ابراهيم بن محمد الخليفة،
هيبة الشخص وبلاغة النص
فيما أستجيب لدعوة الكتابة عن (حدود التحديث الشعري في نصوص الشيخ إبراهيم)، أجد أنه من طبيعة أشياء الحياة أن يجعل المرء نفسه مستعداً دائماً لسماع وجهات نظر غير مألوفة أو غير متوقعة، لا لكي يقبلها كحقائق نهائية، ولكن لئلا يبالغ في ثقته المستقرة، وخصوصاً لكي يختبر قدرته البشرية على إعادة النظر المستمرة في الحقائق التي نشأ على سماعها كأنها فصل القول. وفي الفن والأدب خصوصاً ليس ثمة آراء نهائية وقاطعة، فكل ما يصدر هو ضربٌ من قراءة جديدة للنص، لئلا يموت.
من جانب آخر، أشعر باطمئنان غامض بأن القائمين على دراسة تراثنا الأدبي والثقافي سوف يتفهمون الضرورة التاريخية لإعادة النظر في جميع المسلمات التي أوشكت أن تكون حكماً ناجزاً لا يقبل النقض، تماماً كما هو الحال مع مجمل تاريخنا الاجتماعي والسياسي الذي ظل لسنوات طويلة بمثابة الدائرة الجهنمية التي لا تقبل المسّ، مما جعل حركتنا الحضارية قائمة على خلل في المصدر المعرفي، يتبعه خطأ في التحليل التاريخي، تترتب عليه نتائج زائفة تشبه التلفيق (بالوعي حيناً وبالجهل حيناً، وبقدر لا بأس به من المجاملة المبالغ فيها أكثر الأحيان).
فيما يتصل بتجربة الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة (50 18-1933 (، أعتقد أن أحداً لا يريد تأكيد شاعرية شخص لكي يطمئن ويرتاح. وعلى الأرجح أن راحة الشيخ إبراهيم سوف تتأتى دائماً من كون شيء من سعيه الإصلاحي قد أخذ مجراه الطبيعي في حياتنا، (وإن بعد حين).
إذا كانت الشاعرية (بمعناها الفني) ستتجلى في تبلور ذلك الحماس المبكر من أجل إصلاح العالم، فان شهوة إصلاح الكون (أو تغييره) سوف تمثل دائماً واحدة من ملامح شعرية العالم الحديث. غير أن النصوص التي بين أيدينا لن تسعف ذلك الذهاب الذي تطلعت إليه تجربة الشيخ إبراهيم. فإذا كان هو قد ساهم في التحول الاجتماعي، وأكد رغبة المجتمع في التغيير بالمعنى السياسي، فان المسافة بين ما تحقق هناك وبين ما يمكن وصفه (بإصلاح) القصيدة، بالمفهوم الفني للتغيير، هي مسافة كبيرة وواضحة. وهذا ما يقودنا للإعتقاد بأن شاعرية الشيخ إبراهيم سوف تكمن طوال الوقت في حلمه الاجتماعي في التغيير وليس في نصه الشعري.
وفي سياقه التاريخي، سيبدو النزوع الأدبي لدى المصلح الاجتماعي والسياسي، ضرباً من الاستكمال الثقافي لصورة المصلح، كأن هذا النزوع تدوين بلاغي لسعيه في شكل نص أدبي، وليس أكثر من الشعر لبوساً يمكن أن يظهر أو يتظاهر فيه. وسوف يكون الشعر دائماً هو الشكل الأرقى وغاية السعي في المشهد العربي، لفرط الإيمان الميثولوجي بأن الشعر هو علم العرب وديوانهم، حيث لا تكتمل هيبة الشخص إلا بالنص، وحيث لا تكتمل المكانة ولا الجاه ولا الأهمية للعربيّ إلا بالشعر.
الولع الشخصي والانهماك في المشاغل الأدبية والثقافية من شأنهما أن يشعلا شهوة التعبير الأدبي (الشعر خصوصاً)، لكي تظهر صورة صاحب الصالون، في كونه راعياً ثقافياً، متجلية في إسهام نصيّ يجاري النصوص المتداولة. فمجرد هذا الإسهام من شأنه أن يقترح حكم قيمة لا يمكن للشخص (في ذلك السياق) تفاديه، وتالياً الإستجابة له والتعاطي معه.
إذا كان الحكم على النص الشعري من خلال حجم الحضور السياسي/الاجتماعي لصاحبه، شيئاً مقبولاً ومفهوماً في لحظته التاريخية، فإنه في لحظتنا هذه ليس غير مقبول فحسب، بل إن من شأنه في تقديري أن يربك التوصيف الموضوعي للتاريخ الشخصي والأدبي للشيخ إبراهيم.
إن المسافة الواضحة بين فعل الإصلاح الذي ينزع إلى تحديث الواقع الاجتماعي والسياسي من جهة، والطبيعة التقليدية الاستعادية للنص الأدبي من جهة أخرى، هي مساءلة لا تخدش الصورة الشخصية في وصفها طموحاً أدبياً مشروعاً لا تصادره أو تنفيه وجهات النظر الخلافية مع النص، ولا تقلل من أهمية المشروع الإصلاحي (سياسياً واجتماعياً) الذي يظل مشروعاً قابلاً للدرس والاستلهام، باعتبار أن جانباً من معطيات الواقع لم يزل يتطلبه ويسعى إلى تحقيقه. ففي تجارب إصلاحية عربية كثيرة، كان المصلحون يتوسلون الأدب والشعر للتعبير عن أحلامهم وبرامج عملهم الطموحة. ويندر أن نصادف مشروعاً إصلاحياً عربياً جمع بين نجاح البرنامج السياسي ونجاح النص الأدبي في آن، لأن الخطاب السياسي يصدر دائماً عن وهم القيادة، في حين أن جذوة الشعر لا تقبل الانقياد للأوهام أبداً.
في قصائد الشيخ إبراهيم، ليس ثمة نص شخصي يصدر عن الشاعر كذات شاعرة. انه يكتب دون أن ينسى لحظة أنه الشيخ المصلح التنويري صاحب المشروع. وهذا ما يجعل النص متعالياً نحو مشاغل وثيمات تتماهى في ذوات أخرى، وفي حقول هي دائماً خارج الشعر، مما يدفع النص إلى خطاب الوعظ والتوجيه وابتسار الحكمة. لم يكن الشعر (بوصفه فناً) مشروعاً ذاتياً بالنسبة إلى الشيخ إبراهيم، ففي السيرة المعروفة له سوف نلاحظ غياب الهاجس الأدبي عن مراسلاته الشخصية، كنزوع للتجديد الفني في التعبير الشعري.
ومن مراجعة ما نشر حتى الآن من سيرة الشيخ إبراهيم، لا نصادف زعماً بأنه شاعر بالمعنى (الإبداعي) للكلمة، كما أنه لم ينقطع للشعر. بل إن اهتمامه الأساسي، كان طوال حياته، منصباً على المشاغل السياسية والاجتماعية بالدرجة الأولى، ولم يكن الأدب والشعر إلا من بين الأدوات التي وظفها لتكريس ونشر مفاهيمه وطموحاته الإصلاحية. وهذا سلوك عربي سيُفهم دائماً باعتباره اتصالاً قديماً بضرورة شاعر القبيلة المعبر عن مشروعها، وهو مفهوم (إعلامي) سوف يتظاهر أحياناً في التداخل الشفيف بين هموم الشخص الاجتماعية والعائلية (في الاخوانيات) وبين الانهماك العام (من شكوى الدهر والمراثي) التي، في حالة الشيخ إبراهيم، شكلت النص المستعاد (في أكثر من قصيدة) والذي اعتبره البعض نموذجاً متكرراً لشعريته.
إن معاصرة الشيخ إبراهيم ومراسلاته مع الأديب والرحالة اللبناني أمين الريحاني لم تتجاوز رسالة أو أكثر لم تشٍ لا من قريب ولا من بعيد بقضية أدبية مشتركة بينهما في ما يخص فن التعبير الشعري، بل إن الريحاني (في كلمته) لم يشر إلى صديقه بوصفه تجربة شعرية على التعيين. في حين أن الريحاني كان (آنذاك) يمثل واحداً من النزوعات المتحررة المبكرة في التعبير الأدبي، فهو من بين أهم الأسماء العربية التي ساهمت في إطلاق النزعة الرومانسية على صعيد التعبير الشعري الحديث وبصورة تكاد تكون ثورية من حيث جذريتها في الخروج على شكل النظم العربي، عندما نتذكر كتابه الأشهر(هتاف الأودية).
ليس ثمة انشغال بقضايا التعبير الأدبي (الشعر خصوصاً) في مجمل اهتمامات الشيخ إبراهيم، حتى أننا لا نكاد نصادف أي احتدامٍ (شعري) لافت، شابَ مجالسه الأدبية ونشاطاته الثقافية التي رعاها لسنوات. فرغم أن مرحلته التاريخية شهدت تفجر التحولات التعبيرية على صعيد الشعر العربي، فإننا لا نلمس لها أي صدى في وقائع حياته أو مجالسه أو مراسلاته، ولا أي انعكاسات من خلال انهماكه الأدبي والثقافي، ناهيك عن تقليدية نصوصه ونمطيتها في المحافظة وعدم الخروج عن السائد.
الشعر مثل الشمس،
لا يجري البحث عنه في النص، فهو إما يكون موجوداً أو لا يكون.
الآن / هنا ،
نحن أمام حقيقة فنية متاحة، إذا أردنا درس النص الشعري المنجز في بداية القرن العشرين.
|