النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

تعرف القاعدة جيداً،
تكسرها بشكل ممتاز

( 1 )

في غمرة الرجعة (متعددة الأشكال) سوف نصادف من يرجع عن سياق التجديد الذي سبق أن أعلن عنه، ليس في الحياة وحسب، إنما في النص (فكراً وأدباً) أيضاً وخصوصاً. وهي رجعة لا نستغربها، لكننا نشهق مع الجيل الذي يأتي مشحوذاً بالأحلام، مفجوعاً بمن أعلن المستقبل ثم سرعان ما استراح في سقيفة الماضي. نشهق مع جيلٍ يأتي إلينا بلهفة المستغيث فيجد القدح مشحوناً بالرمل.

غير أن هذا ليس المشهد كله...نقول للجيل الجديد.
ففي الحياة ما يغري بالشك في الوهم الذي يسوقونه (على امتداد الجغرافيا والفيزياء) في وصفه الحلم الأوحد الأخير.

غير أن هذا ليس المشهد كله... نقول للجيل الجديد.
فكلما تفاقم التقهقر نحو الأسلاف، تضاعفت ضرورة نقض القواعد من الأساس، من الجذور، من لحظة النص الأول وبلا هوادة. فكل حركة للرجوع عن حيوية المستقبل الماثل، هي بمثابة التكريس الفجّ للقعود عن ورشة الأحلام.

لكي نتميز بيقظة المقاتلين، حيث أنّ هناك دائماً قاعدة ما ينبغي نقضها دونما الإكتراث بالجثث، علينا الكفّ عن الشك في مقدرة الكتابة على وضع النص على طاولة الحياة دون الخضوع لحدودها الخشبية. فلم يزل لدينا من الوقت ما يكفي لكسر القاعدة لحظة الكتابة. نكسرها على طريقتنا، برصانة المعرفة، فأنت حين تعرف القاعدة جيداً، يمكنك أن تكسرها بشكل ممتاز.
هذا هو الدرس الأول...نقول للجيل الجديد.

( 2 )

سيصادف الشاعر الجديد هذه الحقيقة عاجلاً أم آجلاً. وليس ثمة طريقة لتفادي هذا الأمر، إذا كان الشاعر يمتلك موهبته وثقته في الحاجة الشعرية لتجاوز القاعدة. تجاوز القاعدة حق مشروع للمبدع، إذ لن يكون مقبولاً كل من يزعم الشعرَ دون أن يكون كذلك. فالشاعر لكي يكون شاعراً بالفعل، عليه أن يؤكد أنه لا يلعب بنا ( لئلا أقول يلعب علينا).

يأتي الشاعر إلى الكتابة بشهوة وصف الأشياء بالشيء الذي لا يمكن الكلام عنه بغير اللغة، بغير الشعر. وحق الشاعر علينا أن نحسن الإصغاء إليه، لكي يتسنى لنا معرفة اقتراحه الشعري في نصٍ سهرَ عليه الليل كله، وهو نصٌ سيكون مشابهاً للشخص كلما كان الشاعر يصدر عن صدقه الداخلي لحظة الكتابة، وهو صدقٌ لن يخطئ في اكتشافه القارئ الشفيف والناقد الحصيف، وخصوصاً الشاعر القرين. ولن يكون سهلاً على الشاعر، فيما يتعرف على لغته وأدوات تعبيره، أن يرتجل تجاوز القاعدة بحجة الابتكار، دون أن يشي نصه بمعرفة صارمة بخطورة هذا الفعل على الصعيد التقني للتعبير الشعري.

لك الحق في التجاوز... نقول للجيل الجديد.
لكن ينبغي أن يحدث ذلك بجدارة مبدعة. فلن يخدعنا شخصٌ يزعم أنه ينجز نصه الإبداعي على طريقته، دون أن نتأكد أنه أدرك سرَ طريقة الذين سبقوه. ليس بضرورة السفر بمنطادهم، ولكن بمعنى اكتشاف التجربة السابقة كخبرة إنسانية تمنح الشاعر (وهو يضع جسده في مهب الجديد) قوة الحب وجرأة المغامرة من أجل هذا الحب.

( 3 )

الحب والمغامرة إذاً، هما من طبيعة الاتصال بالكتابة الشعرية، فمن دون أن تخترقك شرارة العشق لن تحسن الكتابة عن الحب، (أعني الشعر). والذين يأتون إلى الكتابة بلامبالاة النائم ودون اكتراث بالأحلام (لئلا أقول الاستهانة بها)، سيتحتم عليهم عدم التفاجؤ بالخيبة الكثيفة التي ستصادفهم في المنعطف التالي مباشرة، فليس الحب سوى أن تضع روحك في شغاف الإنخطاف مستسلماً لما لا يقبل أقل منك كاملاً (وأحياناً لن تكون كافياً ولا جديراً) الروح والجسد والأحلام المتوارية خلف النص وقبل المعنى بقليل.

ولكي تكون جديراً بالحب، لابد أن تكون قادراً وجريئاً على المغامرة. وهذا كله لا يتأتى للشاعر إلا بمعرفة أسرار القاعدة التي لعب بها السابقون، وخصوصاً أن هذا الشاعر (الجديد دائماً) سيكون مرشحاً لكسر القاعدة ليتمكن من صياغة نصه بشكلٍ يناسب روحه وجسده وشغفه ومنتهى أحلامه.

لذلك لا يجوز أن يتذمر الشاعر الجديد عندما يسأله الآخرون عما يعرفه عن أصول السابقين، وهو يتنطع لنا بأنه سيخرج عليهم ويبتكر خريطته الجديدة نحو الكنز، خشية أن لا تكون خريطة السابقين كافية كدليل إلى الحجر الكريم المكنوز في الأقاصي.
أقول، لا يجوز له أن يتذمر، فعليه أن يقطع الطريق على السدنةٍ بأسلحتهم المشهرة كلما حاول أن يطرح صوته المختلف وطريقته الغريبة في تجاوز التخوم ونقض القواعد وإعادة صياغة التضاريس وهندسة الطبيعة.

( 4 )

سيقال،
أن من لا يعرف الأبجدية، كيف له أن يحسن الكلام.
وسنقول هذا صحيح.
وسيقال أن من يجهل مزج الألوان كيف يقدر على رسم الشمس في رحلتها الخرافية بين الشرق والغروب،
وسنقول هذا صحيح.
وعندما يقولون أن الشاعر هو من يقنعنا بأنه يحسن القاعدة بشكل جيد، ليكسرها بشكل ممتاز،
سنتأكد أن علينا أن نأخذ هذا الدرس بقوة...
ونقول هذا للجيل الجديد أيضاً.

ونقول أيضاً،
أن هذا درسٌ لا يقتصر على حقل الشعر والأدب والثقافة فحسب، ولكنه يتسع ويزداد رحابة ليسع السياسة والمجتمع والحياة على غير صعيد. ومن لديه أذن فليسمع.
هذه هي التجربة التي تضع الأعضاء الفتية في ورشة الحلم الجديد، مدججين بالموهبة والمعرفة، مؤمنين بأنك حين تعرف القاعدة جيداً، تكسرها بشكل ممتاز...
... نقول للجيل الجديد.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى