يصلي غير مكترث بالآلهة
(الى الصديق عبدالقادر عقيل،
يوسف، وأخوتك لا يحصون)
طفل يتدرب على الحلم
(الى حفيدتي أمينة
ذات الأحلام)
( 1 )
عليك أن ترى إلى الطفل نائماً، فيما يرسل ابتسامته الأولى في أسبوعه الثاني من عمره، لكي تعرف معنى الملاك. الملاك ليس بوصفه حلماً ولكن في حقيقته الواقعية الملموسة بين يديك. هذا تحديداً ما يمكن أن توصف به صورة الطفل وهو يتدرب على الإبتسام للمرة الأولى.
كنت أحملق في وجه الطفلة الجديدة وهي نائمة، فإذا بثغرها يفترّ عن ابتسامة شفيفة الغموض. (في تلك اللحظة فقط شعرتُ بأن تعبير " ثغر يفترّ " قد ابتكر خصيصاً للطفل). غموض ابتسامة الأطفال في الأسبوع الأول من شأنه أن يفتح لي فضاء المخيلة البهيجة.
ما معنى أن يبتسم الطفل أثناء نومه؟ أي شيء يجعل طفلاً في أيامه الأولى يرسل هذه الإبتسامة الرائعة بكل معاني كلمة "رائعة"؟. ليس أجمل من طفل يضحك في النوم. كأنه يتدرب على الحياة على طريقته البريئة التي لا ترى في هذا الإكتشاف الجديد (الحياة) إلا الإحتمالات الجميلة. لا، ليس هذا سبب الإبتسام المبكر.
( 2 )
من سنوات بعيدة، يوم كنا نتعرف على أشياء الحياة من خبرة الآباء والأمهات، بزغتْ تلك الفكرة الطريفة الموغلة في الأسطورة، تلك الحكاية التي تتصل بالميثولوجيا أحياناً. إذ أذكر أننا عندما نرى طفلاً يضحك أثناء نومه نستغربُ، فيقول لنا الأهل:
(إنه غزيل الذي يداعب أحلام الطفل فيجعله يضحك).
و(غزيل) تصغير مستظرف لكلمة (غزال). وهو تصغير موحي لا يخلو من دلالة. ففي النشاط الذي يمارسه هذا الملاك مع الطفل يتمثل ما يمكن وصفه (بغزل) الأحلام الأولى للطفل، مما يمنح التسمية جمالاً شفافاً يشحذ المخيلة. وحين نحاول معرفة المزيد عن هذا (الغزيل) لا نصل إلى ما يشبع فضولنا. لقد كانت الأجوبة كلها لديهم هناك، في المخيلة الشعبية التي لا حدود لها. ولا يعرف أسرار الطفولة إلا حياة البدء في المجتمع الإنساني.
لعل الطفل في أيامه الأولى يكون نشاط المخيلة لديه (بوصفها عاطفة ومشاعر) أكثر من نشاط العقل. من هذه الفرضية التي لا أعتقد أنها بعيدة كثيراً عن الحقيقة العلمية، سوف يصوغ لنا الخيال الشعبي أسطورة غاية في الجمال لكي يفسر لنا هذه الابتسامة المبكرة للأطفال. وهي أسطورة ليست بعيدة أبداً عن طبيعة الحياة التي يعيشها إنسان هذه المنطقة.
تقول الحكاية (التي يمكن أن نصادفها - بصيغ مختلفة - في موروث شعوب كثيرة) أن كل طفل يطلع إلى الحياة يولد معه ملاكه الصغير. وسيكون إسم هذا الملاك (غزيل). وكأن هذا الملاك هو من سيأخذ بيد الطفل لكي يدربه على الحياة منذ اللحظة الأولى. وكأن التدرب على الحياة لا يتحقق إلا بهذه المداعبات الغامضة التي تؤدي إلى تصرفات أكثر غموضاً. فالأمر لا يقف عند الإبتسام وحده، فحين نلاحظ الطفل يقطب بملامحه وتعبس تقاطيعه الناعمة ثم يوشك على البكاء أثناء النوم، سيقول لنا الأهل بأن (غزيل) أيضاً من يدفع الطفل إلى البكاء. وفي لحظة واحدة سوف تتحول تقطيبته إلى ابتسامه جميلة تشفّ عن انبساط مفاجئ لا يقل غموضاً عن البكاء المفاجئ. كل ذلك بسبب أن (غزيل) يدرب الطفل على الحياة.
لماذا يحدث كل ذلك لطفل في أيامه الأولى، بالكاد يتعرف على الحياة، وليس من المتوقع أن تكون لديه كوابيس الكبار؟ سيكون لديهم الجواب الذي سيحوّل الحكاية بشكل خاطف إلى ضرب غير متوقع من الدراما الشعبية مشحونة بالدلالة.
( 3 )
يستكمل الأهل الحكاية كي يفسروا لنا ما يدور بين الملاك (غزيل) وبين هذا الكائن الجديد. ففي تلك المداعبات كثير من المفاجآت التي يختبر بها الملاك قدرة الطفل على إدراك ما يدور حوله في هذا العالم الجديد.
تقول بقية الحكاية: أن تحولات مشاعر (أو أحلام) الطفل أثناء نومه ستكون ناتجة مما يهمس به الملاك في أذن الطفل وما يصوره له في أحلامه. فحين يبكي الطفل يكون الملاك قد قال للطفل أن أباكَ قد مات، فيصدق الطفل ذلك فيحزن وتنعقد ملامحه ويشرف على البكاء، ولكن سرعان ما يشفق عليه الملاك ويهمس له ثانية: أن أمك هي التي ماتت، فلا يصدقه الطفل فيعود إلى الإبتسام.
وهنا سوف يربط الخيال الشعبي بالواقع الإجتماعي الذي كان يعيشه أهالي هذه المنطقة من العالم. ففي الأزمان القديمة، وخصوصاً في المجتمع الذي يقوم على العمل في البحر، سيكون الرجال في معظم أيام السنة غائبين في الغوص أو السفر بعيداً عن عائلاتهم. ومن الطبيعي أن يولد الكثير من الأطفال أثناء غياب آبائهم. وليس سهلاً أن يولد طفل في غياب والده. فثمة حالة نفسية كانت تسود الأطفال أثناء نشأتهم المبكرة، أو حتى فيما يكبرون حيث يتكرر غياب الآباء كل عام، مما يجعل الغياب قانوناً سائداً في حياة المجتمع، وهو غياب مشوب بحالات الخطر والفقد. وهذا الواقع سيصوغ دائماً الحكايات التي تفسر بعض الظواهر الإجتماعية والنفسية والأخلاقية.
( 4 )
يواصل الأهل تفسير السلوك الغامض والجميل الذي يجعل الطفل ينتقل من حالة البكاء إلى حالة الإبتسام والضحك أثناء النوم. تقول الحكاية: عندما يهمس (غزيل) للطفل بأن أباه قد مات، سوف يصدّق الطفل هذا الزعم كما لو أنه حقيقة واقعة لسبب معقول وهو أنه لا يرى والده معه في البيت (بسبب غيابه في البحر)، فيبكي لهذا الفقد مصدقاً همس (الغزيل). ولكن عندما يعود فيهمس له بأن أمه هي التي قد ماتت، لا يصدّقه الطفل لكونه ينام في حضنها، مما يجعل ذلك الزعم باطلاً.
وهكذا سوف يواصل الملاك مداعبة الطفل بمثل هذه المزاعم التي تدرب الأطفال على المشاعر المختلفة، في حين أن الحقيقة تكمن في التدريب الواقعي على النشوء في حياة قاسية أقل ما فيها سيكون ذلك الغياب الطويل للأب.
غير أن الجانب المشوّق في هذه الحكاية يكمن في أن ثمة علاقة حميمة بين الأطفال وبين النموذج الخيالي للملاك. فأنت لكي تتأكد من المعنى الجميل للملاك، عليك أن ترقب طفلاً يفتر ثغره عن الإبتسامة الأولى فيما يكون مستغرقاً في النوم. وعليك بعد ذلك أن تحاول معرفة المسافة بين ذلك الملاك الغامض المدعو (غزيل) وبين الأطفال.
|