النهروان

ما أجملك أيها الذئب

(جائعٌ وتتعفف عن الجثث)
قاسم حداد

جيل الوعول النافرة

ليس الأدبُ انعكاساً للواقع العربي فيما هو يقع وينهار.

ومثلما ظلت المنظومات العربية، طوال تاريخها تحاصر الكائن العربي في حظيرتها القديمة، وتحاول تثبيته في المكان والزمان ذاتهما، إلى أن تعرضت (لفرط السكون) للعطب والتحلل والتفسخ،
انشغلت المنظومات الفكرية والأدبية التقليدية بمقاومة شتى محاولات التجديد في أشكال التعبير الأدبي، وراحت تبتكر الوسائل لحقن الأدب بكل أنواع العقاقير لتحصينه ضد الجديد والمغاير. ورغم فشلها الفادح في هذا المجال، إلا أن هذا لم يمنع الأدب العربي من التخبط في مستنقع آسن من الاجترار والتلفيق وتقليد الجثث.

من يتأمل مشهد الأدب العربي في لحظته الراهنة، يستطيع أن يرى أعمدة الهيكل القديم (برغم تظاهرها بالمكابرة) تتداعى وتترنح تحت وطأة الفوضى الجميلة التي تبعثها الروح الجديدة من التجارب الأدبية الموغلة في التنوع والمأخوذة بالحرية. ومن هذا الركام التقليدي تخرج كوكبة من الوعول المتوحشة، وتضرب أحجار الطرقات وأطراف الجبال، حتى لتتفجر الدماء من تحت أظلافها...

أكثر من جيل من التجارب الجديدة يخرج من الرحم الذي هشّمه مخاض وحشيّ طويل، حتى تكاد الولادة تبدو فتّاكة. مخلوقات فاتنة مفتونة تقتحم المشهد من كل صوب، ليست مكتملة ولا تزعم ذلك ولا تكف عن الحلم، يخالجها الجنون لفرط الحبسة. فقد طال مكوثها في القيد واستطالت بها الوهدة وأوشكت الوعول منها على نسيان طبيعة الحركة والانطلاق في رحابة السهوب، لولا بقية من أملٍ ضاربٍ في الأعماق لا يسطو عليه وهم التقليد ولا أقانيمه.

كيف يكون فناً، ذلك الذي لا يرى في الكتابة إلا ضرباً من محاكاة الأسلاف وتقديسهم؟ أؤلئك الأسلاف الذين سيكون لهم فضل الذهاب المهيب مبكراً (ليس أقل، ليس أكثر). لكن ثمة من يعتقد أن أسلافنا لا يزالون جديرين بالحكم والتحكم في طريقة حياتنا.. نحن الأحياء.
نسي هؤلاء أن الكتابة مثل الوقت .. لا تتوقف .

الآن،
صار للتجارب الجديدة أن تتميز بموهبة عدم الاكتراث بالأصوات التي تضع أمامها ميزان الماضي لتلفيق الحاضر ومحو المستقبل أو تشويهه. لم يعد في الهيكل ما يغري بالوقفة الأخيرة، إلا إذا كان ثمة أمل في إنعاش النعش. ليس أمام التجارب الجديدة (الباحثة عن أفقها) إلا أن تذهب في تجربتها، بموهبة ومعرفة، إلى حدها الأقصى، وربما أن تمنح انهيار الهيكل فرصاً إضافية لانهيار جوهري ومهيب. إذ ستجد حينها في من يتشبث بآثار الهيكل المتداعي ورموزه صورة لاحتضار الماضي أمام المستقبل.

مَنْ يجرؤ، في الفن والأدب، على أن يدافع عن قوانين الماضي (وهو يمضي)، في سبيل مجابهة حرية المستقبل (وهو يأتي)؟ مَنْ يجرؤ على هذا سوى أؤلئك الذين يصدرون عن الإحساس المكبوت بانتمائهم للقديم أكثر من صلتهم بالجديد (وإن كانوا يظهرون العكس ويزعمونه).

الوعول النافرة (كلما طالت حبستها) صار لها أن ترى في منح الهيكل القديم حرية الانهيار موهبة ضرورية، لئلا يقال أننا لا نكترث بحرية الماضي.. في الذهاب. وليكن جيل الوعول إشارة واضحة إلى تجربة تعرف جيداً ما ترفضه، في ما تذهب إلى ما تجهله. فالإبداع (في جانب من عناصر تكوينه) توغل في غموض ما لا يُعرف. لأن المعروف هو ما تم اكتشافه وصار منجزاً وقديماً وتقليداً. وفي هذا العنصر يكمن المقتل الذي لا يقبله سدنة التقليد.. مع رجاء أن لا يقبلوه أبداً.

السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى