النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

أسعدي يوسف،
الرشاقة التي لا تحتمل

هذا الشاعر الرفيق، برشاقته التي لا تحتمل. سوف تأسرني دائما قدرته على الإنتقال بين الكلمات والجمل والتجارب، كمن يريد أن يشرد من وضوح الصورة فيما هو يغزل الغموض العميق في الأوزان. هذه هي واحدة من بين أجمل مواهب سعدي يوسف. هذا التفلت الفذ من أسر الوزن ليذهب حراً في الموسيقى.

منذ سنوات طويلة وسعدي لا يكتب قصيدته في حدود الوزن والإيقاع (المألوفين تقنياً) إنما يصوغ نصه في فضاء أكثر رحابة وجمالاً، وهو الفضاء الهارموني الشامل للموسيقى بالمعنى الشعري الأعمق لإيقاع الكتابة الأدبية. وهذا ما سيوقع قارئيه في الارتباك وهو يقودهم عبر التخوم الغامضة (الممحوة برشاقة) بين الشعر والسرد الشعري والنثر، حتى يكاد بعضهم يزعم (دون أن يكون مبالغاً) بأن سعدي بات يكتب خارج الوزن (لئلا أقول قصيدة نثر).

هذه هي موهبة الشاعر، لا أقل، لا أكثر.

الشعراء فقط.. وخصوصاً بعض الشعراء المأخوذين بجماليات الإيقاع في اللغة العربية، يستطيعون اكتشاف هذا السهل الممتنع في بنية أهم نصوص سعدي الشعرية، التي خرج بها من سرب شعري كثيف التجارب، ليصوغ لنفسه نكهة لغوية لن تصلح (كثيرا) لشاعر آخر سواه.

ليس من العدل، لدى الكلام عن تجربة سعدي يوسف، الوقوف (حد التعثر) عند مكابداته السياسية والأيديولوجية، التي لم ينج منها شاعر عربي معاصر بدرجات مختلفة من العذاب. ففي هذا الوقوف خسارة لنعمة اكتشاف الجماليات الشعرية التي سهر عليها سعدي يوسف في صنيع القصيدة العربية الحديثة. أكثر من هذا، سوف أرى بأن ثمة صعوبات بات يواجهها النقد السائد، فيما يرى إلى تجربة سعدي الكثيفة، لفرط التنوع المذهل والاجتهادات المتماهية بالفوضى (الفنية) في شعر هذا الشاعر.

غير أنني سأجد في الكثير من نصوصه الجميلة خروقات ممتعة لا يحققها، بهذه الجرأة، غير شاعر يحسن اجتراح أشكاله لكي يستمتع بما يفعل. سعدي يكتب شعره للمتعة الذاتية بالدرجة الأولى، وهذا شرط آمنت به كثيرا منذ وقت مبكر، فالشاعر الذي لا يستمتع بلحظة الكتابة، ليس من المتوقع أن يمنح قارئ قصيدته المتعة والجمال.

من هنا سيبدو سعدي يوسف، للنظرة العجولة، شاعراً يدخل في حدود الفوضى. وسوف يفوت على صاحب هذه النظرة أن شاعراً مثله أختبر التجارب واختبرته تحولات الحياة والإبداع، لن يصدر، في كتابته، إلا عن ذلك الوعي العميق بالمسؤولية. وهو وعي يتوجب علينا أن نحترمه ونتفهم تركيبه النوعي في سياق الكتابة الشعرية في العالم.

علينا أن نقرأ سعدي، من خلال عمر تجربته، بوصفه طاقة متفجرة (لاتزال) من التوق الحار للحرية. هذا التوق الذي لا يستطيع (أعني لا يريد) نصه أن يتفاداه، حيث سينتقل في نصوصه المتلاحقة، برشاقته الفذة مكتشفا ما يسعف هذا التوق ليظل حرا، متبرما، خارجا، ليس خارج السرب الشعري فحسب، ولكن خارج الأسراب كلها.

كلما التقيت بسعدي يوسف، شعرت أنني في حضرة كائن شعري بامتياز، وأنني معه لا أفتأ أستعيد ثقتي بنفسي قليلا، لفرط الشعور الذي يمنحني إياه هذا الصديق الجسور، بأن ثمة حياة تستحق أن تعاش بشروط الشاعر، بزهده، واستعداده للتخلي عن كل شيء في الحياة في سبيل الشعر. وظني أن الشاعر(وسعدي يوسف نموذجاً ودليلاً) لا يحتاج إلى أكثر من كِسرة خبز وشمس صغيرة وهامش على مقربة من المجرّة.

سأحب هذا الصديق دائماً.

 

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى