شرط التقليد و فرط التجديد
( 1 )
لم تزل الكتابة العربية (الشعرية خصوصاً) ترتبك كلما واجهت فكرة الموسيقى في النص. وسوف يذهب الكثيرون إلى الموسيقى بالمعنى الخليلي الذي صاغ قوالبه مقترحاً اجتهاده الخاص، في ما يتريث البعض لينتبه إلى الرحابة الفنية التي يتطلبها مفهوم الموسيقى كروح شخصي تقترحه موهبة الشاعر بفعل سحر غامض يتصل بالحس العميق القائم بين الشخص واللغة وما في جماليات اللغة اللانهائية.
بهذا المعنى سيكون ارتباك الكتابة العربية (بوصفها قلقاً فنياً)، مستوعباً ومطلوباً قبل كل شيء، إذ ليس ثمة من يقدر على معالجة هذا النزيف الحميم الذي يتعرض له المبدع وقت الكتابة، إذا لم يكن مثل شفرة تحت الشحذ، مكترثاً بالإيقاع حتى تشفّ روح العاشق.
( 2 )
في غير مكان، وفي أكثر من مناسبة، كنت أعتبر عنصر الموسيقى الكنز الخفي الذي ليس من الحكمة التفريط فيه من قبل الشاعر، وبهذا الخصوص قلت أنه بقدر ما يتميز الشاعر بحرية المخيلة في إعادة إنتاج وابتكار مفهوم الموسيقى في الكتابة، بقدر ما يكون نصه مرشحاً لاقتراح هارموني شعري يصدر عن الصدق الإنساني ويذهب إليه. فمن غير المتوقع أن يأتي على الإنسان زمن يفقد فيه شرطاً جوهرياً من الشروط التي تميّز الشعر عن النثر (بالمعنى التقني والإبداعي للكلمة)، ففي كل مراحل تطور الأساليب الفنية للكتابة الشعرية في العالم، كانت التحولات التي تطرأ، بشتى اتجاهاتها ومدارسها، تقترح علينا ملامح وعناصر لا تنفصل عن الجذر الأول للنص الشعري، والذي يتصل بالروح العميق لمعنى الشعر في الحياة والكتابة. وبالطبع فإنّ الموسيقى هي من بين تلك الملامح الأساسية التي كانت تحضر مثل طيف شفيف، مانحةً النص طبيعته التي لا يشبهها شيء آخر غير الشعر.
( 3 )
بقي أيضاَ أن نتفهم الفرق (لئلا أقول نفصل) بين مادة التجربة الشعرية الجديدة في كل عصر، وهي هنا النص الشعري، وبين ما يتبرع به المنظرون في حقل التسمية. وإذا كان بعض السيميائيين يعتبر فعل التسمية إسهام مباشر في إنتاج المعنى، فإن الأمر هنا سيكون على درجة من الدقة، إذ من المحتمل أن لا تكون التسمية قادرة على الإدراك أو الإحاطة بطبيعة التحول الفني (بنية وأفقاً) في الكتابة الأدبية.
وإذا كان الغربيون قد تمكنوا من حسم دلالات التسمية المضطربة لتميز نص الشعر الحر عن قصيدة النثر في تجربة شعرهم الحديث، بسبب وضوح التحولات الفنية في تراثهم الأدبي، فإن الأمر سيكون أكثر إرباكا لأصحاب الكتابة العربية، وقد رأينا كم أخذ الحوار والجدل حول مجرد تسمية تجربة الخروج عن الوزن، من الوقت والجهد ما يستغرق أضعاف طاقة السهر على إنجاز النصوص الشعرية ويستنفذها. غير أن كل ذلك لم يكن جديراً بذلك الوقت الضائع. علينا الإعتراف الآن أن كل ذلك الكلام حول مجرد التسمية كان هدراً صريحاً لجهود شعرية ونقدية كانت ستحقق الكثير من العمل لو أنها تجاوزت كل ذلك الهذر. ففي التجربة الشعرية ما يستحق من السهر أكثر من التسمية.
وبالمقارنة بين حاجتنا لتأمل مفهومنا للموسيقى الشعرية وما تقترحه علينا التجربة الجديدة من إعادة فهم لمعنى الموسيقى في الشعر، وبين ما أخذ منا الكلام عن التسمية، أعتقد أن التفريط في ذلك كان فادحاً، إلى الحد الذي سيضع أكثر من جيل من الشعراء في فقر من العمل النقدي المتصل بالنصوص وليس التنظير في الشعر. ولو أن نقاداً تفرغوا تحديداً لدراسة النصوص الشعرية الأساسية، من أجل اكتشاف وكشف البنية الموسيقية الجديدة التي تقترحها علينا تجارب الشعراء، لكان لدينا الآن تراث نقدي غني من شأنه أن يسهم في تأسيس استعداد مختلف لدى القارئ يجعل مفهوم الموسيقى أكثر حرية ورحابة مما هو عليه الآن.
( 4 )
الموسيقى هي السحر الغامض الذي تشع به اللغة العربية في عبقريتها وجمالياتها التي ألهمت علماء اللغة وفقهاء التنظير في النحو والصرف من جهة، وشحذت مخيلة الذين اكتشفوا سر العلاقات الباهرة بين الحروف والمفردات والكلمات والجُمل والأعراس والنحيب والصمت والكلام من جهة أخرى، من أجل اقتراح تلك الأوزان والبحور التي ظن الكثير من العرب أنها القول الفصل في تاريخ الإنسان والشعر العربيين، كما لو أن الخليل بن أحمد والأخفش وغيرهما، قد وضعوا للكتابة الشعرية حدودها الأبدية، لكي يأتي نقاد يصدرون في كلامهم عن تلك المقترحات تماماً كما صدر مفسرو وشراح النص الديني لكي يكون جواب الأبد.
وظني أن ما فعله أصحاب النقد من الفداحة بحيث أنهم لم يصادروا حق اكتشاف آفاق موسيقية جديدة للكتابة الشعرية العربية فحسب، وإنما أيضاً (قياساً على ما فعله مفسرو وشارحو النص الديني) سدّوا الطريق أمام الروح الإنساني في الحياة العربية وثقافتها وأمام الأمل في ملامسة جمال الإيقاع في التعبير الأدبي، لكي تبدو حياتنا على هذه الدرجة من الجفاف لفرط غياب الحس الموسيقي عنها، حتى أكاد أشعر بوطأة المعنى الأخلاقي التقليدي الذي كان له موقفاً سلبياً من الموسيقى كفن من فنون الحياة. الأمر الذي سينسحب على كل فعالية إنسانية في مجمل حياتنا العربية، حيث كان الاجتهاد في حقل الموسيقى (أو مجرد إعادة النظر في نصها الأول في الشعر التراثي) هو ضرب من الخروج على كيان الحياة العربية، وتالياً تحريض على تقويض البنية الشاملة القائمة على قبول الموروث الثقافي بشتى تجلياته.
( 5 )
في مقابل ذلك، يجوز لنا التعبير عن قلقنا لما يتعرض له النص الشعري الجديد من صمت (لفرط غياب الموسيقى عنه) على اعتبار أن في ذلك ذهاباً مبالغاً فيه لمجابهة أصحاب أوزان الخليل، حتى ليبدو لنا الأمر، بينما نقرأ معظم الكتابة الشعرية الآن، كما لو أنها كتبت لقراءٍ من الصُمّ، بسبب الغياب الفادح لأية موسيقى تشي بأن كاتب هذا النص هو شاعر عربي يصدر عن اللغة العربية ذات الجماليات الموسيقية الباهرة والتي لا نهاية لمكتنزاتها الإيقاعية.
لابد أن يكون قلقنا مشروعاً، فهو قلق يتطلب منا التحلي بقدر من الشجاعة لعدم تفادي مسؤوليتنا المباشرة في مناقشته، لئلا نصدق، في مستقبل الأيام، أن ثمة شعراً يمكن أن يُكتب بمعزل عن الموسيقى.
إذ ليس من الحكمة مجابهة شرط التقليد بفرط التجديد.
|