الـعـبء
( 1 )
أسنَـدتُـه إلى جذع نخلة. وضعتُ له قليلاً من التمر واللبن. قلتُُ له/ وجلستُ أتأمله وهو يتصل بالطعام. جسدٌ واهنٌ ونحيف، مَـدَّ أصابع معروقة ترتعش كأن البرد/ تناول حبة التمر وغمسها في قصعة اللبن. وبدا عليه تعبٌ كأن السنين/ لم يتمكن من تناول أكثرَ من ثلاث حبات. وحين حاول رفع القصعة ليشربَ، اهتزتْ يداهُ فاندلقَ اللبن وبلّل ثوبه.
حملتُـه على كاهلي ومشيت نحو المدينة.
إنه عبئي. خفيف مثل يقظة النسر ومثقاله من الحديد المسقي، لكنه منهك كمن يختزل تعبَ الناس، متعبٌ مثل صخرة تحمل الجبل. وعندما تفاجئه نوبات سعاله ينثر فلذات كبده في مزيجٍ يجعل الطريق قانياً. يكاد يتلاشى بين يديّ لكنه يتمالك. يقف بي في منعطفٍ ويحاول رسمَ الكلمات في وجهي:
هذا وحل الطريق
هذه رائحة البحر
تلك ذريعة الزمن
أولئك طهاة الفتنة
ارفع النصيحة عن الناس
كل ذلك نقيضٌ
أو....
ويندفع إلى مسرح المجابهات.
أركضُ به في طرقات المدينة. تفتح المخافرُ منافذَها في انتظاره.
أجلسه على حافة الطريق ليشرب. فيمد يده في حركة الشحاذين، يتراكض المارةُ ليضعوا قطعاً صغيرة في الكف المعروقة.
كفه المثقوبة، تُسقط العطايا في الأرض.
ينظر إلى ذلك ويضحك. يربّت على الطين فينشأ العشب فيربيه مثل الأطفال. فيستوقف شحاذين كثيرين، يقول لهم، وهو يشير إلى الأرض:
إنها لكم، شجيرات/ أطفال. فيطيب لهم. يلتفت ناحيتي، فأفهم. أحمله. إنه عبئي.
كيف لهذا الجسد أن يحتمل. يطاردونه في أزقة المدينة. ألهثُ به لئلا يقع، لكنه يقع. دائماً يقع. فيستلمه المدربون. يتناوبون عليه. وأنا جالسٌ أنظر وأنتظر. يمعنون في تعذيب الجسد النحيل النافر. في نهاية النهار يتعبون. وهو متهالك هناك. يؤلمني عذابه. لكنه يرمقني بغضب (لا تعبأ بهم)، فلا أعبأ.
أرثه، وأرثي لهم. لا يوحي بأنه قادر على شيء. فأرفعه بحذر لئلا تتناثر أشلاؤه بين يديّ. أحياناً أنسى شلواً منه على الأرض، فيلفتني لكي أتدارك بقاياه.
أحمله.
هذا العبء.
أسرع به إلى ضفة النهر خارج المدينة. أضعه. أرخيه على الرمل الرطب، فينتفض في هيئة عصفور. أغسل جراحه وأرمم ما أصابه من العطب. وأمسح بمرهم الملح خدوشاً أدمتْ أطرافه. وبقليل من التمر واللبن، تحت النخلة ذاتها، ينتعش الجسدُ ويقدر.
تضيق بنا الوسيعة. جسد استوطنه الوجع وتناوشته الأحلام. لا تتوقف جراحه عن النحيب، يبدو كأنه يغني، عزفه النزيفُ الراعفُ. أطوفُ به المشافي والمصحّات. يعبر غرفَ البنج التي لا تنتهي. تصل إليه مباضع الأطباء.
تميته تحييه.
تميته تحييه،
ثلاثاً.. تسعاً.
يتوزع دمه في قناني المختبرات. وأنا أسحبه من سريرٍ لأدخله في سرير. وحين يصحو من غيمة الألم يضيق بي وبانتظاري عند فراشه. يُطلُ من سريره المتهالك. يصرخ في الحارس: "اذهبْ من هنا لئلا يقتدي بك الممرضون ويمعنون في سلخ الجلد. اذهبْ".
يصدّ جرعة الدواء، ويتماثل مثل طفل يفلت من القماط ويخرج. يستعد للمجابهات وعتمة المخافر وتناوب المدربين، ليصل إلى النهر والنخلة وحبّات التمر وقصعة اللبن، لينتعش، لأحمله، لأثق إنه عبئي. فأثق.
( 2 )
بَـرانِـي وشَحَـذَ عظمةَ قلبي بنحيبه. صريخ مكبوت مثل ليل موحش كثيف العواطف. يأخذني إلى المهالك وهو يشدّ من عزيمتي لئلا أنكسر وأخذل أحلامَـه. أحلامُه أبعدَ من الليل والنهار. ينالني التعبُُ قبله، فأضعه على قارعة الطريق، أباهي به أمام الناس، فتأخذه الغفوةُ لفرط التجربة. يطلع من جسده دخانٌ ورائحةٌ كأن النار تشتعل في عظامه، فيأتي الناسُ يسألون عن المسك الذي يتصاعد من جسده، فيضحك ويبتسم ويتهلل وجهه كأنه أوشكَ على إحكام خديعته. وسرعان ما يتفجّر وجعه...
يضع كفيه على صدغيه كمن يمنع رأسه من الإنفجار. ويقول لي أن شيئاً يشبه الجحيم يمورُ في رأسه، وكلما وضعتُ له الثلجةَ فوق جبهته زاحَها واستدارَ يدفنُ وجهه في أسمالٍ زاهيةٍ يصدُّ بها هواء الطريق عن جراحه. يصدر نحيبه في شهيقٍ شفيفٍ فترتجف روحي معه دون أن يكون لي حول ولا قوة.
يأخذه نومٌ طارئ فينتابه الحلم، عندها لا تعود تبدو لي حدود حياته من موته. شيء يتصاعد في بخارٍ يملأ المكان. شيء يتلاشى في رمادٍ تكتسي به المنعطفات. شيء يتوزع في ملابس المارة يعتبره بعضهم وعثاء السفر، وبعضهم يناله كأوسمةٍ للزّهو والتباهي، وبعضهم يتمسَّحُ بالدّكة التي ابتكرها لشدة مكوثه الطويل في الطريق فيما يتمرّغُ في صخرةٍ ناتئة كمن يأخذ بركته من ضريح.
وهو مثل العبء المقيم، لا يَـتَخَـفَّـفُ من تراثه ولا يمتثل لخطوته التالية. وأكاد أجهش فيما أنظرُ إليه ينتفض ويرتعش ويرتجف ويصيبه التحول، فلا يعرفُ أحدٌ أين حدود الشخص من حدود المكان من حقيقة الوقت. عبءٌ يمتدُ بي ويتصل ولا يكترث ولا يعبأ بوطأته عليّ. عبءٌ مثل هذا لا طاقة لي به. أتضرعه بعد كثير من التعب:
آنَ لك أن ترحمَ روحي وترأف بما تبقى من الجسد.
آن لك أن تأخذ ابنكَ مأخذ الجد. فيأخذ.
|