النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

مرح الضواري

فتنة نائمة، جلَّ من أيقظ الجمال فيها

( 1 )

مثل محاولة وصف ما لا يوصف. إن القوة الغامضة التي تمنحني إياها الكتابة، سيعمل الرسم دائماً على شحذها حد الرهافة، ولكم أن تتخيلوا كائناً يتقمص الفراشة ذاهباً لوصف اللهب.

( 2 )

يوماً بعد يوم، تجربة بعد أخرى، أشعر بأن ثمة ما يختزل المسافة بيني وبين التشكيل. وثمة ما يمنح عشقي لهذا الفن غواية نوعية لكي أضع نفسي في مهب الرسم وأنجو بمغامرة لا نجاة منها.
لكنها ليست نزهة، الذهاب إلى الحب برفقة الضواري.

هيلدا حياري ومحمد العامري تجربتان ضاريتان بالمعنى الجمالي للكلمة، فكلاهما يصدران عن تجربة تشكيلية مركبة الحساسيات، متفاوتة الآليات، ومتنوعة في أدوات التعبير في الوقت عينه. الأمر الذي يجعل رفقتهما مثل مغامرة وشيكة، أرى فيها ضرباً من إيقاظ الفتنة وتمجيدها.

( 3 )

في الفن، كلما طال نوم الفتنة قصرت، أو تأخرت فرص الإبداع في التجربة. فالفتنة هنا هي الشرفة الملكية للدهشة، والرسم فتنة لا يتوجب السكوت على غفوتها. الفتنة نائمة، إلى أن تمسّها يد السحر فتبدأ تفجّرات الأعماق الكامنة، وكل ما يأتي من الأعماق لا نقدر على الشك في صدقه، فناً وعاطفة. الفتنة نائمة، جلّ من أيقظ الجمال فيها.

وفي الفن، ليس من الحكمة أن تصدّ إيقاظ الفتنة، بل عليك تأجيجها دائماً، والإصغاء إلى أحلامها وإطلاق حرية الفضاء كاملة لها، لكي تبوح لنا بالجميل. فالجميل هو دائماً جديد، ويدعو إلى الدهشة. كأن الساحرة التي أيقظتني سوف توقظ الفتنة عند غيري كل على طريقته.

في البدء، لم أكن أعرف في الساحرة كل هذا المكر الباهر، لكن عندما رأيت ما فعلته هيلدا حياري ومحمد العامري، تيقنت أن الخيال الجامح ليس قريناً للشعر فحسب، بل هو شرط الشعرية في الكائن.

( 4 )

كأن الساحرة قد أعطت لهاتين الموهبتين أسراراً لم تبح بها لي ولم تدر في بالي. وربما كان هنا بالذات مكمن الجديد المدهش في أعمال كل من هيلدا ومحمد. فليس للنص سلطة على الرسم إلا سلطة الحب، وليس ثمة فارق بين الرسام والشاعر في درجة المخيلة إلا من حيث نوع عملهما وطريقة أدائه.

كأن الساحرة قد أعطت بجودٍ وسخاء ما لا يتردد أي مبدع في منحه للعالم. فبعد تجربة سابقة مع الصديقين عبد الجبار الغضبان وعباس يوسف في معرضهما، مع النص نفسه، في مارس 2004، سأجد نفسي في مهب ضرب مختلف من القراءة. التجربة هنا لها نكهة ورؤية وآلية عمل مختلفة كلياً عما أنجزته التجربة السابقة. كأن الساحرة هنا، تثبت مجدداً قدرتها على التحرر من النبع، حيث كل نهر يشقّ له دروباً مختلفة وفق ما يحب، وعلى ما يطيب ويحلو لهواه.

وعندي، كلما استطاع النص أن يتحرر من كاتبه، فيما هو يستسلم بين أيدي الآخرين (وفي مخيلاتهم الفائقة النشاط) تيسر له أن يستعيد حيويته وفعاليته الإنسانية وحضوره الغني في الكون. وعندما يكون الآخر مبدعاً فسوف يكون فعل التحرر هذا مفتوحاً على رحابة الأفق بامتياز الجمال الجدير بالإكبار.

( 5 )

كأن النص، مع هيلدا ومحمد، لم يكن وحده. لقد كانت معه الألوان كلها والولع جميعه والحلم الكوني على آخره. لذلك ما كنت لأشعر بالبرد وأنا في جحيم هذه الفتنة الضارية، وهي تصغي إلى الخفي من بوح الساحرة، وتلّقنها درساً جديداً في الحب لا تدركه النصوص ولا تفرّط فيه القلوب، إلا مَنْ بينها ضَعف إيمانه وقَلّتْ حيلته.

فادحاً أن ترى كتابتك مهدورة (بشتى الألوان) على هذه الشاكلة التي اجترحها لنا عمل هيلدا ومحمد. غير أنهما قد منحا النص مجد التفتّح مثل وردة الله في الناس. ومنحاني النزهة الجهنمية في حدائق ألوان توشك على فرح الطفولة حيناً ومرح الضواري أحياناً أخرى.

( 6 )

كأن الولع كان جديراً وكافياً.
لقد جاءت هيلدا من المجرات التي زخرت بها أكوان لم تشبه مثالاً في أعمالها السابقة. جاءت، لكي تصغي إلى السحر على آخره وتزيح له حيزاً في الروح. لكن من دون أن تتخلى عن عناصر لوحتها السابقة، (مثل دوائرها الأثيرة، كويكبات غنية الدلالة) نجدها هنا تصنع شيئاً شديد المغايرة، شهي المغامرة، شامخ المجرات.

في تجاربها السابقة، بدا الرسم عند هيلدا كأنه فعل تقويض لزخرف التشكيل الذي نصادفه في المشهد العام. وبدا أنها لم تكن مشغولة بإرضاء العين بقدر ما هي مأخوذة باستثارة المخيلة. كمن يريد صقل البصر بالبصيرة (والاستعداد لتبادل الأدوار أيضاً). وفي مجمل عملها السابق، ثمة ما يشي بأنها ليست في وارد مواصلة مهادنة كسل المخيلة السائد ومجاملته، لكنها تسعى إلى أخذ الذائقة البصرية إلى المطارح التي لا يطالها القول الأدبي في اللوحة. تأخذنا إلى لغة التشكيل بالمعنى التقني للوحة بوصفها كائناً يستعصي على التبسيط دون أن يخضع لمتعاليات الثابت المستقر المقدس.

وظني أن اختيار تأسيس الذائقة وصقلها أكثر أهمية، في سياق الثقافة العربية، من مداعبة الجاهز البليد والتربيت عليه، فالرسم لن تعوزه الذرائع فيما هو ينجز صنيعه في حضرة نص أدبي مكتوب. الفن هو ذريعة ذاته. ولن يخفق الرسام دون فضيحة، إذا هو وقف عند حدود النص كذريعة.

( 7 )

عندما انبثقت النار الأولى في لوحات الكتاب الفني، بدا كأن هيلدا اكتشفت أنها في تجربة تشير إلى أفق مغاير. ففي كتابها الفني الجديد يمكننا ملاحظة مغايرة نوعية عن كتبها الفنية السابقة، وهي المولعة بالكتب. تمرّد الألوان هنا كان البداية الحقيقية لما سيأتي لاحقاً من أعمال الساحرة في رسم هيلدا. الألوان في الكتاب تريد أن تقول ما لم تقله الساحرة، فأنا على الأقل لم أصادف برتقالياً جهنمياً كهذا، إذ يبدو للون هنا انبثاقات احتفالية واحتدامات حوارية .

كما لو أن علينا الإصغاء إلى اللون الأكثر نشاطاً في كتاب هيلدا، والزاخر بمدخرات سبق أن اكتنزت بها دوائر الأعمال السابقة. كأني بتلك الدوائر الهائمة في سديم المجرات تتفجر باحتمالات الحواس، متجلية في آلية ألوان لم تكن مألوفة في لوحات هيلدا سابقاً. الأمر الذي يجعل كتابها الفني ينطوي على شحنات عاطفية يتكفل بها لونان : برتقال الجحيم وأبيض الجنة، ليصير للكتاب مكانة تضاهي قلب الساحرة وأحلامها.

كأن على من يعرف أعمال هيلدا السابقة، الانتباه إلى ما تقترحه علينا في لوحاتها الجديدة (في الكتاب خصوصاً) من إنتقالة فذة، حيث هذا الانفجار اللوني الأخّاذ، والشكل الذي يواصل تحرره في علاقات بالغة الاختلاف عما كانت في أعمالها السابقة. كأن ثمة شعوراً بأن اللون قد بلغ درجة متقدمة من النضج، بحيث بات قادراً على قيادة تقنية اللوحة أكثر مما كان يفعل الشكل في السابق. اللون هنا صار هو ما يخلق الشكل ويحرره في آن. هنا سيشعر الناظر بأن حساسية الطاقة البصرية (التي تعيد هيلدا اكتشافها الآن في الفيديو آرت) ضاعفت لديها وعي حريات اللون بوصفها عنصر الفعل الأول في مرحلتها الجديدة.

هل اللون ضربٌ من السحر؟
هل الساحرة متقمصة الرسامة، أم العكس؟
كأن ساحرة فقط تقدر على تقليد ساحرة مثلها.

( 8 )

لكن، هذا ليس كل شيء...
تعالوا انظروا ماذا فعل محمد العامري (وهو الشاعر أيضاً) في حدائق الساحرة، لكي يصوغ لنا حفل زفاف مجنون مكتنز بالبهجة الضارية.
العامري لم يكن يشتغل بهذه الطريقة، وربما، إلى حد كبير، ليست هذه ألوانه المألوفة، أو على الأقل، ليست بهذه العلاقات اللونية المسكونة بالمكائد ذات التخوم البشرية. العامري الشاعر هنا، يعطيني الإحساس بأنه يصدر عن قوة الشهوة الحميمة، ليس في قراءة النص، لكن في إعادة كتابته، بالأداة والآلية التي سيقصر الشاعر دائماً عن تحقيقهما في حقله. من هنا يبدو لي العامري في هذه التجربة يصدر عن إحساسه بالتميز لكونه شاعراً يعمل على إعادة خلق نص لم يكتبه لكنه يملك الآن أن يرسمه.

ولعل في تجربة العامري من التركيب ما يضعه في لحظة الطرافة، وهي لعبة جديدة تستدعي قدراً كبيراً من الرشاقة الإبداعية، بحيث يضع حساسيته الشعرية في خدمة ذائقة التشكيل واللغة البصرية المختلفة، تقنياً، عن الكتابة التي يعهدها.

( 9 )

كأن أحلام الساحرة هي (باليتة) محمد العامري يغرف منها ويغمر لوحاته بمهرجان البهجة والمكر في اللحظة نفسها، ربما لأن اختلاط المكر بالبهجة هو الشرط الذي اكتشفه العامري في معطيات لم يحلم بها كاتب النص. كيف تسنى للعامري أن يصنع لنا (فيما يحقق الصنيع نفسه مع الساحرة) نصاً تشكيلياً لا يفسر النص لكن يكتب نصه الخاص في فعل حميم هو الحب عينه؟

لونياً، أشك (لئلا أقول أنني متيقن) بأن محمد العامري قد وقع على خزانة ملابس الساحرة لكي ينجز هذه الجنة الباهرة من الألوان. وليس من غير دلالة أن يمزج العامري ألوانه بهذه الطريقة الشفافة الرهيفة التي لم تكن بهذه التقنية فيما سبق له. ثمة سحرٌ يمسّ الشغاف في اللحظة التي يدير (الباليتة) وينال منها ألواناً تتخلق في فضاء المسافة بين الباليتة وقماشة اللوحة. خزانة الملابس هذه هي المخيلة التي نقلت لنا ملامسة العامري للكائنات المستيقظة تواً والمشاركة في بهجة الحواس الحميمة، لكي نصدق أن ثمة فرحاً يغمر الكون بفعل الفتنة التي تطلقها الساحرة في الناس فتتفتح مثل وردة الله.

( 10 )

المشوق في تجربة محمد العامري هنا أنه يقترح علينا في لوحاته، بألوانها المتألقة، نوعاً من السرد الشعري كثيف الاحتدام بين حضور الكائن وبروزه، وبين تماهيه في انتقالات ساحرة بين الشكل واللون، فيظهر لنا الاشتغال التقني على تفادي تقنية السرد الشعري في النص وتشخيص السرد التشكيلي بكائنات تزعم أنها الساحرة في تجلياتها المختلفة. لقد بدت لي هذه اللعبة على درجة بالغة من التشويق، بالصورة التي منحت العامري (لتمنحنا لاحقاً) دهشة ومتعة جديدتين على معرفتنا بأعمال العامري السابقة.

بناء على هذه اللعبة الإبداعية شعرت بأن العامري قد ينجح في حركة تجريده، بفعل رشاقتها، بحيث لا يخسر الشكل ولا يجعل اللون منتصراً عليه. كأن من الصعوبة أن تتأمل عميقاً لوحات العامري دون أن تتعرض لبعض هذه الإحتمالات. ليس لأن الفنان قصد ذلك قسراً، لكن لأننا سنقصر عن المتعة المتاحة، وتالياً سنخسر فرصة الإستمتاع بعطايا الذائقة البصرية التي علينا عدم التفريط في استحضارها وصقلها بتجارب تشكيلية على هذه الشاكلة.

( 11 )

لماذا أشعر بأنني مأخوذ بالمغامرة كلما تعلّق الأمر بهذا الحوار الإبداعي بين التشكيل والشعر؟ لماذا لا أتفاجأ بنزوعي العفوي نحو ما يستعصي في حضور ما يستهين؟ لماذا ينتابني القلق وأنا أتلقى درس الرسم مجدداً في لحظة التجربة المشتركة، دون أن أفقد يأسي مما يجري تداوله في كثير من القول الفني؟ لماذا أنال الغبطة كاملة وأنا أرى الساحرة التي أيقظتني كفيلة بإيقاظ الآخرين، ودفعهم إلى فتح الحواس كلها على فتنة الجمال الفني؟ لا أسأل، لكنني أستسلم لفتنة السؤال.

أشكر الصديقين اللذين منحاني نعمة التأويل الفاتن لهذا النص. النص الذي لم يعد لي منه سوى شرف الإصغاء إليه مقروءاً، متخلّقاً مرة تلو الأخرى في مجمل الأعمال الفنية المشوقة بفعل صنيعهما الجميل.

نص كتالوج المعرض الذي أقامه الفنانان هيلدا حياري ومحمد العامري عن كتاب: (أيقظتني الساحرة)، في غاليري الأورفلي في عمان 13 فبرابر 2005.

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى