النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

عبدالعزيز مشري،
عاش حياته كأنه يفعل شيئاً آخر

(دمي غسلته في المستشفى صباحاً،
وقلمي عبأته قبل قليل بالحبر الأسود).

هكذا كان يمارس الروائي السعودي عبد العزيز مشري طقوسه طوال أكثر من عشرين عاماً، لكي يغادرنا في مساء شاحب على سرير أحد المستشفيات التي هرب منها طوال عمره، معلناً أن صراعه مع الحياة قد انتهى، وبقي أن يبدأ مجابهته الكونية مع الموت. إن تجربة هذا الروائي مع المرض تشكل واحدة من بين أكثر تجارب الأدباء العرب طولا وكثافة لا بل وأكثرها صراحة.

في المرة الوحيدة التي التقيت فيها عبد العزيز كانت صدمتي بحالته الصحية كفيلة بمنعي عن النطق لبعض الوقت. فيما هو يجتاحني بشغف الفرح كأنه يلتقي صديقاً افترق عنه يوم أمس. وعندما كان يقول لي أنني أعرفك، اعترفت له بأنني لا أزعم ذلك. قلت في نفسي: هذا شخص يعيش حياته فيما يفعل شيئاً آخر.

لم يكن يعترف للحظة بأن هذا الجسد، الذي كان يخذله شلواً شلواً، هو أكثر من مركبة كونية للإنتقال إلى الفعل الأهم، والذي كان لعبد العزيز الكتابة. منذ سنواته الأولى مع المرض (حسب سيرته في كتاب مكاشفات السيف والوردة) أسس لحياته صيغة تجعل العلاقة بين الجسد والروح بمثابة المسافة بين الحلم والواقع، بحيث يتشكل الصراع بينهما في صورة جسد يتشبث بالجذور ليهبط بالشخص إلى ما تحتها، في حين تتألق الروح ناهضة بالشخص إلى الأعالي لتحقيق الأحلام.

الكتابة كانت حلم مشري الدائم. والقوة عنده لا تكمن في عضلات الجسد إنما ينبغي أن تتجلى في شهوة الانتقال الروحية إلى ضفاف العقل والمخيلة.
(تلك المقدرة الجبارة، التي لا تستسلم لأي قوى أخرى في الطبيعة، ولا تقف أمام صخور الطريق أبدا. انه العقل البشري العجيب، تلك الغابة المختلطة بالوجدان والأمل، والرغبة في تصعيد الحلم إلى الحقيقة) ع. مشري.

هذا التصعيد الروحي الذي كان يجترحه مشري مثل مستحيلات تضاهي طاقة البشر العاديين، من أجل إقصاء العجز المهيمن على المادة الجثمانية والذي يعيق الحركة الفيزيائية في الإنسان.

ليس سهلاً أن تشاهد شخصاً يفقد أعضاءه يوماً بعد يوم فيما هو يكتب نصوصه المتلاحقة يوماً بعد يوم. لم يكن سهلاً على الإطلاق أن يقايض الإنسان بجسده نصَه الجديد. فمقابلَ كل قصة أو رواية أو مقالة كتبها عبد العزيز مشري في السنوات الأخيرة من حياته، كان يخسر فلذة من فلذات جسده، وذلك بالمعنى المادي الفعلي للتعبير وليس المجازي فقط. لقد كان (يفرد دماءه على الورق دون محاباة).

لقد تعذب أضعاف ما كتب. هذا هو الشعور الذي انتابني وأنا في غيمة الهلع التي غطتني لدى سماعي خبر وفاة عبد العزيز. وقبل أن أستعيد تماسكي، اندلع التصور المخيف لهول الآلام التي يتحملها الكائن عندما يبعث ملاك الموت بريداً كسولاً لإنجاز مهمته بهذا البطء المخيف.

لقد كنت أتابع أخبار عبدالعزيز من خلال صديقنا المشترك الروائي سعد الدوسري الذي كان ملاكه الرهيف والحامل كيس عظامه من سرير إلى سرير، مأخوذاً بفكرة الصديق الذي يشعر بأظافر صديقه متشبثة بالحياة، أظافر موهنة لكنها، لفرط شهوة الكتابة، تكاد تخمش شغاف سعد الذي اتصل بي بعد منتصف ليل الموت الموحش من جدة، فأنهره : ماذا حدث؟ ليقول لي : كيف عرفت؟

كنت أتابع أخباره متفادياً حقيقةً أدراك حتميتها على الأصحاء فكيف بمن يحارب الموت بجسدٍ مفقودٍ، أو يكاد. لذلك عندما سمعت الخبر تيقنت بأن مقدار العذاب في هذه الحياة أكثر بما لا يقاس من المتعة، لكأن امتحان الكائن سيكون دائماً أصعب من مسافة التجربة وكثافة الدرس وحصيلة المعنى وأفق الدلالات. فالموت هو الموت، سيكون قاسياً قبل النص وبعده، أجاء باكراً أم تباطأ أم تظاهر أنه صارم مثل الوقت.

ومن يريد إعادة اكتشاف تجربة عبد العزيز مشري في الحياة والكتابة، محاولاً قياس المسافة بينهما، عليه عدم الاكتفاء بقراءة رواياته وقصصه، ففي اعتقادي أن فصل (الكتابة والمرض) على سبيل المثال الذي نشره ضمن كتاب (مكاشفات السيف والوردة) هو واحد من نصوص السيرة الخطيرة في تاريخ الكتابة العربية الحديثة، وليس هذا بسبب صدقه (حيث الصدق لا يكفي حسب مشري نفسه) إنما لكون الدافع (غير المعلن) إلى كتابته هو الضرب بفكرة الموت عرض الحائط. فبعد أن نجح مشري في ترويض الموت (الذي ليس من صداقته بد) حسب تعبيره، وجعله أليفاً إلى درجة انعدام هيبته التقليدية، وهي هيبة ما كان لأحد منا إدراكها مثلما فعل مشري بالذات. راح يطوّع أطرافه المفقودة، والمرشحة للفقد، على فعالية واحدة كانت هاجسه الأوحد : الكتابة.
وبعدما أصبح الموت قريناً تابعاً لا قائداً مُتبّعاً، جاز لمشري (بالكتابة أيضاً) أن يتبادل التنكيل معه، بالمعنى الذي يُظهر لنا الصراع متكافئاً، رمزياً على الأقل. فقد كان مشري يحيا على طريقة من يعيش الحياة فيما يفعل شيئاً آخر، إذ أن ثمة ما كان لعبد العزيز، دائماً، أهم من الحياة : الكتابة.

وعندما يعيد الدارسون مراجعة تجربة مشري (من خلال نص الكتابة والمرض) سيكتشفون أنه قد اعتبر مرضه مهمة سرية لابد من إنجازها : بعد الكتابة وقبل الموت.
وسيكتشفون أيضاً أنه كان يؤمن بالطاقة الغامضة في الإنسان الذي لا يحتاج إلا إلى إدراكه حقيقة اختلافه عن ضحالة قوانين الطبيعة المركبة، وقدرته على تحدّي تشريعاتها، ولذا فقد أعمل مشري نشاطه الذهني في محاولة اكتشاف قوانين جديدة خفية لها، وفي السعي إلى تركيبها بما يتلاءم وحاجاته.

لم يكن مشري ذاهباً إلى مكان بعيد، حين كان ينكّل بالموت ويضرب به عرض الحائط، وينجز نصاً جديداً، ويغسل دمه في الصباح معبئاً قلمه بالحبر بعد الظهر، وحين كانت أطرافه تتقصف عند منعطفات المستشفيات، وهو كنطاسي ينشغل بالعقاقير باحثاً عن تركيب جديد كأن لمعالجة شخص آخر، وحين كان يخرج من غيبوبة ليدخل في

 

كابوس، ويتغرغر بأصدقاء يتقلّصون، ويلهث في حضن أصدقاء يحملون كيس عظامه ويركضون به في عتمة الكتابة وشهوة القراءة، وحين كان ينهر الموت لئلا يغفل عنه منتعشاً بتبادل الأقداح معه. لم يكن ذاهباً إلى مكان بعيد في كل هذا، فقط، كان يمتحن بنا الحياة والموت.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى