صديق مثل هذا
فاجأني، وهو يرفع ياقة قميصه المجعّد، ويتمتم بكلمات سريعة ونزقة:
- المرض أكثر رحمة من الكلام السائد عن الديمقراطية في هذه الأقاليم.
وتخابثت محاولاً أن اختلف معه على سبيل التجاوب مع استفزاز مرصود:
- لكن من السهولة معالجة الجدري في هذه الأيام، إن تطور الطب لا حدود له.
فانتهرني، كمن أدرك الشرك الذي أنصبه:
- عليك أن لا تثق كثيراً في الطب هذه المرة، فالديمقراطية السائدة مرض يصيب النطاسين باليأس سريعاً، أنه العضال الأعظم.
وتريثتُ قبل أن أفتح له الطريق.
لم يكن يصدر عن نية المشاكسة، إنه مسخوط بالسأم فحسب، ولا أمتاز عنه سوى بشهوة السخرية التي اكتشفتُ رحابتها في العقد الأخير من العسف الماضي. اعتدلتُ على المقعد الذي أخذ يرسل صريراً كلما نويتُ الكلام، كمن يود أن ينصحني بعدم التورط في الثرثرة، لكنني رحت أتغافل عنه في كل مرة، معتبراً صريره سلاماً وطنياً يسبق تصريحاتي ويعلن ختامها. أرسلت تنهيدة عميقة قبل أن أقول لصاحبي:
- لكنهم يحسنون إعادة إنتاج الأمر كلما طاب لهم أن تبدو الديمقراطية على النمط الذي يروق لمزاجهم السياسي.
فزع في وجهي، كمن صعق بتوغلي في مشاكسة غير معلنة:
- هل تريد أن تعرف الحقيقة، إنهم لا يفعلون شيئاً سوى تلفيق تلك الحقيقة، دون أن يتاح للآخرين أن يقولوا لهم، يجب أن يكفوا عن ذلك.
حاولتُ أن أكتم ابتسامتي دون فائدة، إنه يذهب الى الفضيحة مباشرة، لقد سئمَ مناظرات السنوات الأخيرة.
صديق مثل هذا لن يكون ممتعاً في ليالي السهر، ولا يحسن النزهة. صديق مثل هذا يمقت الأحاديث الصحفية التي تصوغ المظاهر الإجتماعية منذ زمن، حتى أنه يتعمّد أن يرتدي كل قمصانه دون أن تمرّ على مكواة، إنه لا يدع أي مجال لإعطاء انطباع باستعداده لأي سلوك اجتماعي يساعد على المجاملات.
صديق مثل هذا ليس سهلاً التفريط به، إنه يحميك من خطر الدعوات والزيارات وحضور الندوات وإبداء الإعجاب (بالقصيدة) ذاتها لشخص يعتقد أنه شاعر.
صديق مثل هذا لن يصدق أي مشروع ديمقراطي على النمط الذي تحاول أجهزة الإعلام العربية قاطبة تجريعه لشعبٍ لم يعد كذلك. صديق مثل هذا، لن يكون عوناً لمشروع ديمقراطي (آخر) يتضرع للسلطة راكعاً في حضرة جثمان التراث الكثيف من التضحيات. صديق مثل هذا.. لا يصلح لواقع مثل هذا.
مرة،
فيما كان يتأمل الناس وهي تلهث في بازار العرب، قال:
- في مجتمع استهلاكي مثل هذا، لكي تستطيع أن تشتري كل شيء، يتوجب عليك أن تكون مستعداً لبيع كل شيء.
كيف يمكن أن تتفادى صديقاً مثل هذا دون الشعور بالفقد؟
|