كأن (الأزمة) في مكان آخر غير الشعر
أحب أن أسال أولاً:
لماذا ينبغي أن تكون ثمة أزمة في الشعر العربي؟
لا أجدني منسجماً مع استعمال تعبير (الأزمة) عندما يتصل القول بلحظة الشعر الراهنة.
ربما لأنني لا أرى المشهد والتجربة بالصورة التي يقترحها علينا سؤال الندوة ومصادره.
كلمة "الأزمة" ليست سوى مصطلح في ذهن السؤال أكثر مما هي معطى موضوعي في الواقع، وهي، على الأرجح، معطى لـ :
- موقف محافظ مسبق ،
- مرصود بغياب أو تغييب للفعل النقدي الرصين،
- مروج له بصحافة ثقافية متواضعة الأدوات خفيفة المعرفة تكرّس المصطلحات الخاطئة طوال الوقت.
منذ أكثر من نصف قرن ونحن نتعرض لمفردات ومصطلحات يتم تداولها بآلية مفرطة، وبخفة لا تحتمل، وغالباً ما تفتقر الى دلالات واضحة المعالم أو مكتملة المعنى. ولعل أسطع مثالٍ على ذلك تعبير (الحداثة) الشائع تداوله، والذي لم نتمكن حتى الآن من الاتفاق بشان معناه ودلالته في سياق الثقافة العربية.
وعندما تسارعت التفجرات التعبيرية، في شكل انزياح نوعي ل-مفهوم اللغة الشعرية، يبتكره الشاعر استجابة لمخيلةٍ تتجاوز مألوف المصطلح النقدي السائد، عند ذلك أخذ البعض (ومعظمهم ممن يرفض المعنى الجوهري للحداثة، بمعنى الاتصال بالمستقبل) يكرس وصف اللحظة الراهنة باعتبارها أزمة.
وفي هذا السلوك نزوع نحو التماهي مع التقليد بأقنعة نقدية مختلفة، تصب غالباً في رفض حرية التعبير والخروج عن التخوم المعروفة للقول الأدبي. فعندما نستخدم تعبير (أزمة) كوصفٍ قدحي للتجارب الشعرية الموغلة في التنوع، سوف نجد أنفسنا (بحسن النية وسوئها) في سياق المتحفظ أمام ما تذهب إليه المخيلة الشعرية، ونكون بالتالي ضحية الاندفاعات السلفية التي تحجر الحريات بشتى تجلياتها، وفي مقدمة هذه الحريات حرية التعبير الأدبي.
أقول هذا،
لا لكي أطلقَ حكمَ قيمةٍ على التجارب الشعرية التي نشهد تنوعها وتفاوت درجات الإبداع فيها، لكن لكي أذهبَ إلى فتح الآفاق أمام هذا التنوع والاختلاف، دون أن يخالجني أي قلقٍ سلبي تجاه المشهد الشعري.
لهذا فقط أحبُ أن أتوقفَ أمام تعبير (أزمة) الذي يجري تداوله في السنوات الأخيرة، لتصوير الواقع الشعري كما لو أن الآفاق مسدودة أمام كافة الإجتهادات التعبيرية الجديدة، والتي، شخصياً، لا أجدها، (إذا تميزت بالوعي والموهبة)، تشيرُ الى أفق مسدود في مشروعها الإنساني، هذا المشروع الذي يمثل التعبيرُ الشعريُ أحد أهمَ وأجملَ تجلياته.
***
لكن عند محاولة التعرف على ما يشير إلى (أزمةٍ) ما في المشهد الشعري، لن يكون مفيداً التوقف عند الكلام عن ظواهر السطح العابرة، مثل:
- استسهال الكتابة تحت طائلة الخروج من الوزن الى النثر،
- وغياب حكم القيمة النقدية،
- وخفة ميزان النشر،
- وسيادة نقص المواهب،
- وإشكاليات العلاقة بالقارئ.
فكل هذه الجوانب، برغم أهميتها المحدودة، إلا أنها قضايا نسبية لا تصلح لأن تكون أحكامَ قيمةٍ ولا أسئلة نقد جوهرية تطرح على مجمل التجارب الشعرية، بسبب طبيعتها المتغيرة والقابلة، كما أنها نتائج لتحولات أكثرَ أهمية وعمقاً في المشهد الشعري العربي.
***
على الأرجح أن الأزمة سوف تتمثل دائماً في المستوى الأعمق من المسألة، حيث نتأكد من أن الأزمة ليست في الشعر، وخصوصاً ليست في التجارب الشعرية الجديدة بالذات، ولكن في مكانٍ آخرَ من المشهد الشعري، والأرجح أيضاً أن الأزمة قد بدأت مبكراً في زمانٍ آخر من المشهد نفسه.
***
لقد بدأت الأزمة منذ الصدمة الأولى الناتجة عن التحولات النوعية في مفاهيم الشعرية الجديدة التي انزاحت بالكتابة الشعرية عن المصادر القديمة لمفهوم الشعر في بنية المعرفة الثقافية العربية بالذات، انزاحت في منعطفاتٍ بالغة العمق والدلالة بأشكال يصعب تفاديها.
- فعندما لم يعد الشعر هو (الكلام الموزون المقفى)، (حسب العرب القدماء)، سوف تبطل إمكانية التعامل مع الكتابة الجديدة بأي أدوات وآليات نقدية تحاول ترميم صدمة ذلك الخروج الفادح عن تلك الحدود،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة.
- وعندما تأخذ الذاتُ الشعرية مكانّها الطبيعي والمشروع من تجربة النص بدل الموضوعية (حسب العرب المحدثين)، سيتعذر قبول شروط الواقع بوصفها حكم قيمة شعرية على واقعية الكتابة، ناقضة الإرث الكثيف من تقييد الفن بالحياة،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة.
- وعندما يتحول مفهوم الصورة الشعرية من كونها (تجسيداً للمجرد) حسب النقد الشعري القديم، إلى تجريد لا متناهي المخيلة، بوصفه حقلاً مفتوحاً لحريات الخلق الفني، ليصبح فنُ ابتكار الصور قيمةً شعريةً حرة تأخذ مكان الحدود القديمة لشرط الشعر،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة.
- وعندما يعاد النظر في منطقية الدلالة ويبدأ تبادل الأدوار البالغ النشاط بين الدال والمدلول، لن يسعفنا التفسير لشرح ما يحدث من تسارع المبادرات الشخصية التي يحققها الشاعر في قصيدته، فيما يعتمد فن النقائض في علاقته الكونية بأشياء العالم، مقترحاً اللعب خارج النص،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة
- عندما يقترح جيل التحديث الشعري في الخمسينيات والستينيات إلحاداً غير معلن بالتقليد الموروث، ثم تأتي أجيال التجديد اللاحقة وتجهر بإلحادها الفني بالإرثين القديم والحديث معاً ودفعة واحدة، معلنة، في أكثر تجاربها موهبة ورصانة، حقها الكوني في البحث الحر عن لغتها وأشكال تعبيرها، متفادية شرط المستقرات والثوابت الفنية والثقافية كما لو أنها أيديولوجية دينية ومتعاليات مقدسة،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة.
- وعندما يتفاقم الإخفاق النقدي الحديث وهو يكرر استعانته بشتى مدارس النقد الغربي (من الشكلانية الروسية، والنقد الجديد، والبنيوية والتفكيكية..) محاولاً مجاراة تسارع الابتكار في شعرية الكتابة العربية الجديدة، لأنه، على الأرجح، كان يفعل كل ذلك دون أن يدرك أهمية أن يطرح أسئلته على النصوص الشعرية العربية، قبل الاستعانة بجاهزية الأجوبة الغربية، مما سيجعل ذلك النقد يقف في هامش النص، عند هذا ستكون الأزمة في المكان الآخر من المشهد الشعري، وهو الطرح النقدي الذي يتحرك ناظراً إلى التجربة الشعرية من خارجها،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة،
- وعندما تظل مناهج الدرس (في كل مراحل التعليم) مخلصة لمفاهيم النقد الشعري القديم، متحصنة ضد كل المحاولات الفردية التي تقترح الصنيع الشعري الجديد على بنية الأجيال الجديدة، سيتحول ذلك، بآلية بالغة الفداحة، إلى تراكم هائل من قراء (إذا قرأوا) يعتبرون الشعر (غير الموزون واللا مقفى) هو بمثابة الخطيئة التي بتوجب تفاديها،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة
- وعندما تتفاقم الأصولية الثقافية في المجتمع العربي، لتسفر عن سلوك إقصاء عنيفٍ لكافة أشكال التعددية، ستكون فكرة المغايرة والاختلاف في أساليب الكتابة والتعبير الفني أحد أهم العناصر الصادمة لبنية القبول، وتستدعي قانوناً يكرس الارتهان الاجتماعي لفكرة النموذج الواحد، وأن كلَ تعددٍ هو خروجٌ صادمٌ يغذي الكلام عن أزمة في الشعر وليس في المجتمع،
سوف تبدأ الأزمة من تلك اللحظة.
الورقة المقدمة لندوة الشعر العربي الحديث -الكويت - ديسمبر 2005.
|