النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

عباس / الغضبان
يتجاوران مثل نقائض مؤجلة

(1)

منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، حين عاد كل منهما من دراسته أوائل الثمانينيات، التقيا في منعطف نزوع واحد، ألا وهو سؤال التميّز في حقل يتناسل فيه المتشابهون. عباس يوسف (درس اللغة العربية في قطر وتخرج عام 1982) وعبدالجبار الغضبان (درس الفنون الجميلة في دمشق وتخرّج عام 1981) التقيا تلبية لشهوة غامضة أخذتهما إلى الغرافيك، حيث الحفر في المعادن قرين الحفر في الحياة.

كلاهما جاء بهمّه الروحي ممتزجاً بالهمّ الموضوعي الذي لم يغادر أعمالهما حتى هذه اللحظة. ولعل تأجج طاقة التعبير في أعمالهما (التي تتراوح بين الأبيض والأسود والألوان) يصدر عن ذلك الهمّ المتماهي بالرغبة في بلورة الصورة؛ صورة الحلم (كما ينبغي) لا صورة الواقع (كما يشير). والمتأمل في أعمالهما المشتركة (عرضاً ورؤية وموضوعات) سيتاح له الكشف الشفيف عن تبادل الأدوار غير المعلن في حمل العبء الكبير في هذا الحقل غير القابل للخضوع للقانون الذي جاء به الدارسان من الجامعة والكتب. كلاهما وجد في اللوحة حقلاً مفتوحاً على التجارب غير النهائية التي من شأنها أن تمنح المستقبل تألقه الخاص، وبقدر ما يتوغلان في درس الحياة بقدر ما ينجحان في الفن.

منذ البدء، استطاع عباس يوسف وعبدالجبار الغضبان أن يشكلا ثنائياً منسجماً في حقل التشكيل في البحرين؛ منذ بدآ في تنظيم معارض مشتركة على إثر تبلور صداقتهما الفنية، إذ غالباً ما تؤدي هكذا صداقات إلى نوع من الحوار الصامت بين التجارب المتجاورة، حوار لا يكاد يبين للآخرين إلا بالقدر الذي يشي به العمل الفني في المعارض المشتركة.

في تقديري أن التباين الفني في تجربتيهما هو أحد أبرز الملامح التي ظلت ماثلة بالنسبة إليّ مذ تعرفت على أعمالهما، ولم أتمكن حتى الآن من تفادي هذا الشعور الغامض الذي ينتابني وأنا ألاحظ ذلك الإحتكاك الحميم بينهما، كما احتكاك النيازك وهي تقتحم الفضاء في مجرة واحدة، دون أن يبدو للعين المباشرة أيهما أكثر سطوعاً من الآخر، وأكثر ظني أن أحدهما لم يتوقف كثيراً عند هذا السؤال، ربما لأن مفهوم السطوع عندهما لا يقتصر على المعنى الإعلامي، وإنما هو السطوع نسيج العمل الفني.

تستهويني تجربة عباس والغضبان وغالباً ما أستجيب لغواياتهما عندما يحدثاني عن مشروع معرضهما المقبل، فأذهب إلى ورشتهما (التي تشبه كهفاً مؤثثاً بالغرائب من الخشب والألوان والمعادن والأكاسيد) لكي أتلمس جديدهما الذي يستعدان به للمعرض المقبل. ولم يعد مستغرباً كثيراً لديّ ألا أصادف ذلك التحول (الانعطافي الذي يحلم به الشاعر دائماً). ولأنني أعرف طبيعة هذين الفنانين، أتيقن مرة تلو الأخرى أن إيقاع الحركة الداخلية في تجربتهما هو الإيقاع الهادئ الرزين الذي يفصح عن نفسه بصعوبة تضاهي صعوبة الولادات الأسطورية ولذا أقول دائماً:" لا بأس، النار الهادئة تُنضج الأشياء"، ولعل أشياء عبدالجبّار الغضبان وعباس يوسف هي مما يدخره الصديق للصديق؛ أشياء تظلّ تتحرك في العمق.

(2)

يلتقيان في برزخ من معدن الألوان. تجربتان تتجاوران مثل الماء وقرينه، لكنهما لا يتقاطعان إلا بالقدر الذي تشفّ المرآة عن فضتها. تحتدم الحياة عندهما في كثافة المعدن الذي ينحتانه لكي يقرآن به التجربة وربما كانت تجربة الحياة عندهما هي المشترك الرئيسي في أعمالهما.

مأخوذان بحركة الواقع، مشدودان بما يغري من آفاق الفن، وفي هذا المنعطف العميق يمكن ملاحظة الفروق التي تميّز كل منهما عن الآخر عندما يتعلق الأمر بشخصية التعبير. يضع أحدهما يده على المعدن مبسوطة كل البسط لينال منه الذهب حيناً والحديد أحياناً، ويضع الآخر يده على المعدن ذاته، لكي نتأكد أنه يقدر على الحفر في المناجم المظلمة باحثاً عن الحجر الأول حيث الأسود يمكن أن يكون قمراً أيضاً. اللون والخطوط والظلال والهواء والماء في أعمالهما عناصر تمور مثل حمم البراكين، بطيئة لكنها كثيفة وتحفر طريقها بثقة المقاتلين.

أتعرّف إلى تجربتهما مثل شخص يقرأ كتاباً في ليل شاحب الضوء، وأشعر أنهما توق جارف لتجاوز المكان وامتحان الزمان في آن. أرقبهما يذهبان إلى الأقاصي كمن لا تحده التخوم الماثلة. وإذا كان ذلك التجاوز، عندهما لا يتحقق بالقفزات التي نصادفها في تجارب أخرى، فإن الصوت الخجول يهمس لي بأنهما ليسا في عجلة من أمرهما، ففي الفن يجوز أحياناً أن يُتاح للتأمل وقته الكافي كي ينال المعدن ناره الهادئة بعيداً عن الطريق السريع.

بينهما ما يجمع الخط بالمنحنى
بينهما مسافة الدم في الوريد
بينهما رهبة التجربة
بينهما صداقة الكلمة للإيقاع
بينهما ذريعة الذاكرة كي تنسى
بينهما ألوان كثيرة وحوار صامت ونقائض
بينهما ما يمزج الروح بالجسد وما يمزج بهما في جحيم وجنة
بينهما الزهد والعزلة وزهرة النساك
فما الذي يفرق بينهما إذاً ويشعل فيهما التناقضات؟!
هذا هو السؤال.

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى