الى الصديق أمين صالح
(الخلق وإعادة الخلق)
الكتابة ضربٌ من الصلاة
( 1 )
تعود إلى الكتابة كأنك تضع نفسك في مهب الأسئلة، ليس للأجوبة، لكن للشكّ في يقين توهمته، وللإصغاء إلى الآخر الحميم الذي يجلس هناك منتظراً فهرس أخطائك الفاتن، ينالك وينال منك. ذلك الآخر، وحده (معك) قادرٌ على وضع جمر التجربة تحت إبطيك، وضمك مثل صديق لا يخلعك الا ليصوغ لك القميص الجديد،
وأنت الى الكتابة كأنك الى الله.
( 2 )
من بين تسعة أصدقاء أصدقُ عشرة (*)، حين يزعمون أنهم يرتعشون إذ يجلسون الى الكتابة. أصدق أن ثمة شعوراً بالرعب ينتابهم بينما يرون الى ورقة بيضاء (والأغلب إلى شاشة الكمبيوتر الفاتنة) تفغر رغبتها مثل شغف ضوارٍ لا يرأف.
أصدقهم لأن الكتابة دائماً، على قول آرتو (ضربٌ من الصلاة)؛ تضرع في حضرة من لا يصغي إليك ولا يراك، يحبك فحسب.
ليس سهلاً عليك اليوم الجلوس الى كاتدرائية الكون الهائلة للحديث عن الحياة وأنت عار من حرية الأمل. أملٌ لا يزال قيد التأهيل، ليبدو في هيأة يأسٍ صريحٍ لا مفرّ من الجهر به، لئلا يُقال أننا نبالغ في أملٍ لا يقبل النقد.
ثمة غربة فادحة نتبادل أنخابها مع أشباح تزعم أنها الناس.
تسارع هذا التحول والإنعطاف يجعل الزمن كآلة ضارية يقصر عنها إدراك الفرد بكل طاقاته بينما يرى الى مشهد أكثر هولاً مما يبدو، وأخطر مما تتحمّل أعباءه الكتابة.
( 3 )
أين يتوجب علينا الوقوف كي نرى الى المشهد العام كما يرى إليه الآخرون في العالم، بالوضوح والمعرفة والثقة والإستعداد والجرأة وغيرها من خصال تميّز رؤاهم؟ هل نحن حقاً مستعدون لأن نكون من بين هؤلاء الآخرين الذين وقفوا أمام المستقبل قبلنا بلا تردد أو وجل؟ وهل يمكننا تفادي المستقبل، وحسبنا أننا بشر في كوكب يُعاد تأهيله أيضاً لئلا يصدأ لفرط النظر والانتظار؟
أحب دائماً طرح مثل هذه الأسئلة على نفسي كي أجعل الشك قنديلاً لخطواتي. بغير السؤال ما من أحد يكترث بك، وأنت تضع روحك وجسدك في حضرة الحياة. الحياة أن تتأكد من طاقة الشكّ في أشياء الكون حولك. الحياة أن تذهب الى المستقبل عارياً من معطيات جرّعنا إياها نظام التربية والتعليم وخصوصاً ثقافتنا المستقرة التي أصبحت من مكونات وضعنا الراهن، وهو وضع (راهناً) لا يزال، مذ وعينا عليه، ويستحق منا الآن أن نستعد لإعادة النظر في كثيرٍ من مسلماته بغية استبدالها بما يعيد الى حياتنا حياتها، ويجعلنا أكثر قدرة على إدراك ما يفوت من بين أيدينا، فالحقيقة دائماً هناك، في الضفة الأخرى حيث نظن أنه العدو!
أليس الآخر، في إرثنا الثقافي، هو دائماً العدو ؟
عدوٌ..هو الآن يسبقنا إلى المستقبل، بينما نتعثر نحن في ترف البراثن.
عدوٌ يستحيل علينا الذهاب الى المستقبل .... من دونه.
( 4 )
هل هذا اقتراحٌ استهلاليٌ يليق بالرهبة التي تنتاب الشخص وهو ذاهب الى الكتابة مجدداً، رغبةً في اكتشاف أفقٍ جديد من احتمالات حوار حميم مع الآخر؟ أيضاً، سأصدق عشرة أصدقاء من بين تسعة (*)، يتيحون لي الثقة بما أشكّ فيه، ويمنحون قلبي الاطمئنان للشك في ما أثق به.
إنه القلق سيد الأخلاق.
تبادل الأقداح الفاتن هذا، زاد القاطن والمسافر والغريب.
أحب أن أرى في الكتابة باب النجاة الموارب دائماً، المنتظر أبداً، والأرحب من الحياة على الدوام.
بابٌ هو من أندر ما يحتاجه الشخص في خريطة تتقلص، جديرٌ الآن بجعلها الأفق الرحب، الفسيح بالمعرفية، والمجنّح بالمخيلة الحرة.
|