مآلات النص
(كلما اتسع الناس، اتسعت المعاني)
عبدالقادر المازني
تأخذ نصاً.. تقرأه.
يتيح لك هذا النص تشغيل طاقة المخيلة، فتكتشف المعاني، تنهمك في مناخ يحسن الإتصال بتجاربك، تكتب عن هذا النص، فتطرح ما رأيته في هذه القراءة.
يعترض شخص قائلاً : (لقد حمّلت النص أكثر مما يحتمل).
لكن،
كيف ينبغي أن أعرف حدود احتمالات هذا النص ؟! ولماذا ينبغي أصلاً أن تكون لنصٍ ما حدود لا يجوز للقارئ أن يتجاوزها؟! النص الأدبي، يكتسب طاقته الإبداعية من قدرته على فتح الآفاق أمام مخيلة القارئ، ومجاراة أعماقه. النص (الجديد خاصة) لا يطرح على القارئ خبراً أو موضوعاً واحداً محفوفاً بالحدود، إنه يقترح عليه ما لا يقاس من الاحتمالات في صور فنية تعبيرية تستفز طاقة الخيال لديه. النص هو شبكة لا متناهية من المآلات.
القارئ لا يأتي إلى النص ليكتسب عملاً، إنما ليشارك في تجربة شعورية تقوم على المخيلة. وهذا يتيح للقارئ حرية الاكتشاف، بمعنى حرية القراءة. فما دام النص قادراً على احتمال المعنى، فليس أمام القارئ سوى الاستجابة لهذه الإمكانية، والاستغراق في هذه الغواية. فالكتابة ضرب من الغواية التي لا حدود لها.
لكل قارئ بعد ذلك أن يصل إلى المعاني التي تسعفه خبرته في ارتيادها. آنذاك لا تعود اكتشافات القارئ مبالغة، إنما نوع من القراءة المبدعة، أو ما يسميه النقد الجديد، إعادة تنشيط النص، فحين يلتقي النص قارئا فعالاً يمتلك المخيلة النشطة فسوف يكون (النص) مرشحاً لمزيد من التألق، وعندها لا يعود النص ملكاً للكاتب، بل حقاً مشاعاً لطاقة القراءة، بحيث يغدو عرضة لما لا يقاس من القراءات التي تنطلق من النص، ولا تعود إليه أبداً. لكل قارئ إذاً حريته في الاكتشاف، وعليه كيف يمكن لشخص ما الإفتراض بأن قراءة شخص آخر قد حمّلت النص أكثر مما يحتمل !؟.
ربما دفعنا هذا الاعتراض إلى افتراض أحد أمرين :
- إما أن يكون هذا الشخص قد وصل إلى مستوى معين من الفهم لهذا النص، ولذلك لا يريد لشخص آخر أن يتجاوز حدود هذا المعنى، كي لا يفسد عليه اكتشافه هذا، الصادر عن تقديس للمعنى الواحد في النص، وهو في سلوك كهذا يكشف عن رغبة كامنة لدى قطاع كبير من القراء. أولئك الذين يطلبون المعنى في النص كي يلتهموه مكتفين به، لا كي يحاوروه. مثل هذا النوع من القراء يربكهم أن يكون النص متعدد المستويات، لأنهم اعتادوا المعنى الواحد المنجز سهل الظهور.
- وإما أن الشخص المعترض لم يستطع اكتشاف طرق تسعفه في قراءة هذا النص، وتالياً اصطدم ببنية فنية لا يمتلك أدوات التحاور معها واختراقها.
الجديد دوماً يشكل إرباكاً للمستقر بالنسبة للقارئ (التقليدي)، وسوف يصاب هذا القارئ بالفزع إنْ صادف شخصاً آخر يقول عن قراءته لهذا النص بشكل مغاير، فاكتشاف النص ذاته من قارئ آخر سوف يمثل فضحاً لقصور قارئ ما.
من هنا ستأتي ردة الفعل منطوية على نوع من العسف والخلط معاً :
- العسف / لأن الشخص المعترض لا يقدر على فهم النص بحرية، ولا يريد لسواه أن يفهمه من منظور الحرية، وإذا حدث ذلك، فسوف يعتبر فهمه هذا من باب تحميل النص مالا يحتمل.
- والخلط / لأن الاعتراض ينم عن رغبة مكبوتة لدى نوع من القراء في محاصرة الذات (وربما تحصينها) ضد النصوص الصعبة والغنية التي تستدعي درجة من الخبرة والمعرفة. وتالياً حظر التعامل المغاير على سواهم بشكل يجعلها ممكنة الإختراق والفهم والاستيعاب.
وبمثل هذا النوع من القراء يتاح للتقليد (في مجمل حياتنا) أن يتكرس، ويغدو قانون كل شيء كي يظل ثابتاً، مستقراً، وآمناً.
تقرأ نصاً،
تفهمه،
يعترض شخص لا يقدر أن يفهم،
ولا يسمح لك بذلك أيضاً.
النقد، هو أيضاً، ضحية هذه المعادلات. |