التربيت على كتف مخلوعة
(رسالة إلى شاب اسمه قاسم حداد)
ألا تزال في العشرين كما تركتك؟
أكاد أشعر بذلك وأتيقن.
ربما هو الإحساس الذي أزعم أنه لم يفارقني طوال هذه السنوات، رغم هذا الطعن الفادح في السن، الذي يكاد ينال مني. أخشى أنك لم تفهم تماماً (أو لا تصدق) معنى أن تكون الروح في العشرين والجسد يتجاوز الخمسين.
(جسدٌ يهوي
فتنهره الروح)
ليست معضلة ولا لغزاً، لكنّ الأمر غير قابل للتفسير، وهو شعور غلب على حياتي وما يزال.
تُرى إلى أي حد أستطيع الزعم أنني غادرتك من جهة، وأخذتك معي (في العربة الجهنمية) من جهة أخرى؟
أكاد ألمحك، تقف هناك، مصاباً بدهشة الأقاصي، جسداً يتهدّم بفعل الوقت، وروحاً تتألق بفعل الشعر.
هذا هو السر يا صديقي البعيد.
إنه الشعر، يمنح الشخص تلك الشهوة التي تجعل الحياة ممكنة ومحتملة وجديرة، لا تضاهى ولا تقبل التفريط. وفيما عدا ذلك لن تصادف سبباً واحداً يجعلك تندم لعدم مواصلة الطريق، بشروطك. لكن إياك أن تتخلى عن تلك الشروط المتطرفة التي انتخبتها لي باكراً، من أجل أن تضعني في مهب التجارب الفادحة.
أتخيلك، الآن، تحاول أن ترفع يدك النزقة محاولاً ان تربّت على كتفي المتعبة، لكنك ستكون كمن يربّت على كتف مخلوعة. لقد هدأت روح الفتى، وهو يكتشف الكتابة والنضال والحب والمجابهات بلا هوادة. قلت لك يومها، أن رهانك الوحيد لئلا تخسر نفسك، هو أن لا تدع الزمن ينال منك. وعندما بدأتَ في الوقوف على الرصيف فيما القطار يرحل بي عنك، كان الزمن هو قائد العربة الجهنمية التي لا تزال تقلني إلى المطارح التي لا أعرف. ربما كان في هذا ذهاب إلى الفتنة التي أحبها، لكنها ليست دائماً الفتنة التي تحبني.
يوم كانت الأحلام الحقيقية متاحة لنا، لم تكن الإمكانات متوافرة كما هي الآن. كانت الوسائل ضرورية، غير أنها ممنوعة ومصادرة وصعبة المنال. وغالباً ما كانت مستحيلة كي يكون السعي إليها ممكناً بوصفها حلماً. وعندما صارت الوسائل متاحة انحسرت الأحلام. صار تحقيق الأحلام سهلاًً، لكن لم تعد ثمة أحلام كبيرة تشغل الأجيال الجديدة لتأخذهم الى المغامرات الغامضة. ولفرط تراكم الوسائل، أصبحت كل الأطراف تتبادل الأدوار مع نقائضها، متسابقةً في حمى تكاد تضاهي سوق البورصة. ربما لأن الجميع صار مطمئناً إلى أن تلك الأحلام لم تعد تشكّل تهديداً أو خطراً على أحد.
هل تعرف ماذا يعني هذا بالنسبة إليّ، وأنت هناك لا تزال تقبع في العشرين الجميلة التي سأدفع بقية عمري لقضاء أمسية واحدة من أماسيها؟
يا صديقي البعيد...
هل تذكر؟ لقد نصحتك يوماً، (وأنت تضع حياتك في مهب النضال، بشتى أشكاله ومشاغله) ألاّ تصدق نصاً قبل أن تتأكد من الشخص الذي وراءه. كان الأشخاص ماثلون أمامنا، ولا يحسنون شيئاً غير وضعنا في النصوص الجميلة. تعال أنظر إلى الأشخاص (أنفسهم) بعد أكثر من ثلاثين عاماً. لا زالوا، بعد أن عبروا ما لا يحصى من النصوص، يصدرون عن الوهم ذاته: إنهم القادة، عابرو الأجيال إلى مستقبل لا يتحقق أبداً.
يا صديقي، في هذه اللحظة وأنا أكتب لك، ثمة ما يتصل بتجربة النضال يتألق متهدّماً تحت آلات كثيرة، تبدأ من معاول الله، وتصل إلى مؤسسات السلطات المتناوبة مع نقائضها، مروراً بحشرات نحاسية تصدر عن المنظومات والأحزاب السياسية ذاتها. كل ذلك يحدث هذه اللحظة في مهرجان يفتك بما تبقى من ذكريات مغدورة.
أذكر، يوم كنت تقف على رصيف مشبوب، ملوحاً لي بقميصك المضمخ، الممهور بنياشين العمل في مهن كثيرة، فيما أبعث لك بتحية من عتبات الشعر الأولى، مكتشفاً ساعتها أنني على طريق يكتسب جمالها من الهدف الذي يأخذنا إليه. كمن يقول أن الطريق إلى الحب أكثر جمالاً من الحب.
يا صديقي البعيد، لن تصدّق ذلك...
لا أزال أعتقد بأنني سوف أعبر الطرق نفسها، لو عدت أقف معك على الرصيف عينه، وسوف أقتحم المغامرات ذاتها، وأرتكب الحماقات نفسها. وربما بالغت في التطرف قليلاً، لكن مع فارق واحد وحيد، هو أنني سوف أكون أكثر حزناً وأعمق وجعاً، لأن فهماً مختلفاً لليأس والأمل، يمكنني الزعم بمعرفته الآن، سيكون قنديلي هذه المرة. كما أن الشعر هو جوهرة المراصد الوحيدة التي سأجعلها تقود خطواتي. وسوف أتفادى البوصلات المرهونة بالطقس والمناخ واتجاهات الريح والمزاج.
أشعر الآن أنني قد فرّطت قليلاً في الإخلاص للشعر بما يكفي، بما أهدرت من وقت وطاقة في مطارح أخرى، مطارح أخذتني إليها تلك العربة الجهنمية التي كان يقودها حوذي مذعور. لذا فإنني، في الجولة الافتراضية (حسب التعبير الالكتروني) سوف أمنح الشعر عمري كله مرة واحدة، دفعة واحدة، والى الأبد.
هذا هو، ربما، الفعل الوحيد الذي أتمنى لو تسنى لي، أن أدفع بقية عمري الزهيد من أجله (بمقايضة فاوستية). أدفع عمري، مثل ذبالة قنديل، مقابل استعادته مُشتعلاً في ورشة الشعر باستسلام كامل.
أغسطس 2002
مجلة (زوايا) اللبنانية.
|