير وحين طرح علي هذا السؤال، لم أفكر فيه أبداً. ولم أختر الإجابة. فلقد وجدت نفسي منساقاً إلى محراب الشعر. لا أفكر فيما عداه. فلم يكن في شواغلي أن تكون لي وظيفة أو بين أو ثروة. قلت أو كثرت. بل شاغلي أن أعيش لحظة الإيقاع النادرة بين نثر الحياة اليومية وتوتر الشعر).
الآن. أكتشف الآن. وكم تأخر هذا الاكتشاف. فهذا الكلام هو كلامه الأخير قبل ثلاثة أيام من الموت. هل كان عليه أن يدفع سنوات عمره كاملة ليكتشف هذه الحقيقة / يكشفها للعالم ؟
انشغل بأن يعيش لحظة الإيقاع النادرة.

وللدارس أن يكتشف جماليات هذه اللحظة التي امتدت في قصيدة أمل.
البنية الإيقاعية في شعر أمل ليست شكلاً. إنها أحد عناصر حياة المضمون بالذات. الإيقاع هو النسيج الخاص الذي غزله أمل برهافة لا تتيسر إلا لشاعر مبدع. يتميز بحساسية عظيمة تجاه اللغة.
وللدارس أن يكتشف أيضاً أن هذا الشاعر كان مولعاً بالإيقاع وهائماً به. بل يمكن أن نلمس أنه خالق خاص للإيقاع المختلف. وإذا لم يكن قارئ قصيدة أمل على درجة من الحس الموسيقي فإنه سيفقد سر الحيلة الإيقاعية التي تبتكر باستمرار الشاعر بقدرته الفائقة يكاد يمحو حدوداً واقعية بين النثر والوزن. وربما صارت هذه الحدود وهماً. إنه لا يعنى كثيراً بوزن الشعر، لكنه يحتفي بإيقاع الروح. روح الشعر والإنسان معاً. فإذا أنت لم تفهم حيلته الفائقة فسوف تقع في النثر. رغم تكرار القوافي التي تتداعى أحياناً كأنها الأشلاء من جسد يحترق.

(قلت : فليكن الحب في الأرض، لكنه لم يكن !
قلت : فليذب النهر في البحر، والبحر في السحب،
والسحب في الجدب، والجدب في الخصب،
ينبت خبزاً ليسند قلب الجياع، وعشباً لماشية الأرض، ظلاً لمن يتغرب في صحراء الشجن).
ويستطيع أمل دنقل أن يفاجئ القارئ بإيقاعات غير متوقعة، فأحياناً تتلاحق القوافي (جديدة الصياغة) بتداعيات شعورية تحمل القارئ إلى ذروات متدافعة كأنها الصهيل الكثير الذي يسبق شراسة الحرب.
(أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار
كيف حملت العار
ثم مشيت دون أن أقتل نفسي دون أن أنهار.
وأحياناً تتباعد القافية في القصيدة، حتى نكاد لا نلمح لها سوى تردداً واحداً.
كأن نقرأ (الوشاح) في بداية المقطع ونلتقي في آخر المقطع بكلمة (الصباح).
(أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
سقط الموت، وانفرط القلب المسبحة
والدم انساب فوق الوشاح
المنازل أضرحة
والزنازن أضرحة
والمدى.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي : عظمتان.. وجمجمة
وشعاري : الصباح).
أثناء ذلك. نحن لا نتوقع أن تكون هذه القافية (الوشاح / الصباح) بالذات هي عمودي الهيكل الشعري للقصيدة اللذين ينهضان ببنية المناخ العام. ولنا أن نتأمل الجمال الداخلي الذي خلقته القافية الصغيرة المترددة (أضرحة) بإيقاع خاص مختلف.

إن الشاعر لا يبدو أنه يحتفي بالقافية إلى درجة الافتعال إنها ترد أمامه عفو الخاطر. وإذا دخلت الصنعة، فإنها تدخل بشفافية لا تخدش متعتنا الشعرية.
بساطة أمل في شكل قصيدته الفني تنطوي على الجمال الذي لا يتكرر، بمثل هذه العناصر، في تجربة سواه الفنية، إنه نسج وحده حقاً. ويمثل نموذجاً للبساطة المستحيلة.
(في الفندق الذي نزلت فيه قبل عام
شاركني الغرفة
فأغلق الشرفة
وعلق (السترة) فوق المشجب المقام
وعندما رأى كتاب (الحرب والسلام)
بين يدي : أربد وجهه..
ورف جفنه.. رفه
فغالب الرجفة
وقص عن صبية طارحها الغرام
وكان عائداً من الحرب.. بلا وسام
فلم تطق.. ضعفه
ولم يجد - حين صحا -
إلا بقايا الخمر والطعام.
ثم روى حكاية عن الدم الحرام
(.. الصحراء لم تطق رشفه
فظل فيها، يشتكي ربيعه صيفه)
وظل يروي القصص الحزينة الختام
حتى تلاشى وجهه
في سحب الدخان والكلام
وعندما تحشرج الصوت به، وطالت الوقفة
أدرت رأسي عنه.
حتى لا أرى دمعته العفَّه
ومن خلايا جسدي : تفصد الحزن..
وبلل المسام
وحين ظن أنني أنام
رأيته يخلع ساقه الصناعية في الظلام
مصعداً تنهيدة..
قد أحرقت جوفه).

جاء أمل دنقل إذن من صعيد مصر. ليفتح الطريق أمام الجيل الجديد في الشعر المصري بعد عبدالصبور وحجازي. واستطاع بجدارة فنية أن يكون صوتاً خاصاً مختلفاً وقادراً.. منذ (زرقاء اليمامة). كان حراً بما لا يقاس في تجربته الفنية. وهذا ناتج في تقديري من حريته الفكرية فهو لم يقع تحت وطأة المنظورات السياسية الجاهزة في الفن. فهو الشاعر الوحيد الذي كان يستطيع أن يقول في أجمل قصائده وأكثرها جرأة :
لا تحلموا بعالم سعيد
فبعد كل قيصر يموت
قيصر جديد
(زرقاء اليمامة)
هذه الفكرة الفاجعة تتطلب جرأة كبيرة لتواجه مهرجانات الأمل الكاذب الذي أقيم لينتشل الانسان العربي من هزائمه التي لم تكن حزيران آخرها. وفي مصر بالذات يشكل إطلاق هذه الفكرة موقفاً مرشحاً لتهمة اليأس. والشاعر التقدمي - حسب النظرة السائدة - ليس له أن يكون يائساً. غير مصرح له بالشعور باليأس. أعتقد أن الشاعر الجزائري محمد حديبي الذي قال مرة (قليل من اليأس يجب أن يضاف إلى القصيدة) /.

أمل دنقل كان يائساً كل هذا اليأس الخلاق. كان يائساً بصدق ولم يكن مستعداً لخيانة شعوره في تلك اللحظة التاريخية.
كان إنسانا خلاقاً. مادام اليأس شعوراً طبيعياً، فمن المتوقع أن يمر به الانسان، تماماً مثلما يمر بلحظات الأمل.

أن يكتب الشاعر يأسه، يعني أنه يواجه تجربته بصراحة الشعر وقدرته على نفي اليأس، فبمجرد أن يكتب
الشاعر القصيدة فانه ليس معرضاً للوقوع ضحية لليأس. وأمل دنقل بالذات، وهو المأخوذ بحلم الانسان، كان جديراً بمصارعة اليأس طوال حياته، لكن دون أن يسقط في مستنقع الأمل الكاذب.
(قلت لكم مراراً
أن الطوابير التي تمر في استعراض
عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهاراً)
لا تصنع انتصاراً
إن المدافع التي تضوي على الحدود في الصحارى لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء
إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهاراً
تقتلنا، وتقتل الصغارا
قلت لكم
لكنكم.. لم تسمعوا هذا العبث
ففاضت النار على المخيمات
وفاضت الجثث
وفاضت الخوذات والمدرعات).
في خريف،1976 ذهبت صحفية من القسم الثقافي بجريدة (الأخبار) لتجري حواراً مع أمل دنقل، في مقره الدائم بمقهى ريش. وكان هذا اللقاء ولادة الحب الذي تحول سريعاً إلى خطوبة وزواج عام 78. كانت الصحفية هي عبلة الرويني.

ولأن الشاعر لم يكن يملك سكناً للزواج، ولا مالا ليهيئ هذا السكن، فأقام مع عروسه في غرفة بفندق بشارع 26 يوليو منذ بداية عام 1979.

ولد أمل بعيب في إحدى خصيتيه، وفي سن التاسعة أجريت له عملية جراحية في محافظة قنا. ويبدو أن العملية كانت فاشلة وفي هذه الحالات، إذا لم تنشط الخصية المريضة فإن المريض معرض للإصابة بالسرطان في سن الأربعين. وهذا بالضبط ما حدث. فمنذ ثلاث سنوات بدأ السرطان يهاجم أمل فدخل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك نقوداً لمثل هذا العلاج الباهظ /
(أيها السادة : لم يبق اختيار
سقط المهر من الإعياء
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف..
وفي الظهر الجدار)
فكتب يوسف إدريس مقالاً يطالب الدولة بعلاج الشاعر على نفقتها وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمحبين في أماكن عديدة من البلاد العربية. وعندما تعهدت الدولة بالعلاج. طلب أمل من الأصدقاء التوقف عن حملة المساعدة. لكنها لم تتوقف. كان لا يريد أن يشغل الناس بمرضه. إلى أن /
(لقد توقف العلاج، وهذا يعني أن القارب قد وصل إلى الشاطئ الآخر. أو قارب على الوصول. وأنا الآن لا أحب أن أتحدث عن مرضي، فهو قضية شخصية يجب ألا تشغل أحداً سواي)
وبعد ثلاثة أيام.. وصل القارب إلى الشاطئ الآخر. فقد /
(كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض
الملاءات
لون الأسرة
أربطة الشاش والقطن
قرص النوم
أنبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن
فلماذا إذا مت
يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد
هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن).

حتى إذا مات. كمن يدخل باباً انتظر عنده طويلاً بعذاب. يدخله بهدوء. ولا نكاد نعرف من الذي ارتاح من هذا الدخول. هل الشاعر من الموت / أم الموت من الشاعر :
(كان أمل جميلاً حتى في الموت. كان أصدقاؤه يقولون له تحمل يا أمل الألم. قاومه. وكان يرد : أنا لا أملك إلا أن أقاوم. كان يقول لي : أنا لا أخاف الموت لكن أخاف العجز. عندما عجز أمل عن الحركة قبل وفاته بثلاثة أيام، وأصيب بشلل في كل جسمه، أدركت أنه قد مات. طوال فترة مرضه لم يتخل عن دعابته وسخريته مع أصدقائه الذين كانوا يزورونه. والذين لم يفارقونه في الفترة الأخيرة. عبدالرحمن الأبنودي. الدكتور جابر عصفور. الدكتور عبدالمحسن طه بدر. فاروق شوشة. كان يوصيهم أن يتماسكوا ساعة الموت. إن أمل إن كان قد عاش طوال السنة الأخيرة فهذا بسبب حب الناس له)
(الزوجة)
/ (آه.. سيدتي المسبله
آه.. سيدة الصمت واللفتات الودود
لم يكن داخل الشقة المقفلة
غير قط وحيد
...
آه.. سيدة الصمت والكلمات الشرود
آه.. أيتها الأرملة) /
(وقبل حوالي ثلاثة أشهر أدرك بشفافيته أن أيامه معدودة فقال لزوجته ولي سيناريو كامل لما يريد بعد وفاته. قال كل ماله وما عليه. طلب أن يدفن أمام مقبرة أبيه في قريته. وعندما ذهبنا لدفنه وجدنا (مصلى) في المكان الذي حدده فاستأذنا وحفرنا له فيها قبره. لقد صعقت وأنا أشاهد جسده عندما غسلناه بعد وفاته. كان جسداً متحللاً. كيف عاش هذا تحت هذا الجسد ؟ أليست معجزة.).
(عبدالرحمن الأبنودي)
أعرف أن العالم في قلبي مات
لكن حين يكف المذياع.. وتنغلق الحجرات
أنبش قلبي، أخرج هذا الجسد الشمعي وأسحبه فوق سرير الآلام
أفتح فمه، أسقيه نبيذ الرغبة
فلعل شعاعاً ينبض في الأطراف الباردة الصلبة
لكن.. تتفتت بشرته في كفي
لا يتبقى منه.. سوى جمجمة.. وعظام).
الشاعر محمد الماغوط قال لبدر شاكر السياب بعد موته : (تشبث بموتك أيها المغفل).
الآن / أمل دنقل كان طوال السنوات الأخيرة يتشبث بحياة أرحم منها الموت، ولم يكن مغفلاً.
بين السياب وأمل لم يتغير الحال العربي كثيراً. تفسخ أكثر. انهار أكثر. ولم يبق سوى أن يموت لنا أمل. صار الإنسان (الشاعر خاصة) أكثر هامشية من حذاء المشروع العربي. وغم ذلك كان أمل شجاعاً أكثر من السياب.
الذي يقرأ الشعر يعرف / سيعرف ذلك جيداً.
إن ضعف السياب كان نابعاً من عذاب الأرجوحة التي وجد نفسه فيها. فقد انغمس السياب في أرجوحة السياسة العربية ففقد حريته الخاصة. صادرت السياسة حرية الشاعر الداخلية. تأرجح بعذاب كبير قبل المرض. تبع هذه المنظومة الفكرية حيناً، وتلك المنظومة الفكرية حيناً آخر.
عذاب الأرجوحة هذا هو الذي أفسد (يفسد) قدرة الشاعر على التمتع بحريته الداخلية، وأدخله في المأزق.
أمل دنقل ظل طوال الوقت يخوض / يجتاز السياسة العربية بساقين طويلتين. يرى إلى السياسة بنظرة الطائر الذي يكتشف الواقع بسيطرة القادر. ويملك حريته في نفس الوقت. حريته في الطيران عابراً فسحة الأفق الأوسع من السياسة. وكانت حيلته جميلة وقادرة :
(حاربت في حربهما
وعندما رأيت كلا منهما.. متهماً
خلعت كلا منهما
كي يسترد المؤمنون الرأي والبيعة
لكنهم لم يدركوا الخدعة)
هذا هو الفرق بين عذاب الحرية لدى أمل، وبين عذاب الأرجوحة لدى السياب.
عذابان هيئا للشعر العربي الحديث تجربتين من أجمل التجارب الشعرية المعاصرة، ومن أكثرها صدقاً وأصالة.

السياب ودنقل قتلهما المرض. لكن الأول عانى من عذاب الأرجوحة أكثر من عذاب المرض. وعانى الثاني من عذاب المرض أكثر من عذاب الأرجوحة. ويمكننا اعتبار هاتين التجربتين صورة تجسد محنة الشاعر العربي المعاصر. وتفضحها في نفس الوقت.
(الشاعر له وظيفة اجتماعية أساساً. لابد له من موقف اجتماعي. الموقف السياسي تال لذلك. الموقف الاجتماعي الأشمل من قضايا المجتمع وقضايا العصر الذي نعيش فيه.
وليس معنى هذا الموقف أن يصدر الشاعر عن حماس تبريري أجوف للأحداث المؤقتة والعابرة، حتى ولو كانت أحداثاً كبيرة. وكل الشعر الذي ظهر وتبنى شعارات سياسية زاعقة بشكل مباشر هو شعر انتهى من ديوان العرب بعد أن كنسته الأيام. كذلك أكثر الشعر الذي ينشر في أغلب الأحيان. ونجده مجرد ترجمة لمانشيتات الصحف، كتلك القصائد التي تكتب عن المشروعات العمرانية، أو دخان المصانع. أو الإنجازات الوطنية. هذا كله ليس شعراً، حتى وان حمل كل مقومات الشعر. إنه شعر ساذج لا يبقى لأنه شعر ترديدي موقوف بالمناسبة التي قيلت فيه. إذ الشاعر هنا ليس أكثر من ناظم، أو حرفي، يعيد صياغة أفكار جاهزة.
وليست تلك وظيفة الشعر أو الشاعر. إن الشاعر يطمح إلى ما هو أبعد من الواقع حتى لو كان الواقع الذي يعيشه الشاعر رائعاً وجميلاً. فإنه يطمح إلى الواقع - المثال. الأكثر روعة وجمالا.
من ها فإن الشاعر يطمح إلى تحقيق المعادلة المستحيلة تلك التي يريد فيها أن يجعل الواقع شعراً، والشعر واقعاً. ولكن الواقع دائماً وأبداً لا يسعف الشاعر بهذه الصورة. ولهذا يجد الشاعر نفسه منحازاً إلى الحلم ضد الواقع).

(الشاعر في الأسبوع الأخير)
جاء من صعيد الأرض. كتب شعراً جميلاً كثيراً، ومات. في حياته طبع كل شعره خارج بلاده، بعد وفاته، ومن خلالها سيطبع شعره في بلاده.
لقد مات. لذلك فهو الآن يستحق التكريم.
لكن / ينبغي أن نتشبث بآمالنا.. فإن أمل دنقل قد مات.*

مجلة (الدوحة) - قطر

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى