لبنى الأمين،
كمن يوقظ الخشب من سباته
(1)
... هكذا تسهر لبنى الأمين على أشجارنا القديمة. تغري الخشب بحزمة ألوان نشيطة، فيتماثل منتبهاً للحياة وهي تدبّ في مفاصله، بينما هو يتثاءب مثل تراث يخرج من كثافة الكابوس إلى رشاقة الحلم. وكلما كان الخشب موغلاً في الزمن، جاءت يقظته أكثر فتنة مُتيحةً لنا أن نتخيل خشباً جديداً ذاهباً في زينة العرس.
منذ معرضها الأول، اقترحت لبنى علينا، أنّ ثمة حياة في هذا الكائن القديم؛ كائن ليس ميتاً ولكنه نائم يتوجب إيقاظه. وفي إمكاننا أن نصغي إليه بعد صقله ببعض الألوان المضرجة من روحنا.
بدأت التجربة عندما اكتشفت المسافة الجهنمية (وهي العلاقة الفردوسية أيضاً) بين أسرار الخشب الغامض وفضائح اللون الجريئة، إذ تسنى لها الإمعان في استثارة هذا الحوار المكبوت لكي يبدأ البوح، مندلقاً مثل بكاء تسعة أطفال يولدون دفعة واحدة، فيما ترتعش الأبواب والنوافذ استجابة لرغبة التعبير عن المحبوس بوسائط مشحونة بدلالات الحجب والمنع والمصادرات. وثمة مفارقة في الأمر، فبعد أن كان هذا الخشب، في سباته، باباً كثيفاً في دار، أو نافذة شامخة على جدار، كيف يمكن له أن يتحول من حارس إلى فعل حوار؟
ماذا تريد لبنى الأمين أن تقول لنا في كل هذا الولع باستعادة الأقفال لتصير مفاتيح للمخيلة، وكأن الألوان ليست سوى زيت القناديل التي تتلاعب بشعلتها الزرقاء أرواح تتصاعد من تلافيف الخشب مثل أصداء قديمة تزعم قدرتها على قراءة مستقبل وشيك.
يبدو لي أن الاقتراح الذي تقدمه لنا هذه التجربة يتمثل في إعادة الثقة في منسياتنا الحميمة من عطايا البيوت التي احتضنت طفولتنا. فمن الولع المبكر لدي الفنانة بالموتيفات التاريخية في شخصية الدار البحرينية القديمة، انبثقت لحظة التقاطع الأليف بين التراث والفن في التجربة، كما لو أنها اكتشفت أن ثمة حياة عتيقة انتظرت (مثل نبيذ قديم) من يسكبها في بلور الأقداح. وثمة في الخشب القديم أبواب ونوافذ تفهم كلام الألوان والأشكال الجديدة، وتتيح لنا إطلالة على أفق متاح ومستحيل في آن.
من هذه الشرفة إذاً، يجوز لنا أن نرى إلى هذه التجربة، بوصفها محاولة لإنعاش الذاكرة بإطلاق حريات المخيلة التي ترى أشياء الكون بحساسية بصرية تشتغل على ملامسة المنسيات، مثل شخص يعود لاستعادة أطفاله المتروكين في البيت، غير أن لبنى تؤكد بأن ولعها بالتعرف على جغرافية اللون لا يقل عن ولعها بدراسة تاريخ الخشب. فهي تحاول أن تقرأ لنا سيرة حياة خشب البيت (في شتى تجلياته) بوصفه صورة، في حين اعتدنا أن نقرأه نصاً.
(2)
مثل يدٍ ترسم نفسا
... وهكذا رأيت لبنى تأخذ درس الرسم مأخذ الجد، مثل ريشة (أخف من الهواء) تتعلم طبيعة الأجنحة،
تتفلّـت من الريح وتتقمص الفضاء.
تأتي إلى التجربة بذريعة الألوان الفائضة عن إناء الحياة، وكأن في الرسم ما يمنع القبح عن التقدم. أظن أنها تدلف إلى الرسم لفرط الرغبة في تبادل الأدوار مع الطبيعة، لذلك سوف نصادف ما لا يحصى من كائنات الطبيعة، من الله وخلقه.
تجربتها (فيما تضع خطوتها الأولى في اللون والتأويل) تشي بنزوع غامر نحو التنوع وابتكاراته. ومن المحتمل أنها ستختصر قدراً من الطريق إلى الفن وهي تسعى عبر تخوم الجمال (شرط الفن الأول).
والأرجح أنها لا ترسم أشكالا ولا أشخاصاً ولا أشياء، إنما تقترح احتمالات.
ثمة شيء من الأمل تريد هذه التجربة أن تقترحه علينا، وأظن أن اقتراح الأمل ليس سهلاً، الفن وحده يستطيع أن يجعلنا نصدق أنّ الأمل ممكنٌ. أفكر أحياناً أن ما ينقص حقول الإبداع الراهن هو الأمل، ضرب خاص من الأمل الجميل. لا نطلب المستحيل. فربما تستطيع تجربة شفافة مثل هذه أن تقنعنا بجدوى تأمل هذا الاحتمال.
إننا لا نعرف إلا القليل عن حياتنا، والباقي (وهو الأعظم) يجري اكتشافه، نحاول إدراكه بوسائط مختلفة، الفن واحدٌ من بين أجمل هذه الوسائط، فهو الدليل على براعة الأدلاء .
بهذا المعنى، لا تأتي هذه التجربة مما عرفته الرسامة، ولكن مما تحاول اكتشافه. ولعل في اقتراح المادة قيد الاكتشاف، بوصفها احتمالات، لهو أمر في غاية الطموح والمتعة. فأجمل الفن هو الذي يتخلّـق بمحض اللذة الذاتية، كأن الفن الذي يتيح للإنسان أن يكتمل، هو ما يتخلق أثناء ذلك، حيث الفرق بين الإنسان والفن في درجة التحقق وليس في نوع المعنى.
الرسم في هذه التجربة ضرب من المتعة الذاتية، كمن يذهب إلى الحديقة لكي يجاور الزرع والورد والنبات أو يذهب إلى النوم لكي يحاور الأحلام. وتحقق المتعة الذاتية، بقدرٍ من ملامسة الجمال، شيء من الفن. ففي الفن ينبغي أن نصغي إلى الروح وهي تنسكب في قدح لامرئي ننال به اللذة الفاتنة. ليس ثمة ادعاء في هذه التجربة، (درس الفن الأول) .
تهتف بصداقة الألوان، وهي صداقة متاحة للجميع، يتميز بها الفنان عن سواه بدرجة الإخلاص لهذه الصداقة. وظني أن هذه التجربة أكدت إخلاصها طوال سنوات عدة يستطيع رصدها كل الذين تابعوا خطواتها عن كثب، وقد كنا بين مَنْ رافقَ دأبها على الدرس والبحث والتمرين، كمن يصقل صداقة لا يمكن تفاديها. كنا نرقب تراكم المحاولات والتجارب كمن يسهر على نحت التمثال على شاكلتها: جديداً، جميلاًَ، وغاية في التنوع.
كل شيء هنا قيد التخلّـق، ليس مكتملا، ولا يزعم ذلك. كأن الدرس الأجمل هو الذي لا ينتهي. كل شيء هنا قيد البحث، يتردد في قلق مشروع (لا يجوز التوقف عنه)، يتمرأى في خفر يضفي غموضاً (يتوجب عدم التنازل عنه). كل شيء هنا قيد التحول والانتقال شكلا ومعنى وعلاقات.
الخشب يكفّ عن كونه مادة قديمة عاطلة عن العمل، إنه هنا فلذاتٌ طازجةٌ يعاد اكتشافها مصقولةً باللون، مستعادة من الزمان إلى المكان، موضوعة في حضرة البوح عما هو مهملٌ ومسكوتٌ عنه في حقليْ البصر والبصيرة. الخشب هنا حيّ وجميل ومتحفز للمعنى.
ليس ثمة حدود بين الروح وجذوع الرمّان. كما إن الفرق بين المخيلة والخشب هو ضرب من اللعب على العناصر. فربما طاب للون أن يرتجل العلاقة (مثل خطأ يجنح إلى الصواب) بين كيمياء الشجر وفيزياء البشر.
من هنا لا يفاجئنا تنوع الأجواء الفنية التي تقاربها هذه التجربة لكي لا تستقر على حد، ففي الفن يكون الأفقُ الهدفَ الذي لا يطال. غير أن الحدود قوانين لابد من إدراكها قبل تفاديها. والظن أن هذه التجربة تذهب إلى الإدراك والتفادي، بتمهل الريشة وهي ترسم الريح. مثل يد ترسم نفسها، فتفشل، دائما تفشل، مثلنا جميعاً، نفشل كثيراً لكي نتحقق، وعلينا فقط أن نجعل ذلك الفشل أكثر جمالاً في كل مرة، لئلا يفوتنا الفن.
تُرى:
لماذا نسألها عن اللون في لحظة يتألق فيها شكل المحتملات؟
لماذا نستجوب الشكل لديها في لحظة نزوع الألوان للتماهي في طبيعة المادة المتحولة؟
لماذا نقف عند حدود اللوحة فيما هي تمتزج بالباب وحديقة الرمّان والنافذة والخشب المصلوب بالمسامير؟
لماذا ...؟
نعتقد أننا نطرح الأسئلة على جواب قيد الدرس .
(3)
إيقاع الكائنات في اللوحة
وإذا كنتَ ممن رافقوا تجربة لبنى الأمين منذ خطوتها الأولى، سيخالجك الشعور ذاته: ثمة انعطافة نوعية تشير عليها أعمال هذا المعرض.
فبعد المعالجات المبكرة لعلاقة المادة الأولى والسهر على ترويض الخشب القديم كي يتكلم بلغة لونية جديدة، وبعد الإختبار العسير الذي وضعت فيه لبنى منسيات الناس ومهملاتهم اليومية في مهب وصف الحال وتجسيده، وبعد النجاح الأليف لمقترحات شخصية في حقل محو التخوم بين شكل اللوحة ومضمونها، وتأثيث مخيلة المشاهد بعناصر تُستحضر من ذاكرته بالذات...بعد هذا كله، ثمة ما يخبرنا، في أعمال هذا المعرض، بأن لبنى من بين المواهب التشكيلية الجديدة التي تجتهد دائماً لإثبات أنها تأخذ درسها الفني والتقني بجدية من يذهب إلى الموهبة بقدر ضروري من المعرفة، وهي هنا معرفة تصدر عن تجربة المختبر اليومي للشغل، ليس على اللوحة وفي المرسم فقط، ولكن في الأفق الواسع للحياة. فالإنسان لا يصبح فناناً مبدعاً لمجرد رغبته في ذلك، إذ لا بدّ من امتلاكه لنواة الموهبة أولاً، باجتهاد التلميذ الذي يحسن الإصغاء إلى العالم.
من بين أهم علامات التحول النوعي في لوحة لبنى هنا، اكتسابها خبرة التفاهم مع موادها الفنية في اللوحة، وخصوصاً اللون. فبعد أن كانت لبنى في معظم أعمالها المبكرة، تتبع المسار الذي يقترحه اللون، صارت الآن تقدر أن تقود اللون إلى مسارات مخيلتها الخاصة. وتالياً لم يعد للون سطوة العبث بها وبفرشاتها، ففي معظم لوحات هذا المعرض، تمكنت لبنى، بدرجة ملحوظة، من أن تكون هي من يقود الألوان إلى عوالم لم تعرفها لوحاتها السابقة. وهذا، في تقديري، واحد من أهم مظاهر تمكّن الرسام من أجنحته التي تنمو فيما يحاول الطيران، ثم وهو يرتفع عن الأرض، ثم وهو يحلق. هذا التمكن شرط لزعم الرسام بأنه يرسم لوحته بألوانه المتصلة بمخيلته والصادرة عنها.
وليس سهلاً أن نصدق بأن ثمة موسيقى في شرفة لبنى الأمين، لولا أن ثمة إيقاع روحي يمنحنا هذا الشعور، ونحن نتأمل أثر خطوات الحياة وهي تعبر اللوحة بعد الأخرى، تاركة لنا متعة تقصي هذا الأثر كما لو أن كائنات (مرئية أو محسوسة أو ملموسة) قد عبرت يومياتنا بالدرجة الأولى التي تمكننا من (سماع) تلك الموسيقى المشرعة على الكون وهي تحاول صياغة النشيد الشامل للإنسان تحت وطأة ما يحدث له وما يحدث عليه. نعمةٌ هي، أن نزور معرضاً تشكيلياً لنصغي إلى الموسيقى.
إنني سعيد جداً أن أكتب هذه الكلمة لمعرض جديد تقدمه لبنى الأمين، فيما تمنحني الشعور بأنها لم تخذل حماسي المبكر لتجربتها، بعدما لم تخذل أو تخذلها ألوانها التي رافقتها منذ الأبواب القديمة الأولى وهي تعبر إلى الأفق الأرحب.
|