النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

يسينين،
ليس ابتكاراً أن تموت

(إلى الصديق عبد الواحد أحمد عبد الرحمن،
أول من عرّفني على "شهانا" يسينين)

( 1 )

باردٌ الليل في الخارج، والشاعر يجلس في غرفة شبه معتمة في فندق شاحب. وكلما التفت خارج الغرفة، لمح برودة الليل تتكاثف حتى توشك أن تصير ندفاً ثقيلة من ثلج يتساقط كسولاً.

الشاعر يجلس على السرير مسنداً ظهره للحائط، وبين يديه حبل أشعث يشتغل ببطء على برمه بدقة المحترف وبراعة الهاوي. شاعر يبرم حبلاً، ويرفع بصره بين وقت وآخر، يتأمل، باحثاً في تضاريس السقف عن استجابة تتفهم نزوته النزقة والحميمة، الطارئة والأبدية.

صارت أصابعه ماهرة في إقناع خصلات الحبل بمزيد من الطاعة والليونة، وسوف يبدو العمل فاتناً عندما تتخيل شاعراً يعتني بعنقه حتى اللحظة الأخيرة. وينبغي ان لا يكون الحبل خشناً، لئلا يخدش الحلم الطري، أو يعطب غرفة الحنجرة الرشيقة التي عزفت أجمل أشعار الحب. وحده في ضوء متثائب، يصوغ نهاية تليق بشاعر وحيد إلى هذا الحد. شاعر يمسّد حبله براحتين طريتين جاءتا من ترف الرومانسية وحرقة الحب في آن.

بارد الليل في الخارج.
ذلك الخارج الذي لم يعرف وهج الحب، ولم يتح للروح ما يكفي من المكان والزمان لكي تنهل من الرومانسية. ظهره للحائط، وسقف الغرفة يبالغ في انخفاضه ساعة بعد الأخرى. والحبل يزداد نعومة، رأفة بعنق شاعر وحيد في ليلة وحيدة.

ربما كتب قصيدته الأخيرة صباح ذلك اليوم.
ربما أبدى اكتراثاً بمقالة تذرعت بالشعب لتهجو شعره العاطفي.
ربما أنجز مراجعة بروفة العدد الأخير من المجلة التي يشرف عليها. ربما ترك قسطاً كبيراً من الحليب في قدحه عند الإفطار.
وربما تريث لحظة وهو يودع جاره عند مغادرة البيت.

والأرجح أنه ترك قلمه مفتوحاً فوق طاولة الكتابة إلى جانب بعض الأوراق البيضاء المنتظرة. ومؤكداً أنه تفادى كل مواعيده في الأٍسبوعين السابقين إلى درجة أنه كان يترك قبعته تميل إلى الأمام مغطية معظم وجهه، لئلا يصادفه أحدهم ويبدأ في اللوم والتقريع.

ولابد أنه تمنى لو أن أحداً أنقذه من الموت بدفقة طاغية من الحنان والحب. أعني لو أن أحدهم خرج (وأخرجه) عن حدود المشهد الذي بدأ الشاعر يصوغه منذ أيام. لو ان أحدهم خطفه من نفسه وخرج به ناحية البحر أو أطراف الغابة. لو أن أحداً ...

لكنْ، بارداً ظلّ الليل في الخارج. وها هو الآن يزداد برودة، ويوشك الجليد أن يسد الطرقات. فكانون الأول في مدينة مثل هذه سوف يضاعف عدد الطرقات المسدودة والسبل المقطوعة.

ثلاثون عاماً ليست بالعمر الطويل، لكي توحي بأن ثمة سأم يمكن أن ينتاب مزاج شاعر فتي مثل يسينين، أو أن يأساً من حياة بكر يمكن أن يجفف روح الشاعر، وهو بالكاد منهمك في رسم ملامح حياته. ثلاثون عاماً ليست طويلة ولا تكاد تكفي لاكتمال احتضانة العاشق لخصر حبيبته. وهي أيضاً لا تزال مبكرة على تبادل القبلات العشر الأولى في قصيدة الحب الطاغي التي بدأت تتشكل في مقدمة المشهد الشعري الروسي منذ بوشكين حتى ماياكوفسكي.

ماياكوفسكي الذي سوف يكتب قصيدة يلوم فيها يسينين على انتحاره. مايكوفسكي، نفسه، الذي (بعد ذلك بأربع سنوات تقريباً) سوف ينتحر. ماياكوفسكي في عز شبابه هو الآخر ينتحر. أمر مفجع من شأنه أن يدفعنا لصاعقة الفقد والأسئلة: لماذا شعراء في هذا العنفوان ينتحرون بهذه السلاسة، دون أن يتوقف الكون برمته متريثاً أمام موت الشاعر، ناهيك عن أن يموت منتحراً؟

لاشك أن ثمة من طرح هذا السؤال (آنذاك). ومن المؤكد أن ثمة من توقف كثيراً أمام ذلك الذهاب الفاجع. والواقع أن (الكون برمته) لم يكترث بالحدث ولا بالسؤال. فمن مات مات انتحاراً أم قتلاً أم كمداً. ولم تبق لنا سوى الكتابة، وتلك القصيدة التي كتبها مايكوفسكي عاتباً على صديقه يسينين المنتحر.

تُرى هل اعتبر مايكوفسكي تصرف صديقه خذلاناً ذاتياً بشكل ما؟ ربما انتابه حسد المتمني على خطوة كان يحب أن يدعى للمشاركة فيها. وربما كان ذلك الانتحار المبكر تأكيداً شخصياً لماياكوفسكي على أن الطريق المسدودة والسبل المقطوعة، لا تزال كذلك. وأن القارب سوف يتحطم حتما على صخور الشاطئ بضراوة، ودونما رحمة. وربما كان ماياكوفسكي يشير إلى نفسه، وهو يغبط يسينين على الفعل الذي فعله "متقناً ما عجز عنه الآخرون".

( 2 )

في الغرفة الضعيفة الضوء. يفصد يسينين أحد عروق يده ويكتب بدمه هذين البيتين، قبل أن ينتحر شنقاً:
(ليس ابتكاراً أن تموت في هذه الحياة
وأن تحيا، ليس أكثر ابتكاراً).

لماذا يذكرني فصد الدم هنا بشاعر عربي قديم روت عنه الحكايات أنه مات (أعني قُتل) بفصد الدم، عقاباً على خروجه على القبيلة؟
تُرى هل سيموت الشعراء بفصد الدم دوماً، كل على طريقته، أعني، كل على شكل دمه....؟

( 3 )

..... ليأتي مايكوفسكي في ما بعد، ويكتب هذه القصيدة:

( في الحلق صليل الأسى
و أراك
تأرجح كيس عظامك
متقناً ما عجز عنه الآخرون
هارباً من هلوسة النقاد
ومن مفاهيم " الطبقة"
أعرف
أنك لم تستسغ جمالية "الطبقة"
مع أن "الطبقة" مثلك
تحب البيرة والنبيذ
لكن الحياة مدمرة
تجعلك أحياناً
تفضل الموت من الفودكا
على الموت من السأم.
يا يسينين
لماذا احتسيت دمك في فندق (إنكلترا)
ألم يكن من الأفضل
زيادة إنتاج الحبر
ومحاربة الانتحار؟
ألم يكن من الأفضل
إعادة إنتاج الحياة
في هذا الزمن المعاند الريشة
المنزلق كطوفان من إبهام؟
ألم يكن من الأفضل
انتزاع الفرح من الأيام الآتية
ففي هذه الحياة
ليس الموت ابتكاراً
الابتكار أن نجعل الحياة أجمل) 1926

( 4 )

خرج يسينين من تجربته مع الثورة الروسية مشحوناً بحس الغربة والحزن العميقين. لم يتمكن كثيراً من تفهم ذلك التحول الهائل. ولم تتمكن تلك التحولات أن تفهمه. لم يكن عدواً لذلك التحول. ولكن الثورة فشلت في ان تكون صديقة لشاعر مثله. جاء إلى المدينة قروياً مفتوناً بالشعر. وسرعان ما اقترح بتجربته الفنية والإنسانية روح الصعلكة التي كانت نقيضاً متمرداً للمناخ الذي فرضته تلك التحولات المتجهمة العنيفة.

جرّب الزواج ثلاثاً. الأولى عام 1917، والثانية مع الراقصة الأمريكية الشهيرة ايزادورا دنكان، والثالثة مع حفيدة تولستوي. لكن، ذلك لم ينفع. لم يكن يطيب له ليلٌ إلا في حرية الحانات لكي يراه الآخرون (شبحاً مسكيناً ضائعاً إلى الأبد).

عمل في مهن مختلفة. من مصحح في مطبعة، إلى سكرتير تحرير مجلة. لم يلتئم مع عنف التحولات. ولم ينسجم مع منظورات العمل الثقافي المربوط من رأسه. لم ترق له قوانين المؤسسات (الحزب، العائلة، الدولة، التجمعات الأدبية). ولم تكن البدائل التي يحلم بها متاحة. لقد كان وحيداً إلى هذا الحد. ربما لأنه لم يتنازل عن طبيعة القروي الذي لا يريد أن يرى شيئاً في معزل عن الحب. والحب سوف يعتبر، في ذلك المناخ، ضرباً من الابتذال.

( 5 )

لذلك حمل أوراقه الأخيرة وذهب إلى تلك الغرفة شبه المعتمة.
جرح نفسه وكتب:
(وداعاً، وداعاً
يا صديقي أنت في القلب
إن افتراقنا المحدد هذا
يعدنا بلقاء فيما بعد
وداعاً، يا صديقي،
دون مصافحة
ودون كلمات
لا تحزن،
ولا تقطّب حاجباً
ليس جديداً أن نموت في عالمنا هذا
وليس أكثر جدة، بالطبع، أن نحيا).

( 6 )

صديق لي كان يحفظ شيئاً من أشعار يسينين، ويردد دوماً قصيدة كتبها الشاعر عن فتاة فارسية اسمها ( شاهانا).

هنا نصها مما ترجمه الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر:
( شاهانا، شاهاناي
ما دمت رجلاً من الشمال
يمكنني أن أقص عليك خلسة
شيئاً من الحنطة السوداء المقمرة المتوجة
شاهانا، شاهاناي
ما دمت رجلاً من الشمال
حيث القمر هنالك أكبر مئة مرة
ومهما تكن شيراز جميلة مما هي أكثر جمالاً
من سهوب رايازان الفسيحة
ما دمت رجلاً من الشمال
يمكنني أن أقص عليك خلسة
إني أخذت هذا الشعر من اصفرار السنابل
و إذا شئتِ لفيه على إصبعك
فلن أحس بألم
شاهانا، شاهاناي
في الشمال صبية أخرى
تشبهك كما لو كنت هي
ولعلها الساعة تحلم بي
شاهانا، شاهاناي).

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى