أن ينساك الله،
على أن يتذكرك الناس

(إلى الصديق جمال محمد فخرو،
اليوم الثامن في الأسبوع)

ديمقراطية الإصغاء

الإصغاء إلى الآخر موهبة يستدعيها الحوار. ولكي تحسن الإسهام الحقيقي في أي حوار، ستحتاج إلى موهبة أكثر حيوية من طاقة الكلام، تلك هي موهبة الصمت والإصغاء. فإذا لم تمتلك هذه الموهبة، لن يتسنى لك الزعم بأنك شاركت بشكل إيجابي في الحوار.

من هذه الشرفة، سأرى إلى مشهد واسع فسيح الأرجاء في السجال الدائر، هنا وهناك، بوصفه حواراً يبالغ في الكلام الجماعي (مثل جوقة فالتة) تنقصه لحظة الإصغاء إلى الآخر. الأمر الذي يرشّح العديد من المشاريع إلى فشل ماثل بسبب غياب مسافة الفهم المشترك المترتبة على كلام متواصل من جميع الأطراف، بلا لحظة إصغاء فعالة تتيح للشخص أن يفهم الآخر، قبل التسرع في طرح الصوت العالي الصادر عن موقف مسبق (يسعى إلى ما أرغب أنا في قوله/ لئلا أقول: في فرضه عليك) فيبطل الجوهر الحضاري لمعنى الحوار، القائم على تبادل الأفكار ونقضها، وليس فرضها.

في الصمت النادر، لحظات احتدام الحوار، سوف تكمن الفرص الذهبية لردم فجوات الخلاف الفادح. أقول صمت الإصغاء، لا لكي أعني البحث عن تفادي الاختلاف، على العكس، إنني أعني أن في الإصغاء طريقاً ملكية لجعل الاختلاف مكتنزاً بالجدوى والفعالية، حيث الاختلاف جمرة الحركة الحيّة لحياتنا. غير أن هذه الجمرة الجميلة سوف تفقد مقدرة التألق إذا لم نوفر لها القدر الأكبر من رصانة الحوار مع ما تنطوي عليه جماليات الإختلاف من غنى وتنوع.

لكن، لا يكفي أن نعلن قبولنا للرأي الآخر، إنما يتوجب أن نبدأ في الإصغاء إليه. فكل كلام عن الديمقراطية وعشقها والولع بها يظل كلاماً إذا نحن بقينا نصدر عن الوهم بأن الحقيقة تكمن في الصوت الأعلى والمتواصل والذي يشغل المكان والزمان معاً. فأنت لن تقدر أن تكون محاوراً فاعلاً ورصيناً ما لم تتأكد وتثبت قدرتك على استخدام أذنيك أكثر من لسانك. وكلما أصغيتَ أكثر، منحتَ محاوريك الثقة باستعدادك لصياغة أفكارك وإعادة صياغتها مراراً على ضوء تبلور معطيات الحوار، ففي إصغائك دلالة على مقدرتك ليس فقط على محاورة غيرك، وإنما أيضاً (وبالضرورة) على تمكنك الحقيقي من محاورة ذاتك، واستعدادك الحيوي لطرح أفكارك قيد المراجعة فيما أنت تكتشف وتستكمل الحقائق مما تسمع، من آراء الآخرين وأفكارهم. فالمحاور العميق هو من يصدر عن ثقة بأن الحقيقة ربما تكمن هناك، في الأطراف الأخرى من الحوار، لأن الشخص، مهما كانت معارفه ومزاعمه لن يكون مصدراً وحيداً للحقيقة.

هذه الحقيقة الحوارية لا نستطيع مجاراتها إلا إذا تمتعنا بموهبة الإصغاء بالصمت العميق اليقظ أثناء الحوار، ويقيني أننا سنحتاج مثل هذه الموهبة دائماً كلما اشتدّت وتيرة السجال واحتدمت الآراء. والحكمة هنا ستعتمد على قدرتنا على الإكتراث بمن يصغي أكثر من بمن يتكلم.

هل قلنا غير مرة، أن الديمقراطية ليست في حرية الضجيج؟! هل نضطر دوماً إلى التأكيد بشدّة على أن الحرية هي ديمقراطية الإصغاء؟