يكتب كأنه هو
نعيم عاشور
(كان الكلام يقول لي كأنه أنا).
بشكل ما، تختصر هذه الجملة - التي وردت في الكتاب الأخير لنعيم عاشور - جانباً مهماً من التجربة التعبيرية التي يقترحها علينا نعيم نفسه. ففي كتابته عناصر عدة تثير التساؤل من بينها (وربما كانت أبرزها) علاقته باللغة.
وبالتالي شكل تعبيره.. فنياً.
يكتب نعيم عاشور تجاربه بصمت، وينشرها بهدوء، هدوء لا يتناسب مع الاحتدام الذي تكتظ به الكتابة نفسها، كتابته. فعندما يصوغ نصه يبدو تبادل الأدوار بين حالات الكتابة وحالات الحياة، لنحصل على تجربة أدبية مشغولة بالبحث. ولا أعرف لماذا يصر نعيم على تسمية ما يكتبه قصصاً / قصصاً قصيرة فحسب ؟ فمن الصعوبة أن أعتبر معظم نصوصه (في كتاب ذاكرة الماء خاصة) قصصاً خالصة، وهذه هي الإشكالية التي أريد الإشارة إليها في هذه الوقفة.
ربما لأنها إشكالية تتصل بمختبر التجريب الذي (لا نريد له أن يتوقف) في الكتابة العربية الراهنة. ونعيم عاشور منذ أن بدأ تجاربه الأولى في بداية السبعينات لم يكن بعيداً عن هذا المختبر، معرفياً، فقد كان من بين أكثر الشباب الذين ظلوا يحاورون التجريب بقدر ملحوظ من الحذر والتردد، وأحياناً الشك في (جدواه) التعبيرية، موضوعياً. وكان لتردده وشكه مبرراً رؤيوياً آنذاك، حيث كان الجميع يصدر عن مفهوم واقعي (غائي)، يتطلب منظوره أن يكون للأدب جدوى ملموسة، ومردوداً وظائفياً واضح المعطيات (وعظ، إعلام، توصيل). في حين أن الأفق الذي تذهب إليه ورشة التجريب الأدبية (باعتبارها ضرباً من تشغيل المخيلة البشرية اللانهائية) لا يمكن أن يكون (واضحاً) بالمعنى الذي تعنيه تلك اللغة النقدية الواقعية. وكان للحوار الكامن الذي مارسه نعيم عاشور مبكراً، إشارات أدبية تمثلت في تردد تعبيري أيضاً، جعلت قصصه الأولى تراوح بين واقعية سائدة وبين خدش خجول لعناصر المشهد القصصي بآليات فنية لا تعلن عن نفسها، أو يجري مواراتها (لئلا نقول كبحها) بين القصة والأخرى.
عند نعيم عاشور ظل هاجس التعبير (الممكن والمتاح) في مجابهة مسئولية الكتابة، يمثل تحدياً جديراً، وتيسر له بعد إصدار كتابة الأول (دفء لا وصف له) أن يصفي حسابه تدريجياً مع مفهوم (الجدوى) عبر فترة زمنية طويلة من الصمت الصاخب (إذا صح التعبير) مستغرقاً في لا مبالاة تفرضها أشياء الواقع إزاء الكتابة بشكل عام، لكي يكتشف أن مفهوم (الجدوى) الميكانيكية المباشرة (واقعياً) لفعل الكتابة الإبداعية، لا ينبغي للكاتب أن يعول عليه، إذا أراد أن يظل مخلصاً لتجربته الذاتية، إنسانيا وفنياً، ولكي يكتشف - في الوقت نفسه - أن التحولات الهائلة في الحياة لابد أن تطال عناصر الكتابة، ومن بينها شكل التعبير وحدوده.
والذي كان قريباً من تجربة نعيم عاشور يقدر أن يزعم بأن معاناته التعبيرية لم تكن تقل أهمية وصدقاً عن معاناته الحياتية. فالكتابة بالنسبة له لم تكن في وقت من الأوقات ترفاً استهلاكياً، وإلا كان قد كف عن الكتابة بعد مجموعته الأولى. فهو الكاتب الذي لم يلتفت إليه النقد الأدبي أو حتى التعليق الصحفي طوال كتبه الثلاثة، دون أن يعني هذا شيئاً سلبياً بالنسبة لنعيم، ربما لأنه يجد في ذلك تحقيقاً لعزلة، يعتبرها عنصراً مطلوباً بفعل الكتابة التي تستهويه. ولكي يتاح لنا أن نرقب خروجه البطئ (لكن الواعي) من حدود تجربته الأولى، محتفظاً بتحفظاته وتردده إزاء التجريب، لكن - هذه المرة - دون أن يكون محصناً ضد الاستجابة لحوار - من نوع عميق - مع آليات هذا التجريب، ليصبح المكبوت - هذه المرة - حراً في تحول (يعلنه المكتوب ولا يجهر به الكاتب) نحو اختراق تعبيري لما يحاول نعيم عاشور أن يسميه قصة قصيرة، لنرى انحلالاً فنياً للبناء السابق في قصته، وانحيازاً نحو لغة شعرية أنشط مخيلة، مما أشارت إليه تجربته الأولى. وكنا عندما نسأل نعيم : ما هذا الذي تكتبه ؟ كان يداري ارتباكاً محبباً، ويحاول إقناعنا بأنه يستفيد من إخفاق الشعر في قصيدة، لينقذ به كتابة غير مسموح لها بالفشل، وكنا وقتها نقتنع ونقنع :
نقتنع : بأن الكتابة لم تزل عنده هاجساً لجوجاً لا يقر له قرار، وهذا أحد أهم الشروط لتأكيد مصداقية الموهبة وثقافتها.
ونقنع : بما يكتبه، باعتباره نصاً يعبر عن صاحبه، بغض النظر عن طبيعته الفنية. وكنا نؤجل الكلام في مسألة النوع الأدبي الذي يذهب إليه نعيم، فيما هو يعرف الطريق الملكية نحو المجهول، كمستقبل جدير بالمغامرة.
في غفلة من الآخرين، كان نعيم عاشور يكتب، كمن يحاور العالم فيما يحاور ذاته القلقة. وما كان لنا أن نغفل عن طاقة البحث في هذه الكتابة. فمن عادة حوار من هذا النوع أنه يشير أكثر مما ينجز، وهذا ما يجعلنا - في مواجهة كتاب نعيم عاشور الأخير (ذاكرة الماء) نتوقف أمام التصاعد الشعري الذي أصبح يشي بعناصر تجريبية تتطلب احتفاء مزدوجاً :
* / احتفاء من الكاتب، لكي تتاح له إمكانات السيطرة على مادته التعبيرية. والسهر الواعي على صياغة بلوراتها التي باتت على درجة من التفجر، الذي من شأنه (إذا لم يحصل على وعي الأداة) أن يدفع بالتجربة إلى اللاشكل.
فبعد أن انهارت حصون القصة عند نعيم، في معظم نصوصه، يتوجب عليه أن يتعامل مع كتابته بالشكل الذي تستدعيه شروط الأفق الغامض المتاح على آخره للكاتب.
*/ والاحتفاء من قبل القارئ، لأن مواصلة التعامل مع هذه الكتابة باعتبارها قصة فحسب (كما يزعم نعيم) يعد حجراً على الاختراق الذي تتطلع إليه التجارب الآن. فالقارئ لن يجد سوى أطلال لقصة كانت. مما يؤدي إلى ارتباك رؤيوي (وبالتالي نقدي) ليس في صالح تجربة الكاتب. ومن حقنا على نعيم أن يسمح لنا بأن نرى في ما يكتبه اقتراحاً تعبيرياً جديداً. وعليه أن يصوغ لنا جواباً (إبداعيا) على الأسئلة التي تطرحها أمامنا ظاهرة التصاعد الشعري في كتابته، التي بتعبير قديم عن شاعر، قال عنه النقاد، أنه لا يزال يهذي حتى كتب شعراً.. وإلا فكيف لنا أن نتعامل مع المقاطع التالية (كمثال)، التي وردت في مواقع مختلفة من (ذاكرة الماء) :
- / (وحده الباب يداري خجلاً عندما انقضوا جيوشاً من ظلام وحديد.
لم أقل شيئاً ولم أنطق ولكني سمعت الباب يخلع ثوبه، ورأيت الصوت ينهال على الأرض رنيناً وحنيا
قلت هذي لغتي. هاتي نشيدي وهتافي
أنقذيني). ص 53
- / (قال الرمل تعالوا،
رد إله الموج وهو يذوب وئيداً
كيف نجن وأنت منبسط كالحلم الطاغي، تمتص رحيق الروح ولا تسأم ؟ قال الرمل، بل إني في حضرة حلم يغزوني من أقصى البر إلى أقصاه.. أنا ضجر وأتوق إلى ماء البحر يداعبني ويغسلني وينقلني حتى الأعماق ولا أرجع.. أنات الزمن المتطاول ترعبني، ودبيب الأقدام على ذراتي يرهقني، فعلام الدهشة، ياموج البحر تعال وخذني. فأنا عبد للوقت يجئ ويستلب اللحظات ويهجرني.. فيحار اله الموج، يتلفت من خلف زجاج الرمل، يراها واقفة) ص 74.
* / (وأنا أدخل لا أصطاد الموج الفضي يفاجئني السحر المبثوث فأنبث في كل الأرجاء جميلاً كنت وحلواً كالشهد المهراق على سيقان القصب المنصوبة كالرايات تلاحقني الفراشات فأختال وأختار أنام على الطين يحركني ويمزجني بالماء العذب ويغسلني بأنين الخلق). ص 134.
إن هذه المقاطع (وغيرها كثر) ليست شعراً بالمفهوم الرؤيوي الحديث للشعرية فحسب، ولكن أيضاً يلتزم بالوزن التفعيلي، حيث الإيقاع يبدو طاغياً، لكأن الأمر يبدو واعياً بصورة ملفتة، علماً بأن هذه الظاهرة لم تقتصر - عند نعيم - علي هذه المجموعة فحسب، ولكنني صادفتها منذ كتابه السابق (حالات العبء الأول). وهي عادة تحدث في اللحظة الفنية التي يتصاعد فيه الموقف الذاتي، وأرى في هذا أحد معطيات العلاقة المركبة مع اللغة. حيث تتميز تجربة نعيم بعناية ملحوظة باللغة، إلى الحد الذي أشعر بأن هيامه اللغوي يدفعه أحياناً إلى الاستسلام لغواية اللغة، لتصبح هي سيدة المشهد. وربما بفضل هذا الهيام أيضاً، تهيأ لنعيم أن يكتب لنا هذه التجارب الجميلة، لنرى إلى أي حد كان صادقاً مع تجربته، عندما قال :
ـ( لم أكن أسمع، كنت أرى، لم أكن أرى،
كان الكلام يقول لي كأنه أنا ). ص 34. * 30/9/1989
|