النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

هندسة العسف الماثل

( 1 )

كلما طفح عسفُ التقليد على الصعيد الثقافي، تحسستُ موضع التفكير في الروح. أقول (طفح)، لكي أعني بأن العسف اليومي، الذي أوشك الجميع على إدمانه، بات قادراً على إيهامنا بأنه مألوف الحال في حياتنا، إلى درجة يمكن معها لبعضنا أن يستنجد به لكي يصدّ (معنا) عسفاً آخر يبالغ قليلاً، في بعض الأحيان، لنغدو معه كأننا ضحية مزدوجة تقبل (قانعة) بعسف أقل.

( 2 )

ثمة شعور يخالجني، بأن المبالغات التي يمارسها عسفُ التقليد على الصعيد الثقافي، غالباً ما تكون ذريعة وحجاباً لعسف آخر في مكان آخر يشكل خطورة أكبر على حياتنا. مبالغات تكون ذريعة توظفها أجهزة حكم التخلف اليومي لكي تكرّس سطوتها في مجالين:

أولاً، على الأرواح الحالمة بالمستقبل، لكونها تفضح (بآلية التقدم البشري المشروع) الواقع الإنساني في ظل التخلف الإجتماعي، مستغلةً عسف التقليد لترهيب المستقبل بالماضي. وبهذا تتقمص هذه الأجهزة دوراً حضارياً زائفاً يرى في الحضارة والعمل الثقافي خطراً ماثلاً يتوجب كبحهما، بحجة الخروج على تقاليد المجتمع وأعرافه وأخلاقه (نفاقاً بشعاً لأصحاب الماضي). وسوف تحتمي هذه الأجهزة بذرائع قانونية أو غيرها أقل ما توصف به أنها تحقير للفكر والإبداع، تتمثل في صورة ردة الفعل المفتعلة لعقليات بائدة.

وثانياً، على التقليد المبالغ فيه (أحياناً)، لأن أجهزة العسف اليومي قادرة دوماً على تربية تطرف التقليد وتنميته، ثم إفراغه أو استبداله بتقليد آخر، تريده أقل تطرفاً، سهل القيادة وقابل للإنقياد، بحجة أن ذلك تطرفاً يصدر عن الماضي للتحكم في الحاضر. وهو حاضر يهمها أكثر من المستقبل، سيما وأنها لا ترى في المشهد غير حصتها في سلطة الجمع والمنع.

وسوف لن ترى في احتدام المجابهات، بين الحالمين بالمستقبل والمتشبثين بالماضي، سوى الفجوة الدائمة التي يجب التحكم في درجة تفجرها، لكن دون التسليم بضرورة معالجتها بمزيد من الحرية. فأجهزة العسف اليومي لا ترغب في التنازل عن سلطتها القائمة على هذه الإحتدامات، التي يذهب ضحيتها الآخرون. والآخرون، في مشهدنا، هم ناس الهامش. وتلك ذريعة يحسن القائمون على العسف اليومي هندستها واستغلالها بما يتناسب مع تأكيد حصتهم في الحكم.

( 3 )

وتكون تلك المبالغات، أيضاً، حجاباً لعسف أخطر يجري في مكان آخر، فينتابني القلق غالباً، لأن تلك المبالغات تطفح على السطح، وتساهم أجهزة الإعلام في تضخيمها لتشغل أطراف المشهد العام أمام أنظارنا، وليتم التستر على عسف أكثر خطورة، ربما يتحقق في اللحظة ذاتها، فيما نحن منشغلون عنه بتفاصيل العسف (الطارئ)، ولا نتنبّه إلى ما يمكن أن يحدث هناك، في المكان الآخر، المكان المحجوب عن أبصارنا وإدراكنا اليومي، بفعل الإعلام، (وهو ضرب مركب من العسف).

وترانا ننهمك في العمل على تفادي العسف الطارئ، مستنجدين بكل طاقاتنا وأسلحتنا، التي هي أساساً كانت طوال الوقت معطّلة ومهمّشة ومسكوت عن حقها في النظر والفعل. وفيما يذهب بعضنا في الوهم إلى حد التصديق بأن أجهزة العسف الرسمي يمكن أن تكون معيناً لنا ضد عسف التقليد المبالغ فيه (أحياناً)، يتضاعف الحجاب، الذي هندسته أجهزة العسف الرسمي حولنا، بعد أن أرهبتنا بمجابهات لم نملك فرصاً (متكافئة) من حريات النظر والعمل كي نكون قادرين على تفادي عسفها، والذي هو أصلاً وليد الظواهر التي رباها في حياتنا العسف الرسمي نفسه. فكيف يحدث أن نصدّق بأن من مارس علينا العسف كله طوال الوقت، يمكن أن يكون جديراً وصادقاً في إسعافنا ورفع الظلم عنا؟!

في هذه الأثناء سيتاح لأجهزة العسف الرسمي أن تنجز خطراً هناك، بعيداً عن مداركنا وقد أضحينا في منأى عن حقيقة ما يجري، بوهم أن عسف التقليد الطاغي هو ميدان مجابهاتنا الأول. كما لو أن حقل الثقافة يمكن فصله عن الحقول الأخرى في حياتنا.

( 4 )

لذلك، سوف أتوجس دوماً من المجابهات التي تثور بين وقت وآخر في الحياة العربية الراهنة، تحت عنوان ردة التقليد على الحداثة، في الفن والفكر. فأضع يدي على موضع التفكير في الروح، خشية أن أكون ضحية هندسة الرعب الجهنمية التي لن يكفّ عنها أصحاب العسف اليومي الرسمي، دون اكتراث بمصائر الناس. وكلما بالغ البعض إعلامياً في الأمر لفرز المجابهات بوصفها بين أصحاب المستقبل وأصحاب الماضي، شعرتُ بحاجتنا لمن يطرح الشك في أصحاب الحاضر في هذه المعارك. وأصحاب الحاضر هم، غالباً، مؤسسو العسف اليومي وأصحاب المصلحة في استمراره، بالدرجة التي تكرّس وجودهم وتنفي حق الآخرين في مسائلتهم عن حدود الحق العام.

( 5 )

ليس في هذه الخشية تقليل من خطورة عسف أصحاب التقليد على حقنا في القول والخيال، ولكنني على درجة من الشك في طبيعة المؤسسات المهيمنة بآلية العسف اليومي، بوصفها مسؤولة تاريخياً، وفي العمق، عن هذه النتائج الخطيرة التي تتفاقم في ترف الجهل والمصادرات. فكأن ما يحدث هو (في صورة من الصور) ضربٌ من تبادل التصفيات (والأدوار) السياسية بين شتى الأطراف التي تلعب، إذ يقومون، (فيما يلعبون بنا)، بإنجاز تصفية نذهب نحن ضحيتها. أي أنهم يقدمون على تصفيتنا مضحيين بالمستقبل بحجة الدفاع عن الحاضر.

وليس في الأمر غفلة عن خطورة المستقبل الذي يحاربونه بالماضي، وليس في الأمر استخفاف بما يحدث على الصعيد الثقافي من اقتحام خطير لحريات التعبير. لكن ثمة من يهندس لنا المشهد على هواه، فاسحاً المجال للإعتقاد بأن مصادرة كتاب أو ملاحقة كاتب أو إرهاب مبدع، يمكن أن يشغلنا عن حقنا في محاسبة المسؤول عن القانون الذي يتيح للماضي محاكمة المستقبل. وهو قانون يتجاوز القوانين الوضعية والإعتبارات القضائية. إنه قانون الغاب الذي سيظل قادراً على تكبيل أفراد المجتمع بحدود لامرئية، يتمسك بها أصحاب الحاضر، لمحاربة الجميع، ولتأجيج المزيد من الإحتدامات والمجابهات بين ناس الهامش، متذرعة بالقوانين ذاتها التي وضعت أصلاً لحماية وتكريس الأجهزة والمؤسسات، التي لا ترى في الثقافة غير خطر يتوجب تفاديه، إن لم يمكن نفيه أو قتله. تُرى هل يمكننا أن نرى إلى المشهد من هذه الزاوية، لئلا نبالغ في التوهم بأن خصوم المستقبل هم فقط أصحاب الماضي؟

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى