النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

كلما ماتَ عبد الرحمن المعاودة،
الحرية وطن الشاعر

( 1 )

عن 85 عاماً، توفي الشاعر عبد الرحمن المعاودة.

الآن، سيتذكر أكثر من جيلين (بعضهم سيعرف لأول مرة) أن المعاودة كان شاعراً من البحرين. حيث لم تعد الذكرى (ولا المعرفة) مفيدة أو ذات أهمية للشاعر.

الآن سيبدو ضرباً من الفولكلور أن يكون الشاعر ولد هنا أو نشأ هناك. فالغربة لا مكان لها ولا زمان. وسيكون الكلام عن جنسية الشاعر أو إعلان بطاقته السكانية نوعاً من تبادل أنخابَ مديحٍ ميتٍ أكثرَ موتاً من الفقيد نفسه. وسيبدأ من تلعب بهم شهوة الجغرافيا في الاجتهاد نحو إثبات ما يعتقدون، لكي يواصلوا اللهو بنا من خلال الفقيد. تماماً مثل لعبة الطباشير القوقازية حيث تقتسم الأمهاتُ جسداً حياً في خلافهن على ملكيته، لتنال واحدتهن شلواً ساخناً ملطخاً بالدم.
الفرق هنا، أنهم سيقتسمون جثماناً.

( 2 )

لن نذهب إلى الرثاء.
فعندما يموت شاعرٌ سنصاب بالحرج أنه مات قبلنا (بقليل). وسوف ينتاب الشعراء قاطبة، (الأحياء منهم إذا صح ذلك)، شهوة رثاء الذات. لكن ينبغي أن نذهب إلى ملامسة ما يثيره موت شاعر مثل عبدالرحمن المعاودة في حياتنا. فمن تشغلهم شهوة الجغرافيا، في تجربة هذا الشاعر، سوف يؤكدون ضمور حساسيتهم التاريخية، لأن أهمية تجربة المعاودة تكمن في طبيعتها التاريخية وليس في هويتها الجغرافية.

إن أكثر من إقليم في هذه المنطقة يمكنه أن يزعم انتماء غير شاعر لدائرة نفوسه دون أن يمثل هذا حصراً حاسماً للهوية الإنسانية. وبقدر ما نستطيع في البحرين (الآن) الزعم (تاريخياً) أن طرفة بن العبد شاعرٌ بحريني، سيكون ممكناً الزعم (جغرافياً) أن عبد الرحمن المعاودة هو شاعر بحريني أيضاً. وإذا ذهبنا إلى مزيدٍ من المقاربات (لئلا أقول المفارقات)، فسوف يكون من باب التلفيق ليس إلاّ، كلامنا في مسألة أصول انتماء شعراء مثل خالد الفرج وعبد الجليل الطباطبائي وبن لعبون، (لكي لا نستطرد في ذكر أدباء وشعراء معاصرين أشهرهم غازي عبد الرحمن القصيبي)، إن لم نكترث بالأهمية الحضارية والفنية لشهادة دائرة النفوس والجوازات في هذا الشأن.

( 3 )

لكن من منا لا يتحسس حنجرته وهو يستعرض أسماء أدباء ومثقفين وفنانين في هذه الأقاليم لا يزالون، كلما سألهم العالم عن جنسياتهم، تتلعثم أرواحهم في حناجر تطرح صوتنا جميلاً، وبأحسن ما يكون، على العالم، ويختلج في صدورهم الغبن لعبثية السؤال عن الهوية التي يعيشون (من دونها) طوال الوقت، من غير أن تهتز شعرة واحدة من شوارب مسؤولي دوائر النفوس في دولٍ على شفير ديمقراطية القرن التاسع عشر في مشارف القرن الواحد والعشرين.
(سيقول لي شخصٌ أعرفه : يجب أن تكون النفوس ميتة لنعرف هويتها).

( 4 )

العمق الحضاري هو الذي يتوجب علينا الاعتناء به. فالسؤال الذي يحضر في مثل هذا الموقف، سيتعلق بمفهوم الوطن بالنسبة إلى الشاعر. فعندما يغادر الشاعر مسقط رأسه باحثاً عن مسقط حياته، سوف يضعنا أمام شاعر في الحياة. أما بعد موته، فهو أشبه بالأثير الذي يمكننا مصادفته في أية منطقة في العالم، وفي معزل عن حدود البلدان وقوانين الجوازات والهجرة.

ولكي لا نتورط (بلا خبرة) في رثاء عبد الرحمن المعاودة في الموت، لابد لنا أن نتمرن على رثاء أنفسنا في الحياة. لأن حياة الشاعر هي ما يفسر مفهومه للوطن. وعادة ما يتسع وطن الشاعر، أو يضيق، بناء على طاقة مخيلته. المخيلة التي تقود إلى حرية لا تطالها سلطات الآخرين.

وللذين لا تشكل لهم قراءة التاريخ الحديث أية حساسية، سنقول بأن الفسحة التي يحتاجها الشاعر لقراءة تاريخه (القديم والحديث والمعاصر) لا تقل أهمية وضرورة عن الفسحة التي يحتاجها لكتابة قصيدته. ففي التاريخ سيكمن دوماً، الدرس العميق الذي يتطلبه تأسيس الرؤية الواضحة والمسؤولة، والمرصودة بالمعرفة والوعي لمستقبل هذه الحياة. وما عدا ذلك فإننا سنظل نراكم جراحنا، ونحتقن بالمصائب وبذل التضحيات وهدر الطاقات، لكي نصادف بعد ذلك المزيد من الكوارث التي سنزعم أننا نستحقها، ما دمنا لا نحسن قراءة التاريخ ولا نفهم دروسه ولا نتعظ بسواطع حكمته.

ثم نحاول، مجدداً، البوح (والحنجرة تحت الجزمة) بأن ثمة من يمنع تلك القراءة بالحرية المطلوبة، وأن ثمة من يصادر (حق الدرس) على أجيال كاملة تقرأ شعراً سيبدو لها في شكل نصوص فارغة من تجربة التاريخ وكثافة الروح الحضاري. وخوفي أن في مثل هذه الظاهرة مقتلاً للتاريخ الذي يتوهمون، والجغرافيا التي يحلمون، والإنسان الذي لا هوية له في الشخص والنص.

( 5 )

أخذ الكثيرون على الحركة الأدبية الجديدة في البحرين في الستينات من القرن العشرين، دخولها الأدب، بغالبية تجاربها، من باب السياسة. واعتبر التقليديون ذلك، مثلبة من مثالب الشباب الذين اقترحوا صوتاً جديدا على الواقع الثقافي أوائل الستينيات، محتجين (التقليديون) بزعم أن هؤلاء الشباب كانوا يناضلون بالأدب فيخسرون الأدب والنضال معاً. ويكاد أولئك أن يغفلوا عن أن لمعظم أدباء هذه المنطقة (وثلاثة أرباع البلاد العربية، إضافة إلى ثلثي أدباء العالم)، تاريخاً معروفاً يشي بأن السياسة وهاجس النضال (بوصفهما آلية أداء التغيير) كانا الباب الواسع الذي عبرته تجارب ومواهب أدبية بارزة وهامة ومبدعة، شكلت في نهاية التحليل، (وخصوصاً بعد تجاوزها السياسة كشرط لازم) جزءاً مكوناً لتاريخ الأدب حينما وأينما كانت.

وللذين لا تشكل لهم قراءة التاريخ الحديث أية حساسية جلدية، عليهم أن يستحضروا تجربة عبد الرحمن المعاودة، ويعيدوا تركيب الصورة الواقعية (سياسيا واجتماعياً وأدبياً) التي كان المعاودة يصوغها بشعره وحياته، على صعيد السعي للإصلاح والتنوير الاجتماعي بمفهوم وآليات وأداء الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، ليروا في تلك الصورة، المعنى العفوي لتوق الشاعر لأن يحقق مجتمع العدل والحرية والكرامة، دون أن يتوقف عند مسألة أن تكون هذه الممارسة ضرباً من السياسة، أم تعبيراً إبداعياً، واسع النطاق، عن الإنسان في المطلق، أم نزوعاً قبلياً يمكن أن يقع ضحيته الشاعر والنص معاً بين وقت وآخر.

وللذين يريدون النظر إلى تجربة المعاودة بحجمها ودلالاتها الذاتية والموضوعية، يتوجب أن يتعرفوا على الهاجس النضالي الذي كان حاضرا ومتحكماً في الشاعر، وأقران له (كانوا يحضرون في تفاصيل تلك الصورة باجتهاداتهم الأدبية والاجتماعية والسياسية أيضا)، ويذرعون المسافة، بعفوية البدوي والبحّار وابن القرية، بين القبلية والنزعة الحضارية الموغلة في المدينة.

( 6 )

(هو الماء لكن في لهاثيَ صابُ
سلامٌ عليها ما استطالت بنا النوى
فيا موطناً لو استطيع فديته
ذرعتُ بلاد الله شرقاً ومغرباً
أحبك رغم الحادثات فإنه
  فهل لي للبحرين بعد إيابُ
وما غرنا من ذا الزمان سراب
بروحي، ولو عندي عليه عتاب
فما طاب لي إلا إليه مآب
يلامُ الفتى في صده ويعاب)

ترى، هل كان عبد الرحمن المعاودة سيشتاق لبيته الأول بهذا الشكل الجارح، لو أتيح له (الآن) أن يكتبَ نصاً مكتظاً بتجربة التاريخ، دون أن يخذل المأخوذين بشهوة الجغرافيا، أو يدفع إلى الحرج مَنْ تشكّل لديهم قراءة التاريخ حساسية لا شفاء منها؟

( 7 )

مرة قال الشاعر التركي ناظم حكمت:
(وضع الشاعر في الجنة/ فقال / آه على وطني.)
مرة أخرى سيقول شاعرٌ آخر : (الحرية وطنُ الطائر).
كأني بالشاعر العربي يذهب إلى الحرية .. ميتاً.
وحسب "أبي الطيب المتنبي" فإن الموت ضربٌ من القتل.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى