(ما من شعر عظيم دونما عمارة إيقاعية رفيعة،
تحمل قسطاً وافراً من أعباء الإعراب
عن عظمة النصّ الشعري)
صبحي حديدي
هندسة تحريك الجبل
لماذا يشعر الجيل الجديد بوطأة الكوابيس التي تحاصره؟
إن القول بأن هذا الجيل يعيش اليأس، هو نوع من الهروب من حقيقة فاجعة لا يريد الجيل السابق أن يعترف بها. إنه كمن يريد أجوبة على أسئلة لم يجرؤ على طرحها. ليس لليأس من الشعر هذا الجيل. بدليل أنه يتشبث بشهوة الكتابة، والكتابة نوع من مقاومة اليأس ونقضه.
غير أن هذا الجيل يائس من أمور أخرى:
يائس من مُثلٍ ورثها من السلف،
يائس من هزائم مبثوثة في شعارات مبتكرات القمع.
(الشعارات نوع من القمع أيضاً).
يائس من (يمين) لا أملَ فيه، و(يسار) يغدر بالأمل.
يائس من (قبيلة) لا تجد قانونها إلا في الماضي،
يائس من (حزب) يرى في المستقبل نوعاً من التأسيس على محتملات الجثث،
يائس من تاريخٍ يعسف بالجغرافيا
يائس من دمٍ يتفاقم فيه العقم.
هذا جيل يرى في الكتابة، كما في الحياة، فعل حداثة لا تنهض إلا إعادة خلق الواقع. هذا جيل يجرؤ على الجهر بمغايرته للاسلاف، وتجاوز هيكلهم، إذا بطل إصلاحه، وهو يبطل كل يوم. فأنت لا تستطيع أن تؤسس حلماً جديداً على طلل يتهالك، ينبغي إزالة الخراب، الخراب من جذوره، لا لكي ترمم الجثة، بل لكي تدفنها بمهابة الموتى. فثمة ترميم يقوم على تلفيق المشهد وتزوير الشهود.
الذين يقولون بيأس هذا الجيل، يريدون منه أن يأمل في مشاريعهم فحسب. كما إن محاولة إقناع الجيل السابق باستحقاق التجربة الجديدة، ومشروعيتها، ليس سوى جهد ضائع. لابد من الاعتراف باستحالة التواصل بين جيلين يتبادلان أنخاباً مختلفة، إلا إذا كان ذلك مطلوباً كمظهر فولكلوري يستدعيه التقليد العربي السائد.
لنترك الجيل السابق لحرية اعتقاده بيأس الجيل الجديد، ولشهوة استغراقه في ظنه بفوضى الكتابة الجديدة. وعلينا أن نعترف بأن الجيل الجديد لم يعد معنياً بمباركةٍ يمنحه إياها سلفٌ عاقرٌ. لنعترف بأن شرط نجاح التجارب الجديدة، هو خروجها الدائم على قوانين الجيل السابق، لكن بعد معرفتها لتلك القوانين ونقدها وتجاوزها.
فعلُ المغايرة، فناً وفكراً، هو الذي يعطي التجربة الجديدة قدرتها على المضي بعيداً عن الماضي المستمر. لنعلن، ببسالة الوعول، أن الجيل الجديد لا يكتب للجيل السابق ولا عنه، ولا يتوجه إليه بالخطاب أو يخطب عنه. فالجيل الجديد ليس مجبراً على الخضوع لمن يتعامل مع كل جديد من موقف العدو.
الكتابة الجديدة (المكتنزة بطاقة المساءلة) تتوجه لجيل جديد يتكون وينتشر الآن في الغابة العربية مثل نار الهشيم. ويبدو أنّ قدر هذا الجيل أن يحمل عبء العذاب المزدوج مرتين:
- مرة مع (القديم) المهيمن المتحكم في الماضي (أموات يحكمون الأحياء)، في تثاؤب متواصل بلا نوم.
- ومرة مع (الحديث) الذي يحتكر المشهد المعاصر، معتقداً بجدارته وحده دون سواه لمنح الواقع هويته الجديدة.
هذا (الحديث) الذي يطالبنا بالخروج من دائرة الوثن السابق والقبول بوثن حديث وتقديسه. كأنه الخروج من موت جاثم إلى موت حاسم.
لكن،
ثمة في الوعول الحالمة طاقة على تحريك الجبال |