السيف والنهر
( 1 )
تقول حكاية صينية قديمة، أن فارساً كان يعبر نهراً في قارب، سقط سيفه في الماء، ولكي يحدد المكان الذي سقط فيه، من أجل استعادته لاحقاً، حفر علامة على طرف القارب، في الجهة التي سقط منها السيف، بينما القارب يمضي راحلاً في النهر.
( 2 )
غالباً ما تكون الحكايات الرمزية في الأساطير قابلة لتأويلاتٍ عدة من وجهات نظر مختلفة. وربما أن أحد أهم أسرار الإبداع التعبيري في الأساطير هي هذه الطاقة المستمرة على الكشف عن الدلائل الغنية. وعبر الزمن تزداد الأسطورة مقدرة على تفجير الخيال لدى الناس.
في سياق معايشة المفاهيم والاجتهادات النقدية التي لا تتوقف، حول الحداثة والتجديد في الشعر العربي، توقفت كثيراً أمام هذه الحكاية الصينية، التي تمتلك طاقة هائلة من الرمز. ورغم تعددية التأويل والتفسير وتعارض زوايا النظر حول هذه الحكاية، إلا أنها تظل في جوهرها البنيوي متصلة بحقيقة واحدة تشكل المحور، وهو ما يمكن أن نسميه (النواة) المركزية في المدلول الفلسفي، وأعني بذلك ارتباط الأسطورة بمسألة (الزمن).
مفهوم الزمن المتحول إذاً هو الذي يعطي الأسطورة طاقتها المتوهجة، أما بقية التفاصيل فتبقى قابلة لأن ترتبط باللحظة التاريخية التي ينتمي إليها الإنسان بعد ذلك. ويستطيع كل إنسان أن يرى في عناصر الأسطورة معادلات تحاكي عناصر إشكاليته الذاتية والموضوعية التي يرى من خلالها إلى إيحاءات الحكاية.
( 3 )
في لحظة ما، شعرت أن هذه الحكاية الأسطورية يمكن أن توجز إشكالية الحداثة على صعيد الشعر العربي، بشيء من التمثل الدرامي، بل أنني رأيت في عناصر الأسطورة معادلات رمزية يمكن النظر إليها على الشكل التالي:
النهر = الشعر
القارب = القصيدة
السيف = اللغة
الفارس = الشاعر
هذه المقاربة الافتراضية تجعلني أرى المسألة بمزيد من الاحتمالات النقدية الموحية. فالشاعر العربي الذي استقرت به القصيدة في شكلها الخليلي / التفعيلي عبر تاريخ طويل من الزمن والتجربة، وصل إلى نوع من التشبع في التركيب اللغوي، كفّت فيه اللغة الشعرية عن النمو. فعندما تتوقف الرؤية الفنية عند حدود معينة من طرق التعامل والمعالجة، لا تقدر القصيدة بعد ذلك على التطور، خاصة إذا وجدت نفسها في إسار قالب فني ثابت يأتي دائماً إلى التجربة الشعرية من خارجها. بمعنى أن الشاعر يظل طوال الوقت يلبي شكلاً بنيوياً معروفاً مسبقاً، وليس أمام اللغة سوى أن تشغل هذا (الفراغ) الموروث يوماً بعد يوم، دون أن يكون للشاعر الحق في القدرة على (الخروج) عن شروط هذا الشكل.
( 4 )
هنا تحديداً تتمثل إشكالية التجربة الشعرية العربية في مواجهة حرية التعبير الفني. فبينما نرى (النهر) الشعر يجري ويتغير، نجد الشاعر (الفارس) جالساً في القصيدة الموروثة (القارب) بشتى بحورها وتفاعيلها، ناظراً إلى نهر الشعر من خلال شروط تلك القصيدة فقط، ليس هذا فحسب، بل أنه لا يقدر أن يرى الشعر في أية تجربة شعرية تطرح مغايرة لقصيدته، كما لو أن جميع المراكب التي تتواكب من حوله ليست جديرة بأن تعبر النهر، وتحمل الفرسان، وتحتفي بالسيوف.
اللغة في الكتابة تظل حية مثل الإنسان، لكن ما أن يعجز هذا عن بلورتها، ويتأخر عن إطلاق طاقاتها المتأججة، حتى تدخل دائرة الإمتثال للتقليد، وإذا رأينا إلى جانبها الإيجابي، فسوف نشبهها بالثمرة في الشجرة، عندما يصل النضوج حده الأقصى، ويغيب من يقطف الثمرة، فإنها سوف تسقط من تلقاء نفسها، وبعد ذلك يكون صاحب الحظ الأجمل، وقرين الخيال والجرأة، هو الذي سيمنح هذه الثمرة (اللغة) فرصة التحول إلى طاقة حياة، إما عبر زراعة جديدة في أرض خصبة، أو عبر غذاء جسد يزدهر.
إن وقوع السيف (اللغة) من يد الفارس يعني أن القصيدة قد كفت عن النمو، وأن اللغة لم تسقط في الفراغ، ولم تذهب بعيداً، إنما هي عادت إلى النهر (الشعر) حيث الحركة الحية القابلة لما لا يقاس من التحول. لقد كان على الشاعر (الفارس) أن يهتم بلغته، ويخرج بها عن قالب التقليد وقيود الإمتثال بدل أن يحفر علامة على خشب القارب ترشده إلى الموقع الأصلي وتكون دليله.
لقد جعل من العلامة قانوناً يطبقه على كل القصائد الأخرى التي يمكن أن يبتكرها خيال من يأتي بعده، كما لو أن النجار الذي صنع ذلك القارب لا يمكن أن يتغير، وليس أمام الفرسان القادمين فرصة للسفر سوى في نفس القارب، في وقت أصبح فيه التغيير يطال النهر.
( 5 )
الحداثة تكمن في هذه الإمكانية المتاحة بلا حدود أمام الشاعر، حيث اللغة في نهر الشعر مادة قابلة دوماً للخلق وإعادة الخلق والتشكل، فكلما وقعت اللغة في يد موهبة قادرة، استطاع الشعر أن يتألق متجدداً، معبراً عن لحظته.
|