استعدّوا، الماضي قادم
( 1 )
في معرض كلامه عن النكسة الفكرية التي حدثت في العالم العربي خلال ربع القرن الأخير، والتي جعلتنا نعود إلى مناقشة أمور كنا نتصور أننا حسمناها وتجاوزناها منذ عشرات السنين، تحدث الدكتور فؤاد زكريا عن (أصحاب المواقف المتفتحة والمستنيرة - الذين تراجعوا ويتراجعون- خطوة بعد خطوة، إلى حد أنهم الآن أصبحوا داخلين في اللعبة التي فرضها عليهم الطرف الآخر، ويتحدثون بمثل منطقه ويلعبون في ملعبه).
ويجوز لمفكر مثل فؤاد زكريا أن يشعر بالخسارة الفادحة في هذا المجال، فهو أحد أبرز المفكرين العرب الذين أسّسوا وساهموا في وضع العلامات العربية الجديدة لفكر يتصل بالمعرفة والحياة في آن. إن كان على الصعيد الأكاديمي (الحر) أو على صعيد الحوار الفكري الحضاري الميداني المتصل بحركة المجتمع العربي في تجلياته العملية كممارسة نضالية. فمن يبذل حياته في سبيل غرس الشجرة ويرويها برحيق حياته لا يسعه إلا أن يصاب بالفجيعة عندما يرى تلك الشجرة وهي تجف و تفسد وتصير إلى الرماد، وتأكل فيها الأدوات، كأن الأحلام كلها كانت محض كابوس ليس أكثر.
( 2 )
ليس الأمر أن نهجو الفكر والثقافة، فهذا لا يتصل بطبيعة الأشياء الإنسانية. فالإنسان، باعتباره فعل حرية، هو من يصوغ أشكال التفكير وأدوات النظر والعمل، دون أن يقع ضحية وهم اعتبار هذه الأشكال والأدوات بديلة لعقله ومواهبه. ونريد أن نؤمن (ونصدق ) بأن التحولات الفكرية التي يتعرض لها مناخ المفكرين العرب هي ضربٌ من إعادة النظر في تلك الأدوات والمنظورات التي تظل عرضة دوماً للفشل أوالنجاح في ضوء عمل الإنسان وممارسته.
أقول، نريد أن نصدق ذلك، لأن الفرق كبير بين أن يغيّر الشخص طريقته في النظر إلى أشياء الحياة من حوله، وبين أن يغير المبادئ الأساسية التي تتصل بطبيعته الإنسانية ومواقفه من القضايا الكبرى في الحياة. فلو أن العقل العربي لم يتعامل مع الأفكار والمعتقدات تعاملاً غيبياً، دينياً، لما استبدل الكثيرون العلم بالدين، أو انتعشت لعبة تبادل الأدوار الفكرية اللاعقلانية، ولكان في إمكاننا الآن أن ندرك بأن المفكر الذي (سبق أن اعتقد) بالماركسية (مثلاً) طوال ثلاثين عاماً أو أكثر، لن يؤدي اكتشافه لخلل ما في تحليل هذه النظرية إلى إلغاء اللوم عليها، مبرئاً نفسه من الخطأ منتقلاً، برشاقة القرد، إلى نوع آخر من المعتقدات لكي يواصل الطريقة (الغيبية) ذاتها في تعاطي أشياء الحياة والواقع.
أكثر من ذلك سوف نصادف من يلوم الحياة والواقع لأنهما لم يستجيبا لتحليل نظريته طوال تلك السنوات، وتالياً سوف يلجأ إلى البحث عن حلول (جاهزة) في تلافيف معتقدات أخرى، وليست مصادفة أن يكون الفكر الديني، هو المتاح في المناخ العربي الراهن. وبما أن الفكر الديني ليس غريباً عن العقل العربي منذ أصول التأسيس الأولى، فإن الكلام المعاصر (بأدواته النظرية الحديثة) عن الفكر والممارسة الدينيتين الآن من شأنه أن يطرح علينا تساؤلاً عن المأزق البنيوي للعقل العربي من حيث تعاطيه مع عملية الفكر والتفكير من الوجهة التقنية.
ومادام إيمان الشخص بالمعتقدات العلمية إيماناً دينياً، يقوم على الغيب والإتكالية الخالصة، كما لو أن هذه النظرية أو تلك الأيديولوجيا هي العصا السحرية/المعجزة، التي سوف تفعل فعلها في تغيير الواقع، فإن الفرق سيظلّ ضئيلاً بين جميع المعتقدات التي يلجأ إليها الأشخاص، ولن تكون ثمة فروق جوهرية بينها، مادامت الطاقة الذاتية لدى الشخص غائبة. والفشل الذي يمكن أن تصادفه هذه المعتقدات هو فشل يتصل بطريقة النظر التي تعاطت مع هذه المعتقدات. من جهة أخرى ينبغي أن يظل الإيمان الإنساني صادراً عن حركة الحياة والواقع وأن لا يقتصر على تلك الأدوات التي هي ضرب من الإجتهاد البشري المعرّض لكل الاحتمالات.
( 3 )
عناصر الحياة المكونة لحركة الواقع، منذ نشوء الخليقة، تظل هي هي، تتفاوت في الدرجة لكنها لا تختلف في النوع. فأن يفشل التحليل الماركسي في اكتشاف حلولاً ناجزة لمسألة مثل الصراع الطبقي (مثلاً) فإن هذا لا يعني بالطبع انعدام هذا الصراع في الواقع أو تجاوزه في التعاطي مع منظورات أيديولوجية أخرى. بل ان التحولات العميقة في بنية المجتمع (العربي مثلاً) قد تؤدي إلى أشكال وتجليات متغيرة في طبقات المجتمع وشرائحه، لكن من المؤكد بأن جوهر الصراع يبقى مكوناً أساسياً في حياتنا.
وإذا استطاعت القوى المهيمنة على تمويه هذا الصراع وتغييبه أو طمسه بأشكال اقتصادية أو سياسية عديدة، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تعقيد المهمات التي تصدّى لها الفكر الماركسي، لكن من المستبعد أن نستجيب لذلك التمويه المنظم أو نخضع للمقولات التي تنفي ذلك الصراع لتحرّفه نحو نزوع يكرّس الواقع باعتباره حلاً متاحاً يتوجب علينا التعاطي معه، بحجة أن فشل التحليل السابق هو نفي لوجود المسألة .
وعندما يتحول الشخص من هذا الفكر (الماركسي مثلاً) إلى فكر آخر (الديني مثلاً) لن يكون الأمر مفاجئاً مادام لا يتجاوز استبدال إيمان غيبي إعجازي بإيمان مثيل له بلغة ودلالات أخرى. ففي الحالين سوف يظل الإنسان في ذاته غائباً (أو مغيباً). لكننا سنظل نبحث، في خضم كل هذه المتحولات عن الجوهر الإنساني الذي يحرّك فعل الحرية، وهو المبدأ الذي يصدر عنه هذا الشخص أو ذاك. هذا المبدأ من شأنه أن يكون الحد الفاصل بين القوى المتصارعة في المجتمع البشري، صراعاً يختصر لنا، بوضوح (ينبغي أن يكون حاسماً) حدود الحيوان في الوحش. فالتماهي (كثير التعقيد) الذي تسعى القوى المهيمنة لتكريسه بين القاتل والضحية في الواقع، لا يجوز أن ينطلي علينا كأشخاص عاديين، فكيف لنا أن نقبل فكرة انطلائه على مفكرين يحترفون فعل الحرية في التعاطي المعرفي.
المشكل الذي يفتك بنا (ثقافياً) يتمثل الآن في التحولات المعتقدية التي (ينتقل إليها، ويتنقّل بينها) أشخاصٌ كثيرون في اللحظة العربية الراهنة. هذا التنقل الذي يبدو كما لو أنه سلوك سياحي، يؤدي بنا إلى رصد العديد من النكوص نحو الفكر الديني، مما يفضح المأزق البنيوي الذي يتخبط فيه مفكرونا بالدرجة الأولى، ليس لأن الفكر الديني تجربة حاضرة سبقت هذه التحولات الخفيفة فحسب، ولكن لأن التحدي الذي يتجاوز الأشخاص كأفراد، هو تحد يتصل بالموقف من الماضي والحاضر والمستقبل، تحد يكمن في كيفية الاتصال بهذه المكونات الثلاثية البعد.
فهل نحد مخلوقات تذهب إلى المستقبل بحجة الماضي، أم أننا نستعيد الماضي بحجة الحاضر؟
(يوليو 1986)
|