مايكوفسكي،
انتظار مثل العمل
( 1 )
وضع المسدس أمامه على الطاولة، وطفق يتحسس براثن البوابة الرهيبة التي أطبقت عليه. لم يعد الأمر يحتمل كلاماً آخر. هكذا رأى المشهد الأخير، وهاهو يكاد يثق بأن هذا ليس حلاً، وفي كلمته الأخيرة لم ينصح أحداً باعتماد طريقته في معالجة الأمر. فهو يعرف جيداً "أن الإدارة ستذهب والفن سيبقى"، لكن هذا ليس كل شيء. فالذين قصروا الأمر على الناحية السياسية إنما ساهموا في تغييب العمق الإنساني للشاعر. فقد كانت العزلة العاطفية هي التي ضاعفت وحشية المشهد. ليس سهلاً على الشاعر أن تتحول الحبيبة من كونها حلماً إلى ضرب من الوهم. الشاعر لا يعيش من غير حلم، وليكن حلماً مستحيلاً، على ألا يكون وهماً.
كتب لها في أيامه الأخيرة، وقت كانت حلماً:
"العمل وانتظارك هما فرحتي الوحيدة".
الحب، بالنسبة إلى الشاعر، هو الحصن الوحيد (والأخير أيضاً). وإذا فقد الشاعر حصنه الجميل يصبح عارياً أمام العالم. فليس مثل حنان الحب يستطيع أن يؤجج شهوة الحياة والإبداع في روح الشاعر.
لذلك،
وضع المسدس على الطاولة، وراح يتأمل ساعته الأخيرة.
هل شجاعة أن يذهب شاعر إلى الموت.. انتحاراً ؟!
لكن، هل السؤال هنا، أم في مكان آخر ؟!
( 2 )
التكوين الروحي للشاعر يختلف بما لا يقاس عن تكوين أي مخلوق آخر. هذه حقيقة ينبغي أن يتفرغ لسبرها واكتشاف معالمها باحثون مختصون لئلا نخسر (باكراً) المزيد من هذه الأرواح الجميلة يوماً بعد يوم. ليس الأمر يتعلق بشجاعة أو جبن. فما أن يتهشم البناء الداخلي للشاعر، حتى تكف الأشياء عن اتصالها بمنطقٍ ما متماسك. وليس مثل روح الشاعر بناءٌ هشٌ عرضة للعطب. إنه أكثر رهافة من جناح فراشة، وهو ضعيف وسريع العطب حالما يفقد أحد أهم عناصر البقاء الأساسية: حنان الحب.
والذين يرون إلى الشاعر باعتباره أسطورة الصمود والنضال والمقاومة في المطلق، يقعون في خطيئة كبرى. وما عليهم إلا أن يدفعوه إلى حالة الفقد تلك ليروا ماذا يصيبه من العذاب والدمار. افعلوا ذلك لتروه سريعاً كما فراشة تحت عجلة دبابة.
كل الحصارات والصراعات الفكرية وعسف السلطات السياسية وهجومات النقاد المتعجرفة والوحشية.. ما كانت لتنال من ماياكوفسكي لو أنه اطمأن لحبٍ يغمره بالحنان. فقد أشارت تجربة هذا الشاعر إلى بسالته الملحوظة عندما تعلق الأمر بدفاعه عن وجهات نظره وتصديه للعسف وابتكاره لوسائل فنية شكلت في حينه "صفعة للذوق العام". لكن ما أن فقد الحب حتى فقد الرغبة في الحياة. وهو الذي كان ينتقل من تجربة إلى أخرى بحثاً عن الحنان العميق والدفء المفقود.
لذلك،
وضع المسدس أمامه على الطاولة. واستعاد لحظات صغيرة وجدها بمثابة الإشارات الضرورية لنهاية تقف أمامه الآن.
ترى هل كان يرى مستقبله بهذا الشكل الجلي والفاجع في آن ؟
( 3 )
في سنة 1914 كتب في قصيدته (الإنسان) :
"يهفو القلب إلى الرصاصة
في حين تحلم الرقبة بالشفرة"
وفي سنة 1916 كتب في قصيدته (ناي الفقريات) :
"أفكر أكثر فأكثر
في وضع حد لحياتي برصاصة"
والذين يشكّون في رؤيا الشاعر، عليهم أن يشكّوا في شكّهم. الشاعر يسعى إلى مصيره مثل السائر في حلم. حلم يكون دوماً عرضة لأن يتحول إلى كابوس في لحظة ما. ولم يكن مايكوفسكي ذاهباً إلى موت كهذا إلا بالدرجة نفسها التي جربّها مواطنه الشاعر (يسينين) الذي انتحر هو الآخر بعيداً عن روسيا.
يومها، كتب مايكوفسكي قصيدته عن (يسينين)، متقمصاً دور اللائم على اختيار نهاية كهذه. وهنا يمكننا الرؤية إلى مشهد وهو يتكرر لدى شاعرين بشكل متواتر، من دون أن يسترعي انتباه العالم حولهما أو يستدعي اكتراثه من أجل إيقاف مثل هذا المسلسل الجهنمي.
يسينين كتب ذات قصيدة :
" ليس ابتكاراً أن تموت في هذه الحياة
وأن تحيا ليس أكثر ابتكاراً "
وعندما خاطبه مايكوفسكي أراد أن يقترح عليه حماساً متأخراً (لم يتمكن هو نفسه أن يؤمن به) في حياة لم يكن مايكوفسكي قد اكتشف صفاقتها بعد. :
" ليس أمراً جديداً أن تموت في هذه الحياة
الابتكار أن نجعل الحياة أجمل "
كان يحلم أن يرى تلك الحياة أكثر جمالاً، فلم تسمح له الدولة بذلك ولم يسعفه الحب أيضاً.
لذلك،
بحث مبكراً عن مسدس لكي يضعه أمامه على الطاولة، وينظر إلى قلمه وورقته البيضاء للمرة الأخيرة، كمن يحملق في كفنه.
لقد اختلج وهو يشهد على نفسه (ضد العالم) :
"انتهى الموضوع، زورق الحب تحطّم على صخور الحياة اليومية".
وبعدها تفاقمت شهوة تفسير (وتعتيم) ملابسات الذهاب المبكر لشاعر لا يغيب، فاتسعت الهوة بين حقيقة لم يعد يكترث بها أحد، وحب لم يعبأ به سوى مايكوفسكي أصلاً. هل كثيرٌ على الشاعر أن يبدو الحب سبباً وجيهاً للحضور أو الغياب. لماذا يجري التقليل من حق الشاعر في الحب بشكل خاص. الشاعر ليس حيواناً سياسياً، إنه عاشق في الأصل وقبل أي شيء ولن يقبل بأقل من ذلك.
أندريه بريتون كان اختزل مشهد ذهاب مايكوفسكي الباهر قائلاً :
"أن تحب أو لا تحب،
تلك هي المسألة".
لذلك،
اعتدل مايكوفسكي ببسالة العاشق المغدور،
التفت نحو نافذة مواربة،
صوّب فوهة النار نحو فوهة الجسد..
وأطلق.
كان ذلك في 14 أبريل 1930.
وهكذا انتهى الموضوع... الذي يبدأ دائماً.
|