هات " الجِفت " يا خليل
(إلى الشاعر خليل حاوي،
لمناسبة الذل العام)
رأيتَ الصرح الشامخ (الذي بنيتَه بالمخيلة) لنهضة العرب على شفير الهاوية. وسمعتَ هدير جنازير الدبابات الإسرائيلية قريباً من شارع (بلس)، دون أن تكون لدى العرب قدرةَ المجابهة والدفاع. ولو أنك تأخرتَ بضعَ دقائق أخرى لكنتَ رأيتَ الرجل الإسرائيلي ينظم المرور عند تقاطع شارع بالاس وشارع عبد العزيز الذي يفصلك عن النادي العربي الثقافي، وربما تعثرتَ به أيضاً عند طلعة آخر شارع (الحمرا) المؤدية عبر قصر صالحة وبناية بركات من طريق مختصرة، إلى الروشة. ولو كنتَ قررتَ الانتحار بمساعدة الصخرة المشهورة، التي يمكن مراقبتها من وراء زجاج مقهى (الدولشي فيتا)، لمنعك الإسرائيليون من ذلك، لكي يُقال أن شاعراً أُنقذ من انتحارٍ حالمٍ وقريب من البحر!
لذلك كله تناولتَ (الجِـفِـتْ) وخرجتَ إلى شرفة البيت، وضعتَ الفوهة في الرأس وأطلقت. مثل شخصٍ يصطاد نفسه، تفادياً لجُبن وغدر القنّاصين الذين كانوا يشغلون أعالي المباني والشرفات، أو كمن ينظّف الطريق أمام الدبابات التي جاءت في الموعد.
معك حقٌ يا خليل.
فمن يحلم بحضارة تنبعث في شرق جديد، ثم يرى حلمه يتعرض للدمار والإنهيار قبل أن يكتمل (لا أن يتحقق)، فمن حقه علينا أن نصدّق معاناته ونصقل له الطريق كي ينتحر، ونذهب نحن إلى النوم،
جريحي القلب،
كسيري الروح،
مشوشي الضمير،
وعلى درجة عالية من تورّم الوهم بأن ثمة أمل في الأمل.
كنتَ في الحلم،
فماذا ستفعل بنفسك لو أنك بقيتَ معنا. هل سيكفيك انتحارٌ واحدٌ عندما ترى ما آلت إليه الأحوال. يصعب علينا أن نتخيل رد فعلك على مجريات أمور العرب الراهنة. فالشخص الذي ينتحر احتجاجاً، سوف يموت ويذهب، تاركاً الأثر واضحاً، وهو أثر يظل يردد زاعماً، مثل الصدى، أن لا فائدة من هذه الطريقة للتعبير عن الموقف.
سيقال لك :
ليس مما يليق بالإنسان أن يرتكب الموتَ احتجاجاً على الحياة.
وربما كان هذا الكلام طيباً من شخص يجلس في شرفة الليل ليرى المشهد العربي كما لو أنه الفصل المنسي من (فيلم أمريكي طويل) كما اقترح زياد رحباني ذات جنون. لكن بالنسبة إلى الذي ينظر إلى الحياة من شرفة البيت، ويرى الجيش الإسرائيلي يتقدم (بأكبر الجزمات العسكرية قاطبة) لكي يلقّن لبنان (وهو هامش حرية لكائنات تنقرض) درساً في لياقة الخضوع، سيكون شاعراً مرهفاً مثل خليل، الذي لم يشعر بنأمة من طاقة المجابهة، في خريطة تمتد على أكبادنا من أزلٍ (كأنه أبد الآبدين)، كمن يرى إلى سجونٍ متلاصقة، "سجانٌ يمسك سجاناً" (حسب مظفر النواب) متفادياً إسهابا يتقنه خطاب العرب في مواجهة الدبابة الإسرائيلية.
معك حق يا خليل.
لا نندبُ الواقع، ولا ننعي أحداً، فكل شيء جرى بالشكل الذي أرادوه، في معزل عنك وعنّا. لقد ذهبتَ لأنهم لم يكترثوا بأحلامك، وبقينا لأن أحداً لا يكترث بنا. من حقك علينا الإعتراف بحقك في الذهاب عن الحياة، ومن حقنا عليك أن تعترف لنا بنجاتك مما نحن فيه من موتٍ لا يصفه الوصف.
أذكرُ، عندما سمعتُ نبأ ذهابك العاصف، خَطرتْ أمامي صورةٌ لا أنساها أبداً، رأيتُ في موتك فراشةً رقيقةً وقعتْ (بفعل المصادفات الموضوعية) في الطريق تحت جنازير دبابة مندفعة، ولفرط عدم التكافؤ بين الفراشة والدبابة، لم يكن خبر موتك قادراً (في ذلك السياق) على منع الحدث، تماماً مثلما كان الغزو والحصار يغطيان على ذهاب شاعر مثلك، بنى لنا الأحلام ثم وقع ضحيتها في اللحظة نفسها. يقيناً أنك لم تلجأ إلى (الجفت) بوهم صَـدّ الحدث عنا، لكنك أردتَ (على الأقل) منعه عنك.
معك حق يا خليل،
أما نحن فلم نعد في حاجة إلى الإنتحار على طريقتك، ليس لأن ذلك صعب، ولكن لأن الموت يتقدم إلينا بالثقة نفسها التي تقدمتَ بها إليه. ومثلك يعرف أن الموتى لا يقدرون على الإنتحار. فالإنبعاث الحضاري المشرق الذي توقعته لنا، صار يتحقق بجدارة ولكن بالنقيض، نقيضٌ يجعل الماضي مستقبل الناس بلا استثناء. وأصبحَ سُعاةُ الماضي وسَدَنته يجدّون في عملهم (خِفافاً، كما تخيلتَ غيرهم) من أجل تأكيد حقيقة واحدة كل يوم، ألا وهي أن الوهم الكبير الذي سمَّيناه مستقبلاً، لم يكن سوى قبرٍ يَرصدُ من تسوّلُ له نفسه فيصدر عن إيمان بتصديق وهميْ التغيير والتقدم بوصفهما الأمل الماثل والحق الصراح.
لو ترى إلينا الآن يا خليل،
لكنتَ تنظر إلى المشهد مُصاباً بدهشة الطفل لفرط المفارقة التي تميّزه عن المشهد الذي هربت منه، وعن ذاك الذي تخيلته لنا في شعرك. إنّ روح التقدم والتنوير والحضارة ستكون دليلاً لا يقبل النقض على أنّ ثمة شخص ينبغي أن يُزاح، إما بالقتل أو.. بالقتل، وما من خيار أقل موتاً يا خليل.
وإذا تسنى لك وأصغيتَ قليلاً، ستسمع قصصاً تجعل الوليد يهرم، مثل سمكة تنسى عادة العوم بغتة. ولكي نقول لك الحقيقة كاملة، لابد أن تصدق بأنك ذهبتَ (يوم ذهبتَ عنا) في واحدةٍ من أجمل حالاتنا المعنوية، فيومها كان الجيش الإسرائيلي يجتاح لبنان ويحاصر بيروت رداً على جذوةٍ كانت لا تزال تتشبث بنا (لئلا نقول العكس فنخطئ).
يومها كنا نستطيع الشعور بأن العدو كان عدواً واضحاً وصريحاً، نقدر أن ندعوه كذلك ويجوز لنا. أما اليوم فمن يقدر على القول أن لدينا أعداء واضحين، دون أن يكون عرضة للإلتباس والوقوع في الشرك؟
هل دار في خلدك يوماً يا خليل أن يكون المستقبل ضرباً من الشرك ؟!
إذاً، ها نحن الآن أمام الشراك مثل طرائد مرصودة، متاحة في العراء.
معك حق يا خليل،
والذين لا يزالون يعتقدون بالمستقبل، عليهم أن يصدقوا بأنه ليس ثمة مستقبل لنا، ككائنات تعرف وحدها (من بين كل المخلوقات) أنها ستموت. الحيوان لا يعرف، وحده الإنسان يعرف ذلك. غير أن المشكلة تكمن في أننا لا نستطيع تفادي وهم المستقبل حين يراد له أن يحدث. وكلما تفاقمت حياتنا، سيحلو لنا الزعم بأن وسيلتنا للإحتجاج على موتٍ جائرٍ هي موتٌ جِـهارٌ.
ما الفرق،
وها نحن إلى الموت في كل الأحوال. ومعرفتنا ليست ذات قيمة مادمنا لا نستطيع بها تأكيد الحياة وتكريسها في مواجهة الموت. معرفتنا (التي يفترض أنها تميزنا عن بهائم لا تعرف) لم تعد ذات قيمة حياتية، إلا بالقدر الذي يشبع غرورنا، ومن ثم يجعلنا جياعاً في شتى المجالات.
ما الفرق إذاً...؟
ما الفرق بينك (وأنت تعرف دون أن تقدر على تفادي الموت)، وبين الحيوان (وهو لا يعرف أن الموت له بالمرصاد)؟ الحيوان لا ينتحر، لأنه لا يعرف أن الموت هو أحد الحلول المتاحة أمام الكائن. ربما لأنه لا يعرفُ مستقبلاً محدقاً به يتوجب تفاديه بالموت، لذلك فهو يقع في الشرك تباعاً، المرة تلو الأخرى، دون أن يعرف. وها نحن (الذين نعرف) نقع مثله أيضاً وأيضاً، ليستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
معك حق يا خليل،
ولو أنك تأخرتَ قليلاً، لتيقنتَ بنفسك من الأمل الذي صار وهماً. ولتأكدتَ بنفسك بأن المستقبل الذي يتحدثون عنه والذي يحقنوننا به طوال الوقت، لم يكن سوى الماضي المعاصر.
إننا نقف الآن في المستقبل الذي ادخروه لنا خِفيَـةً (وقت كنا نتردد في الجَهْر بأحلامنا خيفةً). هذا هو المستقبل فحسب، وليس ثمة مستقبل على الإطلاق. حتى الذين تَصدّوا مؤخراً للتبرع لنا بمستقبل بديل، اقترحوا علينا أكثرَ الظلامات توغلاً في الماضي، لكي نصدق بأنهم سدنة مستقبل سحيق (وساحق) إلى هذا الحد، حيث يلوّحون لك بحريةٍ ينحرونك بها لاحقاً. الذين يروّجون لماضٍ داهمٍ (يسعون إليه على جثتك)، لكي يكون بديلاً لواقع فضّ، (لا تحبه، وأسوأ أفضاله أنه شرٌ يحاول تفاديك).
هؤلاء (الذين... الذين..)،
يجب ألا يبالغوا أمامنا كثيراً، كي لا تصير المراثي التي نعدّها لخليل مدائحَ نجهشُ بها ونتوشحُ، فنصدّقُ ذهابَه بوصفه احتجاجاً مشروعاً ضد شرعيةٍ تَضعُ حبالها على غاربٍ عدو، يأخذنا أينما أراد. أما الذين خَـفّتْ موازينُهم واضطربت اسطرلاباتهم، نتمنى عليهم أن لا يجعلوا (فيما يزيدون في العسف وتبادل أدوار الفارس والفريسة) من الحق الذي لا يزال، مثل خليل، بديلاً متاحاً ومشروعاً لنا، أفراداً وجماعات، في ظل واقعٍ (يقع على كواهلنا) يفتقر إلى شرعية البيت، ولا يكفّ عن شريعة الغاب.
الحق معك .. الحق معك
هات "الجفت" يا خليل.
|