القناديل المشحونة بزيت الروح
( 1 )
منذ التجارب الأولى شكّلَ الإيقاعُ عنصراً أساسياً في كتابتي، وجعلني أجد في أشياء الحياة من حولي طاقة إيقاعية قادرة على تشكيل التعبير في النص، أكان نثراً أم شعراً. كذلك ستأخذ الصور الشعرية في التبلور كلما توغلت في الكتابة، وتزداد وضوحاً بفعل الالتحام المتواصل بالتجربة الإنسانية صدوراً عن تجربتي الذاتية.
سوف أميل دوماً إلى تأمل تلك المؤثرات، وخصوصاً إذا تمكنت من الكشف عن الجوهر العميق للحياة، وعدم التوقف أمام السطوح المتاحة للنظرة العابرة، ففي العمل الإبداعي، على الشاعر أن يرى في أشياء الحياة ما يأخذه إلى الآفاق غير مكتفٍ بالتخوم.
وللقارئ، أو الدارس، أن يصادف العديد من الأجواء الفنية المتصلة بتلك المؤثرات، إن كانت تتجلى في شكل لغة شعرية مهيمنة في هذه المرحلة أو تلك، أو في شكل صور وإشارات ورموز ودلالات تتيح للكثير من التأويل. أظن أن حرية التأويل هي ما يستهويني في قراءة الآخر لكتابتي. ففي التأويل مجال جميل لتشغيل المخيلة، دون الخضوع للمعنى الواحد. سيساعد التنوع الموسيقي في النص، بوصفه تعبيراً عميقا عن حركة وحيوية الحياة فيه، على تشغيل عناصر كثيرة في ورشة التأويل.
( 2 )
إذا جاز لي أن أقترح (مكاناً) ذاتياً يمكن رصده في النص، أرى في (الفقد) كحالة شعورية مهيمنة، معادلاً شعرياً لمفهوم المكان المادي، باعتبار الفقد (هنا) حالةً تَشي بغياب الملامح الثابتة لمكانٍ آمنٍ، جميل، يعادل الحلم الذي لا يتحقق في النص والتجربة معاً. وأجد نفسي منسجماً مع إحساسي لطبيعة ما ينتابني طوال الوقت من شعور بالخطر وعدم الاستقرار والخوف والحيرة، تجاه محيط يهددني بسلطات غاية في التنوع والتعقيد.
لن أتقيّد بالمظاهر (المادية) المتفاوتة للأمكنة، إذ أنه بالنسبة لي لا فارق فعالية بين فضاء الكون والزنزانة، الوطن والغربة، العدو والصديق، السفينة والبيت. أقول ليس ثمة اختلاف جوهري في فعالية الدلالة بين هذه المظاهر (كأمكنة وحالات)، إنه تغايرٌ في الدرجة.
من هذه الشرفة، أفهم الآن لماذا كنت أشعر أحياناً كثيرة باطمئنان غامض داخل الزنزانة، لم يتملكني، إلا نادراً، مذ بتّ خارجها. بل أن إحساسي بالحرية (في الزنزانة) لا يوصف قياساً لشعوري الفادح بوطأة سلطات المؤسسات في (الحرية) وحصاراتها.
يبقى بعد ذلك ما نصادفه من إشارات كثيرة لأمكنة تتصل بالتجربة الحياتية التي خبرتها جسدياً وروحياً. غير أن التعامل مع هذه الأمكنة يستدعي تجاوز طبيعتها الفيزيائية، التي غالباً ما يحلو للنقد المستجيب لآليات القارئ العادي وأدواته المتوقعة، أن يدير الكلام عليهما، مكتفياً بالعلامات والخرائط التي تتركها مسيرة الشاعر على جوانب الطريق، دون البحث عن إضاءة المواقع المعتمة والغامضة، متروكة في عدد لا يحصى من القناديل المشحونة بزيت الروح الشريدة.
( 3 )
أقترح النظر إلى مغامرة العمل المشترك مع تجارب تعبيرية مختلفة، كدليل على جرأة الثقة في التجربة الذاتية، فالمبدع لا يقدر على محاورة التجارب الأخرى ومجاراتها، إلا إذا كان قادراً على الحضور بذاته في مجابهة ذوات إبداعية أخرى، وخصوصاً إذا كانت التجارب الأخرى على درجة متميزة من الانجاز الإبداعي. فالمبدع لا يغامر بالاشتراك مع تجربة عابرة، وهو القادم من كثافة تجربته الزاخرة المكنوزة.
أهمية مثل هذه التجارب (لئلا أقول شرطها الجوهري) أن يشتغل المبدع مع مبدعين كي يكون الحوار أكثر جمالاً. استعدادي الذاتي لدخول مثل هذه التجارب ليس صدوراً عن خشية الإنغلاق، لأنني لا أزال أرى الآفاق مفتوحة أمام تجربة تعدني بعوالم لا نهائية، وتغريني بالذهاب بثقة كبيرة. هي طاقة، أتأكد يوماً بعد يوم، أنها لم تتحقق بعد كما أشتهي. بمعنى أن شعوري بما يمكن أن أحققه إبداعياً لا يزال في اندفاعه ودهشته. إنني أذهب إلى المغامرات الإبداعية بجرأة ودون خوف، لكن من دون السعي إلى افتعالها أو توسلها، فالروح المبدعة لا تجد ذاتها إلا بوجود أرواح مبدعة مثلها؛ أرواح تفتح الآفق لي.
( 4 )
أفهم اليأس بوصفه انعتاقاً من مشاريع الأمل الرائجة. مع تجارب الحياة، أجد نفسي في الضفة الأخرى من هذا الواقع، وفي الجهة المضادة له تحديداً. وقياساً لهذا الواقع الذي يقع على كواهلنا، أنا يائس. يائس لأنني متحرر من هذا الواقع، وقادر على نقضه وتجاوزه.
اليأس، هو أيضاً، ضربٌ من الحرية، أو على الأرجح، إنه شرط الحرية اللازم. وظني أن الإنسان العربي مجبولٌ على قبولٍ مستفحل. إنه مصادر حتى في حرية إعلان يأسه من الأشياء التي تقتله. فإعلان اليأس فعالية حضارية لا نزال نقصر عنها. عندما يقدر الإنسان على إعلان يأسه صراحة، سيكون مستعداً لتجاوز الحالة التي تستلبه وتنفيه. كأننا في هذا العالم ممنوعون حتى من إعلان يأسنا، ومكتوب علينا قبول الآمال الكاذبة التي تروجها لنا جهات وأفكار ومؤسسات، هي بالذات جديرة بالنقض والمجابهات. لذلك على المبدع أن يتميز عن الآخرين بإعلانه هذا اليأس العميق والجوهري والحضاري.
ليس كافياً الخروج (من) الليل،
إنما الخروج (عليه) أيضاً.
|