الظنّ والمعرفة
( 1 )
ترفع الستارة، يظهر شخصان على الخشبة، كل منهما في ناحية، يحمل أحدهما رسالة في يده. يلتقيان في منتصف الطريق، ويجري بينهما هذا الحوار:
- مكتب البريد في الجهة المقابلة
ـ وما شأن ذلك بي ؟
- العفو، رأيتك وبيدك رسالة، فظننت...
- المسألة ليست مسألة ظن بل مسألة معرفة .
يذهب كل منهما في سبيله، وتسدل الستارة.
في عشرينات القرن العشرين، قدم الشاعر الفرنسي بول ايلوار هذا المشهد (في حفل خاص نظمه الدادائيون) ليرى فيه أحد أشكال الفعل الدادائي.
( 2 )
الآن،
بأي معنى يمكن أن نفهم هذا المشهد ؟ وهل سيظل الفعل الدادائي مجانياً كما أراده أصحابه ؟ أعني هل هو فعل مجاني حقاً كما زعم الدادائيون ؟
الآن،
تتيح لنا التجربة أن نتصل بغير احتمال من احتمالات هذا المشهد. الإلحاح على المعرفة في ذلك المشهد سيدفع بنا إلى الحدود التي تستدعيها القراءة. وكي يفهم القارئ (رسالة) الكاتب ينبغي أن يمتلك المعرفة، لا أن يعتمد على الظن.
الكتابة، أية كتابة جادة إبداعية لابد أن تكون صادرة عن تجربة معرفية. وكي يتسنى للقارئ التواصل مع هذه الكتابة واكتشافها، لا بد له من الإتصال بمعرفة ما. والمعرفة هنا ربما هي وليدة خبرة مباشرة أو غير مباشرة. قراءة النص أيضاً نوع من الخبرة، أي أنها معرفة.
(رسالة) الكاتب ربما لا تتجسد في شكلها الخارجي. الشكل هو نوع من الغواية، إذ ليس لك أن تظن (مثلاً) بأن الكلام عن البحر في قصيدة ما، إشارة مباشرة إلى السفر، فربما كان الشاعر يعني القميص الأخير الذي ترتديه الأرض بعد الطوفان، ذلك القميص الذي يتحول من الزرقة إلى الرمادي؟! إن المعرفة التي هيأت لشاعرٍ ما أن يرى في البحر قميصاً رمادياً، لابد أن تتوفر أيضاً لقارئ ما لا يتميّز بالارتجال، وتتوهج في مخيلته كنوز الخبرة.
الآن،
أما كان على الشخص الآخر أن يتحلى بدرجة من التأمل كيما يتأكد بالمعرفة مما كان يظن؟ هل كان الدادائيون يعنون شيئاً من هذا الاحتمال؟!
المبدع لا يمنح معرفة، لكنه يحظى بها، والاستمتاع بالإبداع يتطلب معرفة ما. المبدع ليس ساذجاً ولا القارىء أيضاً.
كل يوم تحضر في تجربتنا تلك الخروقات المجنونة كأنها تفضح الإستهانة بتجربة الفن.
|