حريّة الهامش
الى الصديق على الشيراوي،
لمناسبة رأفة الهامش)
( 1 )
يجد الغريب حريته في هامش المشهد. ففي الهامش يمكن التشبّث بحرية الغياب عن سلطة المركز بكافة تجلياتها. في المركز تتمثل السلطات. سلطات، تتماهى وتغوي وتغري وتخدّر وتحتال، حيث كل شيء ضرب من السلطة: الأجهزة والقيّم والمفاهيم والرعاية بأنيابها الدافئة والمشاريع المرشّحة لصقل جوخة النظام. ربما لأن سلطة النظام لا ترى في المثقف أكثر من شخصٍ يُفترض فيه أن يُعْجَبَ (على الدوام) بالمشاريع الرسمية ويروّج لها، ويؤمن بها ويعتقد بمشروعيتها وجدارتها وبأنها كاملة الأوصاف لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، ولمجرد ذلك ستتاح له (حرية) التقميش على قفطان هذه المشاريع، شريطة أن يكون هذا التقميش زينة لهذا النظام وليس اكتشاف الفتوق فيه ولا فضح الجسد المتماهي مع كل ما هو متناقض ومتقوّض ومنهار.
وربما يكون أمام الغريب فرصة للنجاة من السطوة المباشرة للأجهزة حين يتسنى له الإحتفاظ بمسافة كافية بينه وبين هذه الأجهزة (وأدواتها). فمن مهمات هذه الأجهزة (والأدوات) أن تقتحم عزلة الكاتب، وتضعه تحت سلطة ضوئها، وتشبّع له غروره، وتؤجج شهوة البروز فيه، وتشحن وقته بالذهب الكالح، لكي يتحوّل مع الوقت مادة دعائية (فاعليته في الغسل تزيد السواد بياضاً)، ويصير، بفعل آلية الأجهزة (والأدوات) جزءاً من ديكور المشهد الرسمي، ويتحوّل عمله ونشاطه (من حيث لا يشعر غالباً، ومن حيث يتبهلل حيناً، أو يذهب راغباً أحياناً) إلى ضرب من الصقل المستمر لجوخة السلطان، حتى يتهرّأ الكاتب وتزداد الجوخة صلفاً وغطرسة.
في المشهد العربي، لا تريد السلطة للفكر والثقافة أن يكونا الرأي النقدي والنزوع الحضاري كفعل حرية، بقدر ما تريد لهما أداء الدور المرسوم سلفاً في سياق المشروع الرسمي، حيث الكاتب كائن مُصادر، مسلوب الحرية، مجرّد من طبيعته النقدية، يرى بغير عينه، ويقول بلسان غيره. وهو، إلى كل ذلك، يظلّ عُرضة للبطش أو الإهمال حال استنفاد دوره واستهلاك صلاحيته، وخصوصاً إذا بدأ في تزيين القفطان وتجميل القذارات، فربما وجدت الأجهزة من يغسل أكثر بياضاً منه. عندها فقط سوف يكتشف كم هي جنّة عتمة الهامش، قياساً إلى جحيمِ ضوءِ المركز الحارق.
( 2 )
في الهامش،
بعيداً عن سطوة الأجهزة وسلطة أدواتها، يعني أن تتخلى عن الكثير من ضرورياتك الشخصية (وهي، في الظروف العادية، أبسط حقوقك).
في الهامش،
أنت مرشح لعزلة عن إيقاع الحياة السائدة ومتطلباتها، وهو أمر ستكون محظوظاً إذا تحقق بخسائر محدودة (كأن لا تذرع الطريق المألوفة بين ذهب المعز وسيفه). ففي العزلة، لك حق الرفض والقبول، في الحدود التي تتيحها لك ملابسات الواقع. فأنت مجبر (مثلا) على إعلان إعجابك بمشاريع المخابز الآلية مادمت ترى في الخبز الشعبي نكهة لا تضاهى. وأنت لست معنياً (مثلأ) بمشاريع إحياء العظام وهي رميم، وخصوصاً إذا كانت تلك المشاريع صادرة عن شهوة إقناع الجثث بالحياة (والتضرع لها لئلا تموت.. كثيرا وإضفاء موهبة الحضارة على منظومات ومفاهيم لم تزل شبيهة بأكثر الممارسات بدائية وتخلفأ وصلافة).
في الهامش،
أنتَ في حلٍ من الموت (سريعاً) بالذبحة القلبية أو الإنتحار، أو الخضوع لوهم الأمل الشائع الذي يجري ترويجه باعتباره الأفق الوحيد أمام الكائن.
في الهامش،
أنت على شفير وَهْم آخر.. وَهْم حرية ترى طقوس مصادرتها، فتحكم الخناق على هامشك كلما نالوا حجراً من حصن حلمك الذي تراه.
( 3 )
في الهامش،
ليست الحرية في أن تغيّر الواقع، لكن في أن لا تسمح للواقع أن يغيرك على هواه.
في الهامش،
الحقيقة شمسك والمستحيل قنديلك الفاتن،لا يسعى إليك أحد، ولا تسعى إلى شيء.
( 4 )
في الهامش،
ما أن تُدعى إلى الكتابة حتى يأخذ منك التوجس مأخذه. تذهب مدججاً بالمحاذير والشروط، لكنك تظلّ عرضة للإختراق، وتكون مذعوراً من كل شيء ومن كل جهة في المشهد، وسوف تشكّل لك هذه الدعوة ذعراً مضاعفاً وخصوصاً عندما تكون ممن لا يحسنون الإمتثال للمفاهيم السائدة في الكتابة، حيث الكتابة نوع من الحياة. فماذا يعني أن تكتبَ نصاً ليس هو مقالاً ولا قصة ولا قصيدة ولا بوحاً ولا../... أعني، ولا ثقة في المنظومات التي تهيمن على كل شيء، كل شيء بلا استثناء، فمن يضمن لك أن دعوة الكتابة هذه لن تفسد عليك عزلتك ونفورك، وأنها لن تجرّدك من الشكّ الدائم الذي تعلنه ضد واقع يسعى الى محوك ومصادرة هامشك الذي تتوهمه... حتى الآن؟!
( 5 )
هامشك أيها الغريب أن ترى في مشروع أملهم الشائع يأساً صراحاً يجري ترويجه مثل خديعة ماثلة.
هامشك أيها الغريب أن ترى في كل أجهزتهم وأدواتهم الشرك وقرينه، لئلا تصاب بغدر الواقع زاعماً أنه الحقيقة.
هامشك أيها الغريب حلمك الزاخر بكائنات الليل الجميلة، مثل وحش الأعماق الأليف، هناك...حيث نكون كلنا صادقين وأبرياء.
( 6 )
ثمة أرواح غريبة لا تحصى، تختار هامشها، متحصّنة بنفسها بما تسميه الحرية، مكتفية من القوت ما يمنع الموت. تنسج كتابتها مثل ناسك يصلي دون أن يعبأ بالآلهة. أرواح شريدة هي، رهيفة البأس، قويّة القلب، تنجو من شهوة السوق، ولا تطالها لوثة الأجهزة...
لهذه الأرواح الغريبة نقول: نَخبُك يا روحنا.
|