النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

قاسم حداد .. تقريباً

أضع المرآة على الطاولة. أحملق، وأتساءل: من يكون هذا الشخص؟ أكاد لا أعرفه.
أستعين بالمزيد من المرايا.
وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي ويتكاثر مثل الصدى في كاتدرائية الجبال، فأتخيل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد.. تقريباً.
منذ أن بدأت علاقته بالكتابة وأنا في جحيم لا هوادة فيه. أعرف أن عالم الأدب يستدعي قدراً من الإطمئنان والسكينة، أو على الأقل الثقة بالنفس. لكن هذا شخص لا يهدأ في مكان ولا يستوعبه شكل الحياة، مثل مجنون أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن شمس ليست موجودة. لا يطمئن لجهة ولا يستقر في إقليم وليس له ثقة في ما يكتب. يسمي ما ينجزه من كتابة : التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل. فهو في كل يوم وأمام أية تجربة جديدة يبدو كأنه يكتب للمرة الأولى والأخيرة في آن.
جسد يرتعش مثل طفل مذعور مقبل على الوحش. كثيراً ما أتركه وحده في الغرفة مريضاً يوشك على الموت، وعندما أعود إليه في اليوم التالي، يضع أمامي النص ويجلس مثل شحاذ ينتظر ردة فعلي. ينتحب كأنه الميت يرثي نفسه. وما إن أقول له الكلمة، حتى يستعيد صحته ويقفز مثل عفريت مستعدٍ للحياة كأنه وُلد للتو.
ورغم مظهره الذي يوحي بالرزانة إلا أنه عابث من الدرجة الأولى. يرى في أشياء العالم طاقة محبوسة يتوجب إطلاقها من أسرها، لذا فهو لا يترك شيئاً على هيئته، حيث النقائض في النص يتوجب أن تكون على آخرها. يشتغل على الكتابة كمن يبني جسده وروحه بالكلمات. يضع أمامه على الطاولة خرائط الطريق، وعندما يبدأ الكتابة ينسى ذلك كله ويصوغ شيئاً لا يتصل بالخرائط ولا بالطريق، ذاهباً إلى النص مثل ضائع مفقود في أرض مجهولة. وفي المساء يضع رأسه على كتفي ويشرع في البكاء، لأن الكلمة لم تزل عصية عليه.
يكتب كأنه يولد كأنه يموت، مولع باليأس كأن الأمل خطر عليه.
أقول له أن الكتابة هي ضرب من دفق الأمل في العالم، فيبالغ في تشبثه باليأس كمن يتحصّن ضد أوهام لا يراها أحد معه. لا تعرف ما إذا كان يفْجٍرُ بالكتابة أم تُصَلي به.
تعبتُ معه وتعبتُ منه. كلما تقدّم به العمر، تفاقمت فيه شهوة النقائض وراح يتصرف مثل فتى أرعن. لم يعد جسده قادراً على عبء الروح التي تتفلت منه مثل نار تفيض على الموقد. كثير الإدعاء بالمغامرات في حين أنني لم أصادف جباناً مثله. يزعم التوغل في ليل المعنى وهو لا يخاف شيئآ مثل رعبه من الأماكن المظلمة. يدعي بأنه منذور لموج التجربة وهو الذي لم يحسن العوم أبداً. مسكون بفقدٍ غامضٍ للأشياء التي يحب.
ماذا أفعل له. هذا شخصٌ مشحون بالتناقضات. اشتهرَ بالتطرف في كل أشكال حياته، فيما هو عرضة للتلف أمام هبة الريح العابرة. يتظاهر بالصلابة وهو الكائن الهش لفرط حساسيته اليومية. لماذا يتوجب عليّ دوماً أن أكون قريناً لشخص على هذه الدرجة من الغموض.
قلبه طفل يراهق، ويتكلم مثل حكيم.
يموت قليلاً، أحسبه مريضاً فأحمله إلى نطاسي الجسد والروح، فيهز الجميع رؤوسهم أن لا فائدة، حالته مستعصية ويتوجب منحه رصاصة الرحمة مثل أي حصان مكسور القوائم. وفي الطريق إلى البيت يشبّ وينفلت مني هارباً إلى السهوب ولا أكاد أسمع عنه شيئاً. وفي اليوم التالي ينهرني لكي أقرأ كتابه الجديد. وحين أقول له عن الغموض، يبتسم بحذر ويقول: "لو فهموا المعنى لأهدروا دمي".
موهبته في التحول تجعلني في حيرة. ليس له صورة واحدة، ولا تشفّ المرآة عن شخص أعرفه في كل مرة. كلما ضاعفت له المرايا تكشف عن شخص آخر. فلا أنا أثق في رؤياي ولا هو يسعف توسلي أن يكف عن ذلك. ليس سهلاً الحياة مع شخص لا يحسن شيئاً مثل تضليل الآخرين عن السبل التي يمضي فيها. يشكّ في كل شيء ولا يرى في الكتابة سوى قناديل سوداء في يد كائن أعمى يقود سرباً من الموغلين في النوم نحو أحلام تضاهي الكوابيس.
أنصحُ به علاجاً لرأس صحيحة، لتحصل على صداع مضمون.
عليك أن تتفادى شراكه المنصوبة في منعطفات دروبه، فلن تخلو من أسباب الغيظ من الذات بعد عبور أحد نصوصه عليك، في نوم ويقظة. يعبر راحة الآخرين فيمنحهم ما يفيض عن حاجتهم من القلق المقيم. يقول لك بلسان طلق ذلق غير منزلق : أن الجنة في المتناول، وما عليك إلا أن تصدق دعابات الجثة الرشيقة وهي تعبر نحو سريرك، فهي جثتك. ولكن كلما طفق في حديثه عن الصدق وضعت يدي على قلبي، فأكاذيبه لا تحصى، ولن تجد شخصاً يروي الأكاذيب بصدق فاتن مثلما يفعل. وهذا ما يضعني في مجابهة غضب الآخرين وهم يعلنون استنكارهم لشاعر عابث على هذه الشاكلة.
ماذا أفعل له. ماذا بوسعي حقاً أن أفعل لشخص لا يأخذني ولا يتركني وحدي. كلما حاولت استمالته للمجالسة والتفاهم قليلاً أعلن: "لست منسجماً ولست مهيئاً للإنسجام". أليفٌ وبريّ في آن. كأنه لا يكتب النص للإتصال بالآخرين ولكن لينقطع عنهم ويبتعد، ويبالغ في ذلك ويباهي به.
جوهره أكثر ضراوة من مظهره. مغامر في الكتابة ومحافظ في الحياة، نصه أكثر تقدمية منه. أقول له عن هذه المفارقة، فيهزّ كتفيه قائلاً: "لا يهم، أنا لست أنت، أنا غيرك". لديه أصدقاء كثيرون، وأعداءه لا يحصون. يردد: "مادمنا لا نستطيع كسب أصدقاء جدد، فعلينا الإحتفاظ بأعدائنا السابقين". موهبته في ابتكار الأصدقاء لا تُضاهى، لكنه لا يفرط في العدو بسهولة.
يقول: "أن تحويل الصديق إلى عدو أسهل من كسب العدو صديقاً". عنده، أن العدو أكثر صدقاً في علاقته به من الصديق، ربما لأنه أكثر وضوحاً وصراحة. العدو لا يندم على كونه كذلك، الصديق يندم لكونه صديقاً لك أحياناً ويهرب من كل مكان ليذهب إلى البيت.
ثمة شعور بالخطر يهدده دوماً خارج البيت. وهذا ما يجعله يحب السفر كفكرة، لكنه لا يحتمله في الواقع. ما إن يدركه المساء بعيداً عن البيت حتى تنتابه حالة الذعر الغامض، فيتصرف مثل وحش جريح ومحاصر. بعد سفره بساعات قليلة يخالجه الندم على ارتكاب تلك الحماقة. لا أعرف حقاً من أين تأتيه القدرة على كتابة الشعر وهو في مثل هذه الحالة من اللاأمان. طرحت عليه مرة هذا السؤال، فنظر إلي بغضب وقال: "المطمئن لا يكتب شعراً، إنه لا يخاف شيئاً ولا تصيبه الرجفة الداخلية العصيّة على التفسير. إنني أكتب الشعر لأنني خائف وفي خطر دائم. وحده الشعر يحميني من العالم. أنت لا تعرف ذلك، لأنك لن تشعر بفقد شيء مفقود".
فكّر في الانتحار غير مرة، لكنه لم يجد الوقت لتنفيذه. هذا ما يزعمه. أعرف أنه أجبن من أن يفعل ذلك. فهو لا يجرؤ على الحياة، فكيف على الموت. ولعه بالمنتحرين والمجانين يثير الريبة. لعله لا يزال يحسن التماهي في الكائنات الأخرى. وكثيراً ما كنت أخشى من أن أصحو ذات صباح فلا أجده موجوداً في الحياة، وهو يلتذ بهذا الخوف الذي يسيطر عليّ، كأنه يعبث بشخص آخر. تخيلوا شخصاً ينهض من النوم ليجد نفسه موجوداً في هيئة شخص منتحر. إنني لا أحتمل هذه الفكرة. لكنني لا أجد فكاكاً من هذا القرين الذي يعبث بي ويزعم أنني هو.
هذا هو قاسم حداد.. تقريباً.
لَكَمْ توهمت أنني رأيته في هذه المرايا، فيما كان متماهياً في الزئبق.
ها أنا أثق بأنني لا أعرفه أبداً.
من يزعم أنه يعرف نفسه.

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى