النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

خالد الهاشمي:

ليس سهلاً الأسود .. و الأبيض أيضاً

( 1 )

كيف يضعك خـطٌ أسود (فيما يخترق البياض مثل برق) أمام هاوية المعنى دون أن يكون لك مفرّ ؟! هاوية المعنى هذه، التي ينتخبها لنا خط خالد الهاشمي قليلة الرأفة بنا، ومحفوفة بالمحاذير. فإما أن تكون مستعداً لمغامرة الشك في الواقع، كأنه لم يقع بالشكل الذي يتراءى لنا فيه، أو أن تهيئ نفسك للإنغماس في لعبة لونين، كل منهما يحتال عليك، محاولاً أن يتوارى خلف الآخر، وفي الإحتمالين أنت موشك على تهلكة لا نجاة منها إلا بالتوغل فيها، تلك اللعبة ذات اللونين: الأبيض والأسود.

مبكراً استطاع خالد الهاشمي أن يحرّك فينا (ونحن نطالع أعماله) شهوة الفكر و لذة المخيلة. إنه يحترف فن مداعبة الجراح. و ليس في برنامجه دغدغة الضحك و هدهدة الضاحكين. ثمة فرق، بين شخص لا يرى وشخص لا يعبأ بالرؤية. مثلما لا فرق بن من لا يريد أن يرى وآخر أعمى. إنهما يستويان.. ما لم يقتحم شخص ثالث المشهد لمداعبة الجراح، وإفساد سهرة العميان من كل صنف. هذه هي حيلة خالد الهاشمي في مواجهة / مهاجمة واقع لا يقع دوماً بالشكل الذي يُـراد لنا أن نعتقد به و نؤمن.

الأبيض والأسود.. كل منهما يريد أن يتماهى مع الآخر، حتى لكأننا لا نعود نعرف تماماً أيهما الأسود وأيهما الأبيض. مع خالد هذا ليس سهلاً، حيث الفضاء الغامر في اللوحة ليس بالضرورة هو البياض الذي أهمله الفنان، أو غفل عنه (...أو تغافل)، فيما يحتفي بتدفق الخط الأسود. على العكس أحياناً، فالبياض ربما سيكمن في هذه الكتل والأشكال المتجاورة من الحبر (يحلو لنا أحياناً أن نؤمن بأنه دم القلب).
فها هنا أنت موغل في احتمالات الضلالة، ولن تسعفك عادة الكاريكاتير، المسترخية الآمنة، تلك العادة التي أوشكت أن تصبح عبادةً لسهولة السطوح والقشور والتزحلق في هامش المعنى، وفي غفلة الوقت. (أما غفلة الفنان فهي غالباً ما تكون شراكاً تستدعي الحذر، فأشداق هاوية المعنى لن ترأف بنا).

( 2 )

خالد الهاشمي سوف يقترح علينا، منذ الوهلة الأولى، متعة جديدة في مجاله. ففي العمل الفني لذة لم يكن لهذا الفنان أن يتنازل عنها. وربما كانت هذه الميزة إحدى تجليات مجابهاته اليومية مع العمل الصحافي. وفي لذة الفن عليك أن لا تتخلى عن طبيعتك الأولى: الخيال. وهذا تحديداً ما يقترحه علينا خالد، في لحظة الاشتباك الجميل بين الفكر والمخيلة. وهو اشتباكٌ ظل يمنح عمل الهاشمي عناصر واضحة من اليقين للثقة بالآخر (القارئ/المشاهد). وهي ثقة دفعت الفنان إلى التشبث بمسؤوليات تتضاعف، لكنها تزيد العمل الفني جمالاً و مجداً. فكلما ازدهرت ثقة الفنان بجمهوره، تألق عمله الفني وأمعن في إضاءة غابة الأعماق.

( 3 )

كيف تسنى لخالد الهاشمي أن يجعل من فن الكاريكاتير عندنا كائناً مستيقظاً، بعد الوهدة الطويلة التي استغرق فيها؟! وهل للشعر سطوة على هذا الفنان؟ ثم من أي طرف تيسر للشعر أن يقتحم فناً لاهثاً متوتراً صاهلاً مستنفراً مثل الكاركايتر؟!

بشكل ما، يلذّ لنا أن نرى في طاقة المخيلة عنصراً شعرياً قادراً على تحويل الحجر إلى ذهب. ومن هذا الأفق يجوز لنا أن نلامس تململ الفنان إزاء شرط الوعظ النقدي، وبلاغة الإخبار. هذا التململ الذي ينمّ عن انحياز واضح لفعل الكاريكاتير باعتباره فن الفكر والمخيلة، أكثر من كونه تابعاً للشرط الصحافي (إخباراً ووعظاً).

طموح ٌمشروعٌ أن يحافظ الفنان على ثقته بقدرة الخيال لدى القارئ. وإذا طاب للبعض أن يرى في ذلك مبالغة ثقافية، فإنه سوف يصدر عن مستويين: الأول، أنها - تلك المبالغة - احتفاء لم يعتمدها الكثيرون من رسامي الكاريكاتير. والثاني، أنها طبيعة لم يعتدها القراء. ومن هنا يحق لخالد الهاشمي أن يرفع لونيه الأثيرين تمجيداً للأفق الذي يذهب إليه، وكلما تصاعدت همسات البعض عن صعوبة (.. بمعنى غموض) كاريكاتير الهاشمي، كان عليهم أن يزدادوا ثقة بأنه يذهب إلى الأفق الأجمل، فالغموض هو جمال / طاقة الشعر التي تجعل حضور شهوة الفكر متألقة، محصّنة ضد جلافة الذهن وصلافة المنطق.

( 4 )

ليس ثمة مصادفة في ارتباط الكاريكاتير باللونين الأبيض والأسود. فبالقدر الذي يتطلبه هذا الفن من وضوح الرؤية الفكرية، فإن دلالات التعبير الفني سوف تتعمق كثيراً و هي تتفجر من حوار التماعة النصل الأبيض المتغلغل في النزيف الداكن كأنه سواد القلب وحشاشته، وفي مثل هذا الحوار الصريح الساطع الحاسم يدفعنا خالد الهاشمي للوقوف على الشفير ذاته، حيث تتخلّق عنده حياتنا اليومية كل صباح.

ليس ثمة مصادفة في كل هذا المشهد، حيث مع الصباح الباكر (لحظة خروج النهار من الليل) يطيب لنا أن نفتح أعيننا على لونين يختزلان كل هذه المصادفات الموضوعية، لنكتشف - مع خالد الهاشمي - لذة الفكر والمخيلة في آن.

( 5 )

قليل الكلام، هذا الفنان. بل إنه نادراً ما يعلّق على أعماله، إذ للكلام أحياناً (كشرط تعبير) سلطة تقدر على تخريب طاقة الخط واللون. ولِــمَ الكلام، مادام الليل والنهار يتكفلان بقول (أعني يقدران على قول) كل شيء، بمشاركة مخيلة القارئ ؟!

ليس سهلاً بالطبع أن يلقي الفنان صمته وكلامه كله على الخط واللون، وخصوصاً في رسم الكاريكاتير. لكن خالد الهاشمي طابت له هذه الحيلة، وربما وجد فيها ضرباً من التحدي. وما الفن إلا هذه المجابهات اللانهائية مع سلطات الواقع بشتى تجلياته !

لقد تمكن خالد من كسب جمهوره يوماً بعد يوم، بدأب الفنان الذي (فيما يضع يده على آلة عمله) يرسل أحداقه إلى التخوم البعيدة، حيث رؤيا الفن أكثر عمقاً وسبراً من رؤية الفكر. ومن هنا نستطيع أن نلامس في تجربة خالد الهاشمي تميّزه الذي منح نكهة جديدة لتجربة الكاريكاتير لدينا. وهي نكهة أتاحت للقارئ متعة قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة. حيث الفسحة التي يفتحها خالد الهاشمي على أعماقنا كل صباح.

ويلذّ لي، شخصياً، أن أبذل جراحي كل صباح ليتوّجها خالد الهاشمي بملحه الحميم، لئلا تأخذني غفلة عن الأعماق. يلذّ لي أن أراه وهو في رشاقة الإطفائي / مشعل الحرائق، يدور بحركته المألوفة، يمنح الهشيم فرصته الأخيرة لكي يجعل الأفق ساطعاً بنار تندفق بغتة، مثل دمعة تطفر.

هكذا، كل صباح نرقب التماهي الفاتن الذي يحتال به علينا الأسود كأنه أبيض، والأبيض كأنه أسود، لكي نكتشف (نتأكد) أن الأسود ليس سهلاً.. والأبيض أيضاً.

مقدمة كتاب الكاريكاتير (المزاح في حدود المتاح) للفنان البحريني خالد الهاشمي.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى